حمل المصحف بكل الصيغ

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد  

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

تاريخ الاسلام للذهبي

تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام 

الثلاثاء، 5 أبريل 2022

شرح الموقظة في علم المصطلح للشيخ عبدالله السعد

 

شرح الموقظة في علم المصطلح للشيخ عبدالله السعد

وهو عبارة عن محاضرات قام بتفريغها الأخ أبو المهاجر المصري من موقع طريق الإسلام

وأضاف إليها من بعض المحاضرات المسموعة ، كشرح الحويني حفظه الله لنفس الكتاب ، وسلسلة مناهج المحدثين للشيخ الحميد حفظه الله ، وسلسلة شروح الكتب الستة للشيخ الخضير حفظه الله ، ومحاضرات الشيخ طارق بن عوض الله حفظه الله لألفية السيوطي ، وبعض المراجع المتوفرة عنده ، والتي أشار إليها عند النقل منها

 

علم المصطلح : هو عبارة عن قواعد يعرف بها حال الراوي (أي السند) والمروي (أي المتن) .

وروى الخطيب   في الكفاية من طريق محمد بن يسار  عن قتادة  : (لا يحمل هذا الخبر عن طالح عن صالح أو صالح عن طالح ، وإنما هو صالح عن صالح) .

ونقل الخطيب  أيضا تعريف محمد بن يحيى الذهلي حيث قال  : لا يحتج بالخبر حتى يكون موصولا ، ولا يكون في اسناده مجروح أو مجهول وبمثله عرفه ابنه يحيى  .

وذكر الشافعي في كتابه الرسالة شروط الراوي الحجة وهي : أن يكون عدلا ، صادقا ، عاقلا لما يحدث به ، عالما بما يحيل المعاني لو حدث بالمعنى ، وأن يكون حافظا ، وألا يكون مدلسا وأن تكون هذه الشروط في كل رجال السند حتى الصحابي . وعلق البيهقي في مقدمة كتابه معرفة السنن والآثار : ما ذكره الشافعي  في تعريف الخبر المحتج به هو محل اتفاق أهل العلم (ويقصد  أهل الحديث) .

تعريف الحافظ الذهبي  : وهو المذكور في الموقظة ، حيث قال  : هو ما دَارَ على عَدْلً مُتْقِنٍ واتَّصَل سَنَدُه . فإن كان مُرسَلاً ففي الاحتجاج به اختلاف ، وزاد أهلُ الحديث : سلامتَهُ من الشذوذِ والعِلَّة . وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء  ، فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها فالمجُمْعُ على صِحَّتِه إذاً : المتصلُ السالمُ من الشذوذِ والعِلَّة ، وأنْ يكون رُواتُه ذوي ضَبْطٍ وعدالةٍ وعدمِ تدليس .

التعليق على تعريف الذهبي  :

 يشير الذهبي  في تعريفه ، إلى الخلاف الشهير بين المحدثين والفقهاء ، في مسألة اشتراط عدم الشذوذ والعلة ، فقد انعكس رأي أكثر الفقهاء والأصوليين وبعض أهل الحديث ، (كما يحكى ذلك عن الخطيب البغدادي ) ، بقبول زيادة الثقة مطلقا على تعريف الصحيح ، فلم يبق لمن قبل هذه الزيادة مطلقا ، حجة في اشتراط عدم الشذوذ والعلة ، وهذا ما أكد عليه الحافظ  ، حيث تعجب ممن قبل زيادة الثقة مطلقا ، ومع ذلك اشترط عدم الشذوذ ، فكيف يتأتى ذلك ؟ ، والجواب أنه لا سبيل إلى ذلك أبدا ، لأن قبول زيادة الثقة مطلقا يتضمن قبولها وإن خالف راويها الثقات ، وهذه هي الزيادة الشاذة التي يلزم أصحاب هذا الرأي قبولها ، رغم شذوذها ، ومع ذلك نراهم يشترطون عدم الشذوذ ، فكيف يمكن الجمع بين هذين النقيضين ؟!! 

تعريف ابن خزيمة  للخبر الصحيح (وقد ذكره في مقدمة كتابه) : هو نقل العدل عن العدل بلا قطع في الإسناد ولا جرح في رواة الأخبار .

وقد قسم الخليلي  في كتابه الذي ألفه على الأمصار الحديث الصحيح إلى ثلاثة أقسام :

الصحيح المتفق على صحته : وقد عرفه الخليلي  بذكر مثال له ، وهو ما يرويه ابن أبي ذئب  أو ابن جريج  عن نافع   عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ويكون الإسناد إلى ابن أبي ذئب أو ابن جريج  من الثقات الحفاظ .

الصحيح المعلول : وهو أن يروى الحديث مرسلا من جماعة ويسنده واحد ، فهذا يكون صحيحا ولا يضره من أرسله .

المختلف فيه .

وقسم الحاكم  في المدخل إلى الإكليل وفي معرفة علوم الحديث الحديث الصحيح إلى عشرة أقسام : خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها وهي :

أولا : المتفق عليها :

اختيار البخاري ومسلم  وهو الدرجة الأولى من الصحيح ، وهو أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم له راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من أتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك ، وقال  : والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث .

مثل الأول إلا أن راويه من الصحابة ليس له إلا راو واحد كحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه في الوقوف بعرفة ، حيث تفرد به عنه عامر الشعبي  . وجدير بالذكر أن عروة بن مضرس رضي الله عنه لم يرو عنه إلا الشعبي  (الباعث الحثيث ص290 ، طبعة مكتبة السنة) .

مثل الأول إلا أن راويه من التابعين ليس له إلا راو واحد كعبد الرحمن بن فروخ ومحمد بن حنين  ، حيث لم يرو عنهما إلا عمرو بن دينار  .

الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول ، كزيادة أيمن بن نابل  عن أبي الزبير  عن جابر رضي الله عنه ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتتح التحيات بالبسملة ، وقد عدها الحاكم  من الصحيح المتفق عليه رغم أن الحفاظ أنكروها على أيمن  .

أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم إلا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده ، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، وإياس بن معاوية عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابيون وأحفادهم ثقات . وقد رجح الشيخ حفظه الله سلسلة بهز  (وقد علق البخاري  منها واحدا وأخرج أصحاب السنن منها 18حديثا) على سلسلة عمرو بن شعيب  رغم أنها أشهر وقد ذكر الشيخ حفظه الله ملاحظتين حول هاتين السلسلتين :

أن سلسلة بهز  لا يكاد يعرف منها حديث منكر والشيخ حفظه الله يقول بأنه لا يعرف في أحاديثها حديثا منكرا .

أن الحاكم  عد سلسلة عمرو بن شعيب  من الصحيح المتفق عليه رغم وجود الخلاف في ذلك ، وإن كان جمهور أهل العلم على قبولها ، واعتبارها من الحديث الحسن ، وقد وجد فيها ما استنكره الحفاظ كحديث أبي موسى بن أبي عائشة في الوضوء ثلاثا وفيه : (فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وأساء وظلم) فقد أنكر مسلم  زيادة (نقص) .

 

ثم ذكر الحاكم  الأنواع المختلف فيها وهي المرسل (فبعض أهل العلم يحتج به كمالك وأبي حنيفة  وبعضهم لا يحتج به) ، وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعا ، وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات ، وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين ، وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين .

 

تعريف ابن الصلاح  :     

رواية الثقة عن مثله من أول السند إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، وهذا التعريف يوافق ما اشترطه المحدثون من انتفاء العلة والشذوذ .

وممن اشترط العدد في رواة الصحيح أبو المعالي الجويني  حيث ذكر أن الخبر لا يكون صحيحا إلا إذا روا اثنان عن اثنين ، وكذا اشترط العدد بعض المبتدعة مثل إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي (ابن المحدث المشهور إسماعيل بن علية  ) ، حيث اشترط الإثنين وكذا الجبائي من المعتزلة الذي اشترط الراويين أو أن يعضد الخبر بظاهر القرآن أو ظاهر خبر آحاد آخر أو يكون معناه منتشرا بين الصحابة ، واشترط الجاحظ الأربعة .

 

الخبر الثابت : الخبر الثابت يشمل الصحيح والحسن ، والخبر الثابت هو الخبر المقبول ، وعلى هذا فمن الضروري أن يستجمع الخبر ، على الأقل أدنى شروط الصحة ، ليحكم بقبوله ، خلاف السيوطي  الذي ادعى في شرحه على ألفيته ، المسمى بـ (البحر الذي زخر) ، أن الحديث المقبول هو : ما تلقاه العلماء بالقبول ، وإن لم يكن له إسناد صحيح ، أو وافق آية من القرآن ، أو بعض أصول الشريعة ، أو اشتهر عند أئمة الحديث من غير نكير منهم ، ويعلق الشيخ عمرو عبد المنعم حفظه الله في تعليقه على شرح النخبة ، على كلام السيوطي  بقوله : هذا النوع من القبول لا يعد بأي حال من الأحوال تصحيحا للحديث ، وإنما هو إجماع من أهل العلم ، أو اتفاقهم ، على حكم شرعي لم يرد فيه نص صريح صحيح من السنة ، وإنما روي فيه خبر ، أو أخبار ضعيفة ، فوافق معناه ما اتفقوا عليه ، فصار العمل به لإجماعهم على ذات الأمر ، الذي وافقه معنى الخبر ، وليس لأنهم تلقوه بالقبول كما ادعى السيوطي  .

ومن ذلك : قول الشافعي  : وما قلت ، يعني في تنجيس الماء بحلول النجاسة فيه من أنه إذا تغير طعمه أو ريحه أو لونه ، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله ، لكنه قول العامة لا أعلم بينهم خلافا .    

 

والصحيح يشمل :

ما اجتمعت فيه أعلى شروط الصحة (وهو يشمل غالب أحاديث الصحيحين) .

ما اجتمعت فيه أدنى درجات الصحة ، وهذا هو صنيع المتقدمين  ، الذين أدخلوا الحسن كقسم من الصحيح المقبول ، وإن كان تمكنه من شروط الصحة أدنى من تمكن الصحيح الذي اصطلح عليه بعد ذلك ، كما نبه إلى ذلك الشيخ طارق عوض الله حفظه الله ، وفي صحيح البخاري  أحاديث قليلة من هذا النوع ، حتى أن الترمذي  سئل البخاري  في العلل الكبير عن أحاديث خرجها في صحيحه وحكم  عليها الترمذي  بالحسن ، وفي صحيح مسلم أحاديث أكثر من هذا النوع (وهي وإن نزلت عن درجة الصحة العليا التي اشترطها الشيخان ، إلا أن هذا لا يقدح في صحتها وثبوتها ، وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان  من هذا النوع أحاديث أكثر وأكثر) ومن الأمثلة على هذا القسم ما جاء في صحيح البخاري  من طريق أبي بن العباس بن سهل بن سعد  عن أبيه عن جده : أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم فرس يسمى اللحيف وفي رواية اللخيف بالمعجمة  ، وأبي بن العباس  فيه بعض الضعف فحديثه لا يصل إلى درجة الصحة ولكنه مقبول ، فقد استجمع هذا الحديث أدنى شروط الصحة .

 

الخبر الثابت :

شروطه :

شروط المتن :

أن يكون المتن مستقيما ، بمعنى ألا يخالف نصا من القرآن أو السنة الثابتة ، وألا يخالف ما دل عليه العقل السليم ، وأن يشبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويؤكد الشيخ حفظه الله على اهتمام المتقدمين بمسألة استقامة المتن خلاف المتأخرين ومن أهم الأمثلة على ذلك :

حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : (إن هذه الأمة أمة مرحومة جعل عذابها في الدنيا) ، فقد قال البخاري  في التاريخ الكبير : أحاديث الشفاعة أكثر وأكبر ، وفيها تعذيب لعصاة الموحدين ، وهي أحاديث متواترة ، فخالف هذا الحديث أحاديث ثابتة متواترة وهذا بلا شك علة قادحة في متنه .

حديث : (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، فقد جاء هذا الحديث من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وهو طريق احتج به مسلم وروى صحيفة كاملة عن العلاء  عن أبيه ، ومع ذلك أعرض  عن هذا الحديث ولم يخرجه لأنه مخالف لأحاديث أقوى منه ، مثل ما أخرجه البخاري  من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة  : (لا تقدموا صيام رمضان بيوم أو يومين) ، وكذا ما جاء عن عائشة رضي الله عنها عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان ، وقد زاد ابن رجب  الأمر وضوحا في لطائف المعارف فقال  : (اختلف العلماء في صحة هذا الحديث . ثم العمل به ، فأما تصحيحه فقد صححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر  ، (وإن كان الطحاوي  قد نقل الإتفاق على عدم العمل به) ، وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا : هو حديث منكر ، منهم عبد الرحمن بن مهدي ، والإمام أحمد ، وأبوزرعة الرازي والأثرم ) ، وقد جمع الشافعي  بين الدليلين  ، بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن الصيام بعد انتصاف شعبان ، هو في حق من لم تكن له عادة في الصيام قبل النصف الثاني من شعبان ، فلما انتصف شعبان أخذ في الصيام دون سابق عادة منه ، وأما الحديث الثاني فهو موجه إلى طائفة لها عادة الصيام قبل ذلك ، فهذه لا حرج في صيامها بعد انتصاف شعبان إلى ما قبر رمضان بيوم أو يومين .

حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها ، عند عبد الرزاق والحاكم  ، أنها حضرت زواج فاطمة رضي الله عنها فبصر بها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها : (جئت في زواج ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟) فقالت : نعم ، فدعا لها صلى الله عليه وسلم ، فقد استنكر الذهبي  هذا الحديث لأن فاطمة رضي الله عنها تزوجت في السنة الثانية من الهجرة ، وكانت أسماء حينئذ في الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولم ترجع إلا في السنة السابعة من الهجرة ، واعتذر الذهبي  عن هذا بقوله : لعلها أختها سلمى .

ما جاء عند الطبراني  في الأوسط وأبي نعيم في الحلية من حديث حسان بن إبراهيم الكرماني عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يأتيه بماء من مطاهر المسلمين يرجو بركة أيديهم ، فهذا المتن معلول بمخالفته لما عليه جمهور أهل العلم  من عدم جواز التبرك بآثار أحد من البشر خلاف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكيف يتبرك صلى الله عليه وسلم بمن هو دونه ، ولم ينقل عن كبار الصحابة رضي الله عنهم خبر ثابت في تبركهم بآثاره صلى الله عليه وسلم مع مشروعية ذلك ، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يتبركون ببعضهم البعض ونقل الشاطبي  الإجماع على ذلك ، على أن للحديث علة أخرى في اسناده ، وهي أنه جاء من طريق وكيع وخلاد بن يحيى وعبد الرزاق  عن عبد العزيز بن أبي رواد  عن محمد بن واسع معضلا (فقد خالف حسان بن إبراهيم الكرماني  جماعة من الثقات في وصل الحديث الذي أعضلوه) ، ولم يذكروا هذا اللفظ ، وإنما ذكروا لفظ : (مما وقعت به أيدي المسلمين) ، لما سأله الصحابة رضي الله عنهم عن أحب الوضوء إليه صلى الله عليه وسلم ، ويؤيد هذا حديث العباس رضي الله عنه لما أراد أن يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بماء لم تتناوله أيدي الناس ليشرب منه فقال صلى الله عليه وسلم : (اسقوني مما تسقون منه الناس) ، ولا يفوتنا هنا أن نذكر كلام الشيخ حفظه الله في عبد العزيز بن أبي رواد  (والذي ذكره في موطن آخر) ، حيث قال عنه بأنه صدوق خفيف الضبط ، وقد أثنى أحمد  على دينه وصدقه ، وهو  قليل الرواية ، وكثير مما رواه لا يصح الإسناد فيه إليه وبعض أحاديثه صحيحة (5 تقريبا) ، وقد أخطأ  في (5 أو 6) ولا شك أن هذا الحديث منها .

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم  أن الله عز وجل خلق التربة يوم السبت … الحديث ، فقد أنكر البخاري وابن المديني والبيهقي وشيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث لأن هذا المتن يدل على أن الله عز وجل خلق الأرض في ستة أيام ، وهذا يخالف النص القرآني الذي يدل على أن أن الله عز وجل خلق الأرض في يومين ، وذهبوا إلى أنه موقوف على كعب الأحبار رضي الله عنه ، بينما ذهب ابن الجوزي وابن الأنباري والألباني إلى صحة الحديث وأجابوا عن ذلك بأن الأيام تختلف ودليل ذلك في القرآن والسنة ، ففي القرآن ، قوله تعالى : (إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) ، وفي الحديث أن الناس يقفون في أرض المحشر خمسين ألف سنة قبل أن يأذن الله عز وجل ببدء الحساب ، ولمزيد من البيان يراجع : قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص124 ، طبعة دار عمار بتحقيق هاني الحاج) ، ومجموع الفتاوى (17/235) ، والتاريخ الكبير (1/413_414) ، وتفسير ابن كثير عند تفسير آية 54 من سورة الأعراف ، والآيات 9 : 12 من سورة فصلت .  

حديث شعبة  عن أبي فراس  عن الشعبي  عن أبي بردة  عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا : (ثلاثة لا يقبل الله منهم دعاء ، وذكر منهم ورجل تحته إمرأة سيئة الخلق ولم يطلقها) ، فهذا الحديث معلول من جهتين :

من جهة متنه ، حيث أنه مخالف لحديث الشعبي  عن أبي بردة  عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا : (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ، رجل كانت عنده جارية …) الحديث ، وهذا هو اللفظ الصحيح .

من جهة إسناده ، حيث أنه معل بالوقف لأن أغلب أصحاب شعبة  رووه موقوفا .

حديث مخرمة   عن أبيه عن أبي بردة  عن أبي موسى رضي الله عنه في ساعة الإجابة يوم الجمعة وأنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة ، والصحيح أن هذا الحديث موقوف على أبي بردة  (أي مقطوع) فهو معل بالوقف على أبي بردة رضي الله عنه ، وهذا الحديث من الأحاديث التي انتقدها الدارقطني  على مسلم  . وقد ذكر الشيخ سيد سابق  أن هذا الحديث معلول بالإضطراب والإنقطاع ، (فقه السنة 1/215) طبعة مكتبة دار التراث ، ويؤكد الشيخ حفظه الله في نهاية هذا المبحث المهم على أن علة المتن تكون مرتبطة غالبا بعلة الإسناد ، فإذا وجدنا المتن مستنكرا ، فلننظر في السند فغالبا ما يكون هو الآخر معلا .

 وهذا المبحث من الأهمية بما كان لأنه يرد على التهمة الجائرة التي وجهها المستشرقون وأذنابهم من المستغربين من أبناء المسلمين إلى أئمة الحديث بأنهم لم يهتموا إلا بنقد الأسانيد ، دون إلتفات إلى نقد المتون ، فكأنهم يقولون بأن رجالكم نقلوا لنا أحاديث مسندة بفلان عن فلان دون فقه أو معرفة بالنصوص ، وممن تصدى لهذه التهمة الجائرة ، الدكتور / الحسين شواط في كتابه "حجية السنة" ، حيث أفرد لها مبحثا كاملا ، تحت عنوان "مناقشة الشبهات المتعلقة بحجية السنة" ، حيث بين أن معايير نقد الإسناد عند المحدثين ستة إجمالا ، وهي : اتصال السند ، وعدالة الرواة ، وضبط الرواة ، والسلامة من الشذوذ ، والسلامة من العلة القادحة ، ووجود العاضد عند الإحتياج إليه .

وأما معايير نقد المتن فهي أكثر من خمسة عشر منها :

عدم مخالفة القرآن ، عدم مخالفة محكم السنة ، عدم مخالفة الإجماع المستقر ، عدم مخالفة المعلوم من الدين بالضرورة ، عدم مخالفة العقل الصريح ، عدم مخالفة الحس الصحيح ، عدم مخالفة حقائق التاريخ الثابتة ، أن لا يكون الحديث ركيك اللفظ ، أن لا يخالف القواعد العامة في الحكم والأخلاق ، أن لا يخالف البدهي في الطب والحكمة ، أن لا يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع ، أن لا يشتمل على سخافات يتنزه عنها العقلاء فضلا عن الأنبياء ، أن لا يوافق مذهب الراوي الداعي إلى بدعته ، أن لايخبر عن أمر في حضور عدد عظيم من الناس ثم ينفرد به واحد ، أن لا يشتمل عل إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير ، ألا يبالغ في الوعيد الشديد على الخطأ الحقير .

 

 

شروط الإسناد :

أن يكون راوي الخبر ثقة يحتج به ، (أي أن تتوفر فيه عدالة الدين ، وأن يكون ضابطا حافظا) ، بمعنى أن يكون صوابه أكثر من خطئه ووهمه ، فيكون الأصل الإحتجاج به حتى يدل الدليل على خطئه أو وهمه ، وإن كان الراوي صاحب كتاب ، فإنه يشترط أن يكون كتابه مضبوطا ، بمعنى أن يصونه من إدخال ما ليس منه فيه ، وألا يعيره لأحد ، ولذلك كانوا يبخلون عن إعارة كتبهم ، وعدمُ إعارتهم للكتاب كان يعد مدحاً فيهم ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

قال الإمام أحمد : قال أبو قطن (عمرو بن الهيثم) - وكان ثبتاً -: "ما أعرت كتابي أحداً قط"

وقال علي بن قادم : سمعت سفيان يقول : "لا تُعِرْ أحداً كتاباً" ، وقال الربيع بن سليمان : كتب إليّ البويطي: "احفظ كتبك ، فإنه إن ذهب لك كتاب لم تجد مثله" .

وكان بعض ضعاف النفوس يُدخل في كتب الناس أحاديث ليست من أحاديثهم ، منهم :

حبيب بن أبي حبيب أبو محمد المصري وقيل المدني كاتب مالك ، قال ابن حبان :كان يورّق بالمدينة على الشيوخ ، ويروي عن الثقات الموضوعات ، كان يدخل عليهم ما ليس من حديثهم ، وسماع ابن بكير وقتيبة كان بعَرْض ابن أبي حبيب ، ذكره الذهبي في "الميزان" ، وممن نبه على ذلك ابن حبان  في مقدمة كتابه "المجروحين" ، حيث قال : ((وجماعة من أهل المدينة امتحنوا حبيب بن أبي حبيب الورّاق ، كان يُدْخل عليهم الحديث ، فمن سمع بقراءته عليهم فسماعه لا شيء .

كذلك كان عبدالله بن ربيعة القدامي بالمصيصة ، كان له ابن سوء يُدخل عليه الحديث عن مالك وإبراهيم بن سعد وذويهم .

وكان منهم سفيان بن وكيع بن الجرّاح – وكان له وراق يقال له: (قرطمة) ، يدخل عليه الحديث في جماعة مثل هؤلاء ، ويكثر عددهم .

وكقيس بن الربيع  الذي أدخل ابنه في حديثه ما ليس منه : كما ذكر ذلك ابن نمير  ، حيث قال : كان له ابنٌ هو آفته ، نظر أصحاب الحديث في كُتبه فأنكروا حديثه، وظنوا أن ابنه قد غيّرها .

وكعبد الله بن صالح  كاتب الليث  حيث حيث أدخل جاره في حديثه ما ليس منه ، ولذا ذكره العقيلي  في الضعفاء .

والثقات على درجات :

المشهورون بالرواية وهم الحفاظ العدول .

الحافظ الضابط مجروح العدالة من جهة تلبسه ببدعة من البدع مع كونه صدوقا في نفسه ، وقد نقل الحاكم  في الإكليل ، أن العمل على قبول رواية هؤلاء هو المعتمد عند أهل العلم .

الرواة الغير مشهورين الذين رووا أخبار مستقيمة ودلت الأدلة والقرائن على قبول أخبارهم ، وهذا القسم قد يعبر عنه بعض العلماء (بالمجهولين) ، وقد توسع الذهبي  في الكلام على هذا القسم كما سيأتي إن شاء الله .

 

2.  ويشترط أن يكون حال الرواة من حيث التوثيق في كل طبقات السند .             

3.  اتصال السند .

4.  ألا يكون الحديث شاذا أو معللا ، وسيأتي الكلام على هذا بالتفصيل إن شاء الله .

 

والملاحظ من صنيع المتقدمين  ، أن الحديث إما صحيح وإما ضعيف ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ، في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ، حيث قال : "ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين : صحيح ، وضعيف . والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به ، وإلى ضعيف حسن ، كما أن ضعف الإنسان بالمرض بنقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك ، ومثل أحمد للحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما . اهـ ، ولم يشتهر لفظ الحسن في عصرهم حتى ذكره الترمذي في جامعه ، وإن كان هذا اللفظ قد ورد في كلام بعض المتقدمين على الترمذي ، كشيخه البخاري  وشيخ شيخه علي بن المديني  ، الذي قيل بأنه أول من استخدم هذا اللفظ وإن كان استخدامه له لم يكن بمعناه الإصطلاحي الذي تقرر بعد ذلك في علم المصطلح .

 

الصحيح لغيره :

 وهو الحديث الذي ورد من أكثر من طريق ، كل طريق منها حسن لذاته ، فارتقى إلى منزلة الصحيح بتعدد طرقه ، وأما اجتماع أسانيد متعددة لا تصل إلى درجة الحسن لذاته فهذا هو الحسن لغيره والصواب أن ما غلب على الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاله فهو صحيح سواء كان لذاته أو باجتماع عدة أسانيد حسنة لغيرها أو لذاتها ، وجدير بالذكر أن الشيخ مقبل بن هادي  قد أيد هذا الرأي فقال ردا على سؤال بالنسبة للحديث الضعيف إذا كان الضعف راجعًا إلى سوء الحفظ ، وتكون له طرق كثيرة فهل يرتقي إلى الصحيح لغيره ؟ : نعم ، إذا لم يشتد ضعفه ، فيمكن أن يرتقي إلى الحسن لغيره ، وإلى الصحيح لغيره إذا جاء من نحو سبع طرق أوست ، سيء الحفظ مع سيء الحفظ مع سيء الحفظ ، ولكن بشرط ألا يكون ذلك الذي قيل فيه سيء الحفظ قد خالف ، أو ذكر هذا الحديث في ترجمته في "الكامل" لابن عدي ، "ميزان الإعتدال" ، أو "لسان الميزان" أو في كتب العلل على أنه حديث منكر ، فمثل هذه الطريق لا تصلح في الشواهد والمتابعات لأنه إذا خالف الثقات المتكاثرين فحديثه منكر والمنكر لا يصلح في الشواهد والمتابعات ، فلا بد من اعتبار هذه الشروط. والله المستعان . المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح س184 . ومن الأمثلة التي توضح هذا :

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ابتع علينا إبلا بقلائص من قلائص الصدقة إلى محلها) ، فكان يأخذ البعير بالبعيرين والثلاثة ، فقد رواه أحمد  من طريق محمد بن إسحاق ورواه البيهقي من طريق عمرو بن شعيب وكل واحد من الطريقين بانفراده حسن (فحديث محمد بن إسحاق وعمرو بن شعيب  حسن) ، فبمجموعهما يصير الحديث صحيحا لغيره .   

حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، يقول ابن الصلاح  عن هذا الحديث : فمحمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة ، لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه ، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته ، فحديثه من هذه الجهة حسن ، فلما انضم إلى ذلك كونه روي من أوجه أخر زال بذلك ما كنا نخشاه عليه من جهة سوء حفظه ، وانجبر به ذلك النقص اليسير ، فصح هذا الإسناد ، والتحق بدرجة الصحيح ، وجدير بالذكر أن الشيخين  أخرجا هذا الحديث من طريق أبي الزناد  عن الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وهذا بلا شك طريق معضد لحديث محمد بن عمرو  يرقى به إلى درجة الصحة ، ولعل هذه الطريق هي التي أشار إليها ابن الصلاح  ، والله أعلم .  

 

ثم شرع الشيخ حفظه الله في الكلام على الأسانيد التي ذكرها الذهبي  كأمثلة على الأسانيد الصحيحة :

مالكُ ، عن نافع ، عن ابن عُمَر : وهي السلسلة التي وصفها البخاري  بالسلسلة الذهبية ، وفي الكتب الستة 81 حديثا بالمكرر من هذا الطريق ، وقد زادها بعض أهل العلم فجعلها : أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، وهناك أربعة أخبار من هذا الطريق ، وقد جمع الحافظ  أحاديث السلسلة الذهبية في مصنف مستقل .

منصورٌ ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله : ومنصور هو منصور بن المعتمر السلمي الكوفي ، وإبراهيم هو إبراهيم بن يزيد النخعي  ، وفي الكتب الستة 10 أحاديث بالمكرر من هذا الطريق ، وأحاديث الأعمش  عن إبراهيم   عن علقمة  عن ابن مسعود رضي الله عنه أكثر من أحاديث هذه السلسلة ، وجدير بالذكر أن بعض الحفاظ المتقدمين قدموا منصورا على الأعمش ، ومنهم ابن معين ، حيث قال : إذا اجتمع الأعمش ومنصور فقدم منصورا ، وأبو حاتم  ، حيث قال : منصور أتقن من الأعمش ، لا يخلط ولا يدلس ، وقدمه البعض كسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وإبراهيم بن موسى ، فيما نقله عنه أبوزرعة  ، وأحمد بن عبد الله على الكوفيين مطلقا .

الزهريٌّ ، عن سالم عن أبيه ، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وسالم هو سالم بن عبد الله ، وهو يروي عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وفي الكتب الستة 220 حديثا بالمكرر من هذا الطريق ، وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث طريقين آخرين يعتبران من أصح الطرق عن ابن عمر رضي الله عنهما وهما : أيوب (أي السختياني) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ويحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما .

 

 

أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان ، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز (شيخ مالك) ، وفي الكتب الستة 277 حديثا بالمكرر من هذا الطريق ، وجدير بالذكر أن البخاري  قد اختار هذا الإسناد كأصح الأسانيد عن أبي هريرة رضي الله عنه  ، وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث عدة أسانيد أخرى تعتبر من أصح الأسانيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه وهي ، يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، والزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، وحماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، وإسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة ابن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة ، ونقل رحمه الله في تحقيقه لرسالة الشافعي رحمه الله ، ص208 ، قول ابن حجر في التهذيب (1/289) : نقل ابن شاهين في الثقات عن أحمد بن صالح قال : إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان : هذا من أثبت أسانيد أهل المدينة . اهـ ، ومعمر عن همام عن أبي هريرة (وقد روى مسلم  عدة أحاديث من صحيفة همام من طريق محمد بن رافع  عن رجال هذه السلسلة) ، وزاد  في سلسلة أبي الزناد مالك فجعلها مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة .

 

ابنُ أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن أنس ، وابن أبي عروبة هو سعيد بن أبي عروبة اليشكري (وهو من أثبت الناس في قتادة مع شعبة وهشام الدستوائي) ، وقتادة هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي ، وفي الكتب الستة 59 حديثا بالمكرر من هذا الطريق ، وقد زاد الشيخ أحمد شاكر  على هذا خمسة أسانيد وجعلها من أصح الأسانيد عن أنس رضي الله عنه وهي (مالك ومعمر وسفيان بن عيينة ، "بترتيبهم هكذا تنازليا من حيث الحفظ") عن الزهري عن أنس رضي الله عنه ، و (حماد بن سلمة وحماد بن زيد "بهذا الترتيب من حيث الحفظ") عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس رضي الله عنه ، وهنا دقيقة لابد من الإشارة إليها ، وهي أن حماد بن زيد وإن كان أثبت من حماد بن سلمة إجمالا إلا أن كثيرا من العلماء قدموا حماد بن سلمة في هذا الموضع على حماد بن زيد  ، لأن حماد بن سلمة هو أثبت الناس إطلاقا في ثابت  ، فقد كان ربيبه ، وهذا ما سهل له حفظ حديثه وإتقانه ، وهو ما يحمل عليه صنيع مسلم  في إحتجاجه بحماد بن سلمة ، رغم كلام العلماء في حفظه ، وحال حماد بن سلمة هنا كحال إسرائيل بن يونس بن أبي اسحاق السبيعي  في روايته عن جده أبي إسحاق  ، فهو مقدم في حديث جده على من سواه ولو كان سفيان وشعبة ، وهذا أحد القرائن التي اعتمد عليها البخاري  في ترجيحه لرواية إسرائيل الموصولة لحديث : (لا نكاح إلا بولي) ، رغم أنه خالف من هو أوثق منه إجمالا (سفيان وشعبة) حيث روياه مرسلا ، وعلى هذا يتضح لنا جانب من صنيع المتقدمين  ، وهو دراسة القرائن المحتفة بالرواية ، وتتبلور لنا قاعدة مهمة جدا في الترجيح بين الروايات المتعارضة وهي ، "أن أهل بيت الراوي هم أولى الناس بالتقديم في روايته" .       

 

ابنُ جُرَيج ، عن عطاء ، عن جابر ، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي ، وهذه سلسلة مشهورة عن جابر رضي الله عنه . وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث إسنادا آخر عن جابر رضي الله عنه واختاره كأصح إسناد عن جابر رضي الله عنه وهو : سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنه ، وهو الذي اختاره الشيخ محمد بن عثيمين  في مذكرته "مصطلح الحديث" .

 

الليثُ ، وزهير ، عن أبي الزُّبير ، عن جابر ، والليث هو الليث بن سعد ، وزهير هو زهير بن معاوية الجعفي ، (والليث أوثق من زهير في أبي الزبير المكي) ، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تادرس المكي ، وهو ثقة حافظ وكان عطاء يقدمه حتى يحفظ لهم حديث جابر رضي الله عنه لشدة حفظه وحديثه مستقيم سواءا صرح بالتحديث أم لم يصرح (وهذا اختيار الشيخ السعد حفظه الله) وهذا يعارض ما ذهب إليه الليث حيث أن قصته مع أبي الزبير مشهورة لما أعطاه كتابه فقال له الليث  : أين الذي سمعته والذي لم تسمعه من جابر (علملي عليه) فلم يقبل الليث عنعنته كما اختار الشيخ السعد حفظه الله ، وقد ذكر الشيخ حفظه الله أن هناك أخبارا يسيرة لم يسمعها أبو الزبير من جابر وأخذها من زوجة سليمان بن قيس اليشكري ، وهذا قول أبي حاتم الرازي ، وربما كانت هذه الأخبار اليسيرة هي التي حملت الليث على عدم قبول عنعنة أبي الزبير ، وربما كانت قلة هذه الأخبار مقارنة بما رواه أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه هي التي رجحت قبول روايته مطلقا عند الشيخ السعد حفظه الله وبهذا يزول هذا التعارض . وهناك بعض الأخبار القليلة المستنكرة على أبي الزبير ، وفي الكتب الستة 360 حديثا بالمكرر من هذا الطريق (المقصود طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه ) .

سِماَكٌ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وسماك هو سماك بن حرب (من الطبقة الرابعة من التابعين) ، وعكرمة هو مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد تكلم فيه لقبوله هدايا السلطان وقد خرج له البخاري  وأعرض مسلم  عن روايته لأسباب أخرى خلاف هذا السبب ، منها أنه اتهم بأنه يقول برأي الصفرية (أحد فرق الخوارج) وقد دافع عنه جمع من الأئمة كابن عبد البر  ، وبأنه يكذب على ابن عباس رضي الله عنهما وحاشاه رحمه الله أن يفعل ذلك ، وإنما اتهم بذلك لتفرده عن ابن عباس بما لا يتابع عليه ، وذلك من طول ملازمته لإبن عباس رضي الله عنهما . (ذكر ذلك الشيخ سعد بن عبد الله الحميد حفظه الله في إحدى محاضراته) ، وفي الكتب الستة 29 حديثا بالمكرر من هذا الطريق وكثير منها قد صححها الترمذي  والغالب عليها أنها مستقيمة ، فالأصل في هذه السلسلة أنها مستقيمة إلا إذا ثبت خطأ سماك كما في حديث رؤية هلال رمضان ، وقد اختلف على سماك في هذا الحديث فوصله زائدة بن قدامة وأرسله الأكثرون كما ذكر ذلك الترمذي . وقد ذكر الشيخ حفظه الله في موطن آخر (في محاضراته عن علم الرجال) ، أقسام حديث سماك  وقسمه إلى ثلاثة أقسام :

ما رواه عن غير عكرمة (لأنه تكلم في روايته عنه) وخاصة إذا روى حديث جابر بن سمرة وكان الرواة عنه ممن سمع منه قديما كسفيان الثوري وشعبة (حديث جيد) .

 

إذا كان الراوي عنه ممن سمع منه أخيرا في غير شيخه عكرمة فحديثه حسن . 

إذا كان شيخه عكرمة ، فينبغي أن نفرق بين ما سمعه من عكرمة قديما وأخيرا والسبب في ذلك أن جمعا من الأئمة تكلم في روايته عن عكرمة ، وقال شعبة : "لو شئت أن ألقنه عن ابن عباس لقال عن ابن عباس" وسئل يحيى بن معين  عن ذلك فقال : "لأنه وصل أشياء أرسلها غيره" وقال يعقوب بن شيبة وعلي بن المديني : "روايته عن عكرمة مضطربة" .

 

أبو بكر بن عَيّاش  ، عن أبي إسحاق ، عن البَرَاء ، وأبو بكر بن عياش اختلف في اسمه على أحد عشر قولا ، وصحح أبوزرعة وابن عبد البر أن اسمه شعبة (واختار ذلك الشيخ حفظه الله) ويقال : إن اسمه كنيته ، ورجحه ابن الصلاح  ، قال : لأنه روي عنه أنه كان يقول ذلك ، وهو صدوق تغير حفظه وحديثه القديم أصح ، وفي الكتب الستة 5 أحاديث بالمكرر من هذا الطريق ، والأصل في هذه السلسلة أنها مستقيمة إلا إذا ورد ما يردها ، وقد أخر الذهبي  هذه السلسلة لوجود أبي بكر بن عياش  فيها .

 

العلاءُ بن عبدالرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، ونحوُ ذلك من أفراد البخاري أو مسلم وهي أصح من الطريقين السابقين ، وفي مسلم والسنن الأربعة 124حديثا بالمكرر من هذا الطريق وكلها مستقيمة إلا خبر : (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) .  

 

شروط قبول الزيادة :

أن يكون من زادها من الحفاظ كشعبة .

أن يكون من زادها جماعة من الحفاظ .

أن يكون من زادها له مزيد اختصاص بالشيخ الذي روى عنه كرواية عكرمة  عن ابن عباس رضي الله عنه .

ومن أمثلة الزيادات المردودة : زيادة : (إنك لا تخلف الميعاد) ، فقد زادها محمد بن عوف الحمصي  وهو ثقة ولكنه خولف من قبل جمع من الحفاظ كأحمد والبخاري ومحمد بن يحيى الذهلي الذين رووا هذا الحديث عن علي بن عياش الألهاني عن شعيب بن أبي حمزة  عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه دون ذكر هذه الزيادة ، وممن تكلم عن مسألة الزيادة وضوابطها وأقسامها ، الدكتور عادل عبد الغفور حفظه الله في شرحه لنزهة النظر ، وأنقل هنا ، بمشيئة الله عز وجل ، ملخصا لما قاله في هذه المسألة ، بتصرف :

أقسام الزيادة :

قسم الشيخ حفظه الله الزيادة إلى 3 أقسام :

زياد لحديث محض : وهو أن يروي حديثا لم يشاركه فيه أحد ، فإن كان ممن يحتمل تفرده ، وهو راوي الصحيح والحسن لذاته ، فالأصل قبول حديثه إلا إذا وردت قرائن تؤيد وهم هذا الراوي في هذا الحديث بالذات ، وأما إن كان الراوي ضعيفا لايحتمل تفرده بهذا الحديث ، فإن الأصل في حديثه الرد ، لأنه منكر بقيد التفرد ، (باصطلاح الحافظ ) ، فهو منكر لأن راويه ضعيف ، وهو مقيد بالتفرد لأن راويه لم يتابع عليه .

زيادة لا تعلق لها بالمزيد عليه : كأن يروى حديث في النهي عن عدة أمور ، كالمزابنة والمحاقلة و … الخ ، ثم ينفرد راو بزيادة أمر منها ، فهذه الزيادة تعامل كحديث مستقل ، كما في القسم الأول .

زيادة لها تعلق بالمزيد عليه : وهذه هي التي وقع فيها الخلاف كالتالي :

رأى بعض أهل العلم قبولها مطلقا ، وهذا رأي أكثر الفقهاء والأصوليين ، وبعض المحدثين ، كالخطيب البغدادي  الذي استدل بقول البخاري  : (زيادة الثقة مقبولة) ، وذلك عندما رجح  رواية إسرائيل الموصولة لحديث : (لا نكاح إلا بولي) على رواية سفيان وشعبة المرسلة . وقد اعترض ابن رجب على قول الخطيب ، حين قال بأنه سلك مسلك المحدثين حيث أعل بعض الأحاديث بمخالفة الواحد للجماعة .

ورأى بعض أهل العلم ، قبول رواية الأكثر ، وعليه يحمل قول الشافعي  : (العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد) ، فعلى سبيل المثال إذا خالف ثقة عشرة من الثقات ، فإن زيادته غير مقبولة لأنه خالف جمعا من الثقات ، ومن قبل زيادة الواحد على الجماعة ، افترض افتراضات بعيدة ، كأن يكون هو المستيقظ الوحيد في المجلس أو أن يكون هو أول من حضر لمجلس الشيخ ، فسمع هذه الزيادة قبل مجيئهم ، وهو بهذا أراد أن يرفع الإتهام بالغفلة عن هذا الثقة ، مع سبق توثيقه ، فاتهم جمعا من الثقات بالغفلة في مقابله ، وهنا يشترط أن يكون مجموع الرواة المخالفين للراوي الذي زاد أرجح منه ، وإن لم يكن كل واحد منهم أرجح منه على إنفراد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، مخالفة مالك  للجماعة في حديث اضطجاع النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر ، فقد روى أن هذه الضطجعة كانت قبل صلاة الفجر ، بينما روى الجماعة المخالفون له أنها كانت بعد صلاة الفجر وهي الرواية الصحيحة ، فكل واحد من الجماعة المخالفين لمالك  أدنى منه في الحفظ والإتقان على حدة ، ولكنهم بمجموعهم أرجح منه في هذه الرواية ، بينما لو كان الجماعة أدنى من الواحد المخالف ، كأن يكونوا جماعة من الكاذبين ، فإن رواية الثقة المخالف أرجح ، وإن تفرد عنهم ، لأنه لا إعتبار لروايتهم أصلا .   

ورأى بعض أهل العلم ، قبول رواية الأحفظ .

ورأى بعض أهل العلم ، أن الأمر يدور مع القرائن والمرجحات ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، قبول البخاري  لزيادة إسرائيل  في رواية حديث : (لا نكاح إلا بولي) على رواية سفيان وشعبة  ، حيث وصل إسرائيل  هذا الحديث ، وأرسله سفيان وشعبة  ، ورغم رجحانهما على إسرائيل  في الحفظ والإتقان ، إلا أن البخاري  قبل زيادته عليهما ، لقرائن احتفت بهذه الزيادة ، ومن أهمها :

أنه قد تابع إسرائيل  على زيادته تمام العشرة ، ومنهم شريك وقيس بن الربيع  .

أن إسرائيل  ، أحفظ الناس لحديث جده أبي إسحاق السبيعي  ، الذي يروي عنه هذا الحديث ، والقاعدة أن أهل بيت الراوي هم أحفظ الناس لحديثه ، لطول ملازمتهم له ، وقد أثر عن إسرائيل  أنه قال : أحفظ حديث جدي كما أحفظ سورة الحمد .

أن سفيان وشعبة  ، أخذا الحديث عن أبي إسحاق  ، عرضا ، فقد عرضاه عليه مرسلا ، ولم يسمعاه منه كذلك ، وقد عرف عن المتقدمين أنهم لم يكونوا على نفس درجة حرص المتأخرين في ذكر سياق السند متصلا ، خلافا لإسرائيل   الذي سمع هذا الحديث من جده موصولا ، والسماع أعلى من العرض .

وضرب الشيخ حفظه الله مثالا آخر ، وهو إذا ما ثبت ، على سبيل المثال ، أن الواحد الذي خالف الجماعة وزاد عليهم ، سمع من شيخه الذي اختلط قبل إختلاطه ، بينما سمع الجماعة المخالفون له من نفس الشيخ بعد اختلاطه .

وقد أطال الحافظ  في النكت الكلام على شروط قبول الزيادة وهي :

أن يكون الذي زادها متقنا حافظا ، ولا يكتفى بكونه ثقة أو صدوقا .

أن تكون روايته مساوية لرواية من لم يزد أو أعلى منها . 

مسألة : حديث : (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ، تفرد أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي  بزيادة (وتربتها طهورا) عن ربعي بن حراش  عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه الزيادة مقبولة مطلقا ، لأنها زيادة صحابي على صحابة آخرين ، والترجيح لا يكون في طبقة الصحابة لأنهم كلهم عدول ، وإنما يكون في الطبقات المتأخرة .

 

ويتعجب الحافظ  من صنيع الشافعية  ، حيث قبلوا زيادة الثقة مطلقا ، رغم أن هذا يخالف نص الشافعي  ، الذي قال ما معناه : (ويكون الراوي الذي يحكم له بالضبط ، إذا شارك الحفاظ في الرواية عن شيخ لا يخالفهم ، فإن خالفهم كانت مخالفته بالنقص ، لا بالزيادة) ، فنظرة الشافعي نظرة الناقد ، حيث أن المخالفة القادحة هي المخالفة بالزيادة لا بالنقص ، لأن النقص يدل على ضبط الراوي وحفظه ، بحيث أنه إذا شك في لفظ فإنه يتركه ، ويعلق الحافظ  على قول الشافعي ، فيقول : ومقتضى كلام الشافعي أن المخالفة بالزيادة ضارة ، وهذا يدل على أن زيادة الثقة غير مقبولة مطلقا خلافا للشافعية  ، وقد خص الحافظ  الشافعية بالنقد في هذا الموطن لأنهم خالفوا نص إمامهم .

مثال على ترجيح الزيادة وقبولها :

حديث الترمذي والنسائي وابن ماجة  من طريق ابن عيينة  عن عمرو بن دينار  عن عوسجة  عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه ، فرواية ابن عيينة  موصولة ، بينما خالف حماد بن زيد ، فرواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد رجح النقاد  رواية ابن عيينة  لعدة قرائن من أبرزها :

متابعة ابن جريج  وغيره لإبن عيينة  على وصل هذا الحديث .  

أن شيخ ابن عيينة في هذا الحديث عمرو بن دينار  ، وهو مكي ، وابن عيينة  مكي ، وكذا ابن جريج  مكي أيضا ، خلاف حماد بن زيد  ، وعليه فإن رواية ابن عيينة  هي المحفوظة ، لأن القاعدة الحديثية تنص على أن بلدي الشيخ أعلم بحديثه من الغرباء ، لقربه من شيخه ، ولأن هذا مظنة الملازمة والحفظ والإتقان .

أن أثبت الناس في عمرو بن دينار  هو سفيان بن عيينة  ، وعليه فهو مقدم دوما في حديثه .

ولذا قال أبو حاتم  : المحفوظ حديث ابن عيينة  ، فحماد بن زيد  من أهل العدالة والضبط ، ومع ذلك رجح أبو حاتم  رواية من هم أكثر عددا .

وممن تكلم في هذه المسألة ، فأجاد الشيخ مقبل رحمه الله ، حيث قال :

زيادة الثقة من الأمور التي اختلف فيها العلماء ولحذاق الحديث فيها مجال واختلاف ، من حيث أن منهم من يقبل زيادة الثقة ويقول : إنه علم ما لم يعلم غيره وحفظ ما لم يحفظ غيره ، ومنهم من يردّها ، ومنهم من يتوسط فيقبلها إذا لم يخالف من هو أرجح منه ، أما إذا خالف من هو أرجح منه فيعد شاذًا ، ومن هو أرجح منه سواءً أكان في العدد ، أم كان في الضبط ، أم غير ذلك ، ومن الأمثلة على ذلك حديث المسيء صلاته ، حيث رواه يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيدالله ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وقد خالف يحيى جمع كثير ، فرووه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة فلم يذكروا أباه ، وأراد الدارقطني أن ينتقده ثم هاب أن يوهّم يحيى بن سعيد القطان فقال: لعل الحديث روي على الوجهين .

فهذه المسألة مسألة اجتهادية ، تنظر إلى صفات الرواة وإلى ضبطهم وإلى كثرتهم ، فلو تعارض صدوق وصدوق ، وثقة وثقة ، فإذا لم يحصل للناظر ترجيح حمل الحديث على الوجهين أنه روي هكذا وهكذا ، مثلاً : جاء مرسلاً ومتصلاً تحمله على أن الراوي رواه مرسلاً ومتصلاً ، والمرسل صحيح ، والمتصل صحيح ، أو رواه مرفوعًا وموقوفًا ، فيحمل على هذا وهذا ، إذا لم يظهر الترجيح ، وإذا تعارض ثقة وصدوق مع ثقة مثلاً: الثقة أرسل ، والثقة والصدوق وصلا الحديث ، فيرجّح الثقة والصدوق , وأما لو اختلف ثقة حافظ وثقة وصدوق ، يعني: هذا في جانب ، وهذان في جانب ، أيهما يرجّح ؟ الظاهر أنه يحمل على الوجهين.

والمسألة اجتهادية ليس فيها حكم مطّرد ، هكذا يقول الحافظ في مقدمة "الفتح" فإن لحذّاق الحديث نظرات إلى زيادة الثقة ، فرب زيادة يقبلونها ، ورب زيادة يتوقفون فيها أو يردونها .

 

مسألة :

التجويز العقلي (وهو أحد أعراض تأثر بعض المحدثين بعلم الكلام) ، يؤدي إلى تعليل الإختلاف في الزيادة أو النقصان في المتن أو السند ، بأن الراوي ربما حدث بهذا مرة وهذا مرة ، كأن يقال ربما نشط مرة فوصله ، وقصر أخرى فأرسله ، أطلق عليه بعض العلماء (التلون في الرواية) ، بمعن الإختلاف ، وقد نبه الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي والحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ، إلى أن (التلون في الرواية لا يقبل من كل ثقة) ، فهو على سبيل المثال يقبل مطلقا من الصحابة رضي الله عنهم دون من سواهم .

 

مسألة : الفرق بين قبول الزيادة والحكم بصحتها :

 قد تكون الزيادة (بشكل عام) ، محفوظة ، ومع ذلك يردها العلماء ، من طريق معين ، لأنها غير محفوظة من هذا الطريق بالذات ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

زيادة (والملك لا شريك لك) ، في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما ، فقد اختلف حكم العلماء في قبول هذه الزيادة من كلا الطريقين :

فقبلوها من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وردوها من حديث عائشة رضي الله عنها ، رغم أن راويها محمد بن فضيل ثقة ، كما نبه إلى ذلك الإمام أحمد رحمه الله في المسند (رغم أن بعض العلماء المعاصرين قال بأن أحكام أحمد رحمه الله لا تعرف من المسند لأنه لا يحكم على الأحاديث في مسنده ، ولكن تعرف من مسائله الحديثية ، كمسائل أبي داود) ، فهذه زيادة ثابتة النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فهي مردودة من حديث عائشة من طريق محمد بن فضيل . (الفائدتان ، من شرح الشيخ طارق بن عوض الله حفظه الله لألفية السيوطي) .

الكتب التي ألفت في الصحيح :

الكتب التي احتوت على الصحيح فقط كصحيح البخاري ومسلم  .

الكتب التي غلب على أحاديثها الصحة وفيها شيء من الضعيف . ككتب السنن الأربعة ومسند أحمد 

الكتب التي يكثر فيها الضعيف مع وجود الصحيح ومن مظان الضعيف : ما انفرد به العقيلي   أو ابن عدي  أو الخطيب البغدادي  أو ابن عساكر  في تاريخه أو الديلمي  في مسند الفردوس أو الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وهو غير صاحب السنن أو الحاكم وابن الجارود  في تاريخهما .

الكتب التي ألفت في الأحاديث الضعيفة والمعلولة والموضوعة .

وقد ذكر شيخ الإسلام  في رسالة التوسل طرق الأئمة في تصنيف الحديث وجعلها 3 طرق :

طريقة من لا يروي الإ ما يحتج به في مسائل الأحكام كالبخاري ومسلم واسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل وأصحاب السنن  جميعا .

طريقة من يذكر كل ما ورد في الباب ليعرف ما روي في ذلك لا ليحتج بكل ما روي كأبي الشيخ الأصبهاني وأبي الليث السمرقندي  .

طريقة من يروي الأحاديث بلا أسانيد كالديلمي .

الكتب التي احتوت على الصحيح فقط كصحيح البخاري ومسلم   :

وبداية لابد من التنبيه على طريقة الجوامع (وهي الطريقة التي اعتمدها البخاري ومسلم وعبد الرزاق وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري ومعمر  جميعا في تصانيفهم) ، وهي ترتيب الجامع على أبواب تشمل جميع موضوعات الدين الأساسية ، وقد اصطلحوا على أنها ثمانية : العقائد والأحكام والسير والآداب والتفسير والفتن وأشراط الساعة  والمناقب . 

وأصح الكتب التي ألفت في الصحيح هو صحيح البخاري ، وهو قول جماهير أهل العلم ، وخالف في ذلك بعض أهل العلم ، وخاصة المغاربة منهم (كابن حزم رحمه الله) وبعض المشارقة كأبي حاتم وأبي زرعة الرازيان ، وقال أبو علي النيسابوري : (ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم ) وأجاب العلماء على هذا بأن تفضيل ابن حزم  ومن تابعه من المغاربة وبعض المشارقة لا علاقة له بالصحة وإنما يرجع ذلك إلى تفوق صحيح مسلم  على صحيح البخاري في الصناعة الحديثية ، فعلى سبيل المثال اقتصر مسلم  في أغلب الأحيان على المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، مع ملاحظة أن مقدمة كتابه ليست على شرطه ، وأما بالنسبة لقول أبي علي النيسابوري ، فقد أجاب عنه الحافظ  بقوله بأنه لا يستفاد من هذا القول تفضيل وإنما قال أبو علي  بأنه لا يعلم كتابا أصح من مسلم وهذا يمنع وجود كتاب أصح ولكنه لا يمنع وجود كتاب يماثله في الصحة ، وهذا الجواب فيه نظر كما قال الصنعاني  ، وأجاب البعض بأنه لم يصله صحيح البخاري  .

ولا شك أن الرأي الراجح هو الرأي الأول لأسباب من أهمها :

أن رجال البخاري  أعلى من رجال مسلم  حيث تكلم في 80 رجلا من رجال البخاري  (وأكثر ما خرج لهم البخاري في المتابعات والشواهد ولم يحتج إلا بالقليل منهم في أحاديث قليلة) و 160 رجلا من رجال مسلم  (وقد خرج مسلم لكثير منهم احتجاجا أحاديث كثيرة فأخرج لهم صحائف بأكملها ، فقد عرف عنه رحمه الله الإهتمام بالصحف الحديثية) ، ونلاحظ أيضا أن أكثر من تكلم فيهم من شيوخ البخاري  هم من شيوخه الذين سبر مروياتهم وعرف صحيحها من سقيمها (ولا أدل على ذلك من صنيعه مع شيخه اسماعيل بن أبي أويس  لما انتخب له البخاري  أحاديث من كتابه فكان اسماعيل لا يحدث إلا بها) ، أما مسلم  فكثير ممن تكلم فيهم من رجال صحيحه هم شيوخ من طبقات أعلى من طبقة شيوخه (أي أنه لم يلقهم) . 

ما انتقد على البخاري من الأحاديث التي انفرد بها 80 حديثا وما انتقد على مسلم من الأحاديث التي انفرد بها 100 حديث وما انتقد عليهما مما اتفقا عليه 32 حديث وهذا يدل على أن صحيح البخاري أعلى من حيث الصحة ، وقد نقل الشيخ محمد بن عثيمين  في مذكرته في مصطلح الحديث قول شيخ الإسلام  : جمهور ما أنكر على البخاري  مما صححه يكون قوله فيه راجحا على من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في أحاديث خرجها وكان الصواب مع من نازعه فيها ومثل لذلك (أي ابن تيمية) بحديث : (خلق الله التربة يوم السبت) ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات أو أربع ، ويمكن التمثيل أيضا بحديث أبي سفيان رضي الله عنه ، حتى غلا البعض كابن حزم وادعى أنه موضوع ، وقد ذكر د/ حسين شواط في "حجية السنة" ، أن العلماء المعاصرين للبخاري  وافقوه على صحة أحاديث كتابه عدا أربعة أحاديث تفاوتت وجهات نظرهم فيها . وقد قال المحققون من أهل العلم إن الصواب في ذلك إلى جانب الإمام البخاري  (نقل ذلك ابن حجر عن العقيلي وهو تلميذ البخاري  ) حجية السنة ص183 .

شرط البخاري  أعلى من شرط مسلم  حيث اشترط البخاري  ثبوت اللقي في الإسناد المعنعن مع براءة الراوي من التدليس (وقد قال ابن كثير  في اختصار علوم الحديث بأن البخاري لايشترط ثبوت اللقي في أصل صحة الحديث ولكنه التزمه في الصحيح "فجعله ابن كثير  شرط كمال لا شرط صحة" ، بينما اشترط علي بن المديني  ثبوت اللقي في أصل صحة الحديث) بتصرف من الباعث الحثيث ص73 طبعة مكتبة السنة  ، وفي هذا الكلام نظر كما قرر ذلك الحافظ لأن البخاري أعل بعض الأحاديث في التاريخ الكبير بعدم سماع الإبن من أبيه ، ويأتي بيان هذا بالتفصيل في المسألة التالية ، بينما اشترط مسلم  المعاصرة وإمكان اللقي (مع عدم وجود ما ينفيه من تصريح إمام بنفي اللقي أو ما شابه ذلك) ، ولا شك أن شرط البخاري  أمان من التدليس (بإشتراط البراءة منه) والإرسال ، بينما شرط مسلم  أمان من التدليس فقط حيث أن مسلم  يرى أن التدليس يشمل الصورة المعروفة منه ويشمل أيضا الإرسال الخفي مطلقا (وهو رواية الراوي عمن عاصره دون أن يلقاه) ، ولكن الإرسال الخفي لا يعتبر تدليسا إلا بقيد إيهام السماع وليس مطلقا كما ذهب إليه مسلم  وهناك عدة أدلة على ذلك من أبرزها رواية سعيد بن المسيب  عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (وقد عاصره واختلف في سماعه منه) ومع ذلك لم يرم سعيد  بالتدليس ، وأرسل المخضرمون عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم قد عاصروه ومع ذلك لم يرموا بالتدليس ، وأرسل أبو قلابة  عمن عاصره ومع ذلك لم يتهمه أبو حاتم  بالتدليس وإنما قال عنه : كان يرسل عمن عاصره ولا يعرف عنه تدليس وأشار إلى ذلك الحافظ  وجدير بالذكر أن مسلم  رغم تبنيه مذهب المعاصرة دون اشتراط اللقي فإنه يؤخر الروايات التي لم يثبت فيها اللقي  ويقدم الروايات التي ثبت فيها اللقي ، ونقل الشيخ العثيمين في مذكرة مصطلح الحديث قول النووي  : (أنكره المحققون ، وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في صحيحه بهذا المذهب لكونه يجمع طرقا كثيرة يتعذر معها وجود هذا الحكم الذي جوزه والله أعلم  .

 

وجدير بالذكر أن البخاري  قد تفوق في علم العلل على مسلم ، ومن الأمور التي تميز بها البخاري انتقاؤه لأحاديث من يروي عنه ، فعلى سبيل المثال ، لم يرو البخاري لخالد بن مخلد (وقد تكلم فيه) إلا من طريق سليمان بن بلال ، ولم يرو لإسماعيل بن أبي أويس  إلا حديثه عن مالك  لأنه من أثبت الناس في مالك ، رغم أنه أكثر من الرواية عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك ، وروى من طريق معن بن يحيى القزاز عن مالك وإن كان لم يسمع من يحيى  .

 

مسألة : ادعى ابن كثير ، أن اشتراط البخاري اللقي ، ولو مرة واحدة بين المتعاصرين ، هو شرط كمال ، وليس بلازم في أصل الصحة ، وقد رد على هذا الرأي الحافظ  في النكت ، حيث قال : ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه لا في أصل الصحة ، وأخطأ في هذه الدعوى بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري  ، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في "تاريخه" بمجرد ذلك ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

ما أعل به حديث حكيم الأثرم ، عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة مرفوعا : من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فيما قال فقد كفر بما أنزل على محمد ، فقد علق البخاري  على هذا الحديث في التاريخ الكبير (2/1/17) بقوله : (هذا حديث لا يتابع_أي حكيم الأثرم_عليه ، ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة) ، مع أن أبا تميمة وأبا هريرة قد تعاصرا .

حديث أبي المطوس ، عن أبي هريرة مرفوعا : من أفطر من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر ، ولو صامه ، فقد نقل الحافظ  في الفتح (8/306) ، قول البخاري في التاريخ : تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ، ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا .

 

مسألة : رواية مسلم ، عن بعض الضعفاء ، ما عرف من طريق الثقات ، لأجل العلو في السند :

صرح مسلم  بذلك ، لأن هذا الحديث يكون عنده من طريق هذا الضعيف بعلو ، ومن طريق من هو أوثق منه بنزول ، فالحديث صحيح ثابت ، فلا يضر مسلم  تخريجه من رواية الضعيف .

وقد تطرق الخطيب البغدادي  لهذه المسألة في ترجمة أحمد بن عيسى المصري في (تاريخ بغداد) ، حيث روى بسند صحيح من طريق سعيد بن عمرو البرذعي  ، قال : شهدت أبازرعة_يعني الرازي_ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج ، ثم الصائغ على مثاله ، فقال لي أبوزرعة : هؤلاء قوم أرادو التقدم قبل أوانه ، فعملوا شيئا يتشوفون به ، ألفوا كتابا لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها .

وأتاه ذات يوم_وأنا شاهد_رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم  ، فجعل ينظر فيه ، فإذا حديث عن أسباط بن نصر ، فقال أبوزرعة : ما أبعد هذا من الصحيح ، يدخل في كتابه أسباط بن نصر !! ، ثم رأى في كتابه قطن بن نسير ، فقال لي : وهذا أطم من الأول ، قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس ، ثم نظر فقال : يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه الصحيح .

قال لي أبوزرعة : ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى ، وأشار أبوزرعة إلى لسانه ، كأنه يقول الكذب ، ثم قال لي : تحدث عن أمثال هؤلاء وتترك محمد بن عجلان ونظراءه ، وتطرق لأهل البدع علينا ، فيجدوا السبيل بأن يقولوا للحديث إذا احتج به عليهم : ليس هذا في كتاب الصحيح ؟ ، ورأيته يذم من وضع هذا الكتاب ويؤنبه ، فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه ، وروايته في كتاب الصحيح عن أسباط بن نصر ، وقطن بن نسير ، وأحمد بن عيسى ، فقال لي مسلم (وهذا هو محل الشاهد الذي يوضح صنيع مسلم ) : إنما قلت صحيح ، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم ، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع ، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول فأقتصر على أولئك ، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات .

 

مسألة : صفة ما كان على شرط الشيخين أو أحدهما :

ينبه الشيخ عمرو عبد المنعم حفظه الله ، إلى أن هذه الصفة ، لا تعني مجرد احتواء السند على رواة خرج لهم الشيخان  ، دون مراعاة سياق السند ، بل تعني الطريقة التي اتفقا على إخراج حديث هؤلاء الرواة بها ، من حيث روايتهم عن شيوخهم .

فمثلا قد أخرج الشيخان حديث داود بن الحصين وعكرمة ، ولكنهما لم يخرجا حديث داود بن الحصين عن عكرمة لضعف هذه الترجمة ، فقد قال ابن المديني  في داود بن الحصين : ما روى عن عكرمة فمنكر ، وقال أبوداود : أحاديثه عن شيوخه مستقيمة ، وأحاديثه عن عكرمة مناكير ، فحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس ليس على شرط أحدهما ، وما قيل في داود عن عكرمة ، يقال في هشيم عن الزهري ، وهمام عن ابن جريج ، وجدير بالذكر ، أن الحاكم  كثيرا ما يطلق الحكم على الحديث بأنه على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما ، لمجرد احتواء سنده على رجال خرج لهم الشيخان ، بغض النظر عن سياق السند ، لذا وجب التنبيه على صنيع الحاكم  في مستدركه .

 

مسألة : ذكر الحافظ  في شرح النخبة ، حديث : (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) ، وذلك في معرض كلامه على حكم رواية الموضوع ، وقال  بأن مسلم  ، أخرجه في صحيحه ، وهذا ما يوهم بأن مسلم  قد أخرجه في أصول صحيحه ، وهذا غير صحيح ، فالحديث رغم صحته ، لم يحتج به مسلم  ، وإنما ذكره في مقدمة صحيحه ، ومن المعروف أنها ليست على شرطه ، لأن شرطه  قد خف في مقدمة صحيحه .

 

                             

 

 

ومن المسائل التي اختلف فيها الشيخان  ، مسألة المعلقات وهذا يستلزم منا الإسهاب بعض الشيء في دراسة منهج كل منهما في المعلقات :

المعلقات عند مسلم  :

وقد بدأنا الكلام عنها لأنها أقل بكثير من معلقات البخاري  ، وهذا أحد الأمور التي تميز بها صحيح مسلم  حيث حرص مسلم  على تجريد كتابه من الموقوفات والمقطوعات والمعلقات ولكنه أدخل بعض المعلقات في صحيحه وقد اختلف العلماء في عددها فذكر الجياني  أنها أربعة عشر وتعقبه ابن الصلاح  بأنها اثنا عشر فقط والأرجح ما ذهب إليه ابن حجر  من أنها ستة فقط لأن الستة الباقية بصيغة الإتصال لكن أبهم في كل منها اسم من حدثه وقد وصل مسلم جميع معلقاته ما عدا حديثا واحدا في التيمم ، وأما الموقوفات ، فإن في صحيح مسلم أحاديث موقوفة أوصلها الحافظ  إلى 192 حديثا وجمعها في كتاب له يسمى "الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف" بتصرف من حجية السنة ص189 ، د/ حسين شواط .

وقد فصل الشيخ سعد الحميد حفظه الله القول في معلقات مسلم  فأجاد فقال حفظه الله في معرض كلامه على منهج الإمام مسلم  :

عدد المعلقات عند مسلم  14 وهي ترجع إلى 12 لأن أحدها مكرر والآخر ليس معلقا ، فقد جاء بسندين في روايتن للصحيح :

رواية أبي العلاء بن ماهان , وسندها : حدثنا صاحب لنا عن إسماعيل بن زكريا   عن الأعمش  وعن مالك بن مغول  كلهم عن الحكم بن عتيبة  عن ابن أبي ليلى  عن كعب بن عجرة  ، وذكر حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . فهذا سند متصل فيه مبهم ، فلم يعلقه مسلم  ، لأنه لم يسقط شيخه وإن كان قد أبهمه .

رواية أبي أحمد الجلودي ، وهي الرواية المعتمدة الموجودة بين أيدينا اليوم ، وفيها التصريح بإسم ذلك المبهم ، وهو محمد بن بكار  ، وهذا يعني أن الحديث متصل بإسناد رجاله معروفون .

أما بقية المعلقات (12) ، فمنها أحاديث وصلها مسلم  في موضع آخر من صحيحه ، وعددها(5)،فتبقى لنا(7) .

ومن هذه الـ(7)نجد(6) منها متصلة بأسانيد في كل منها مبهم ، وهي موصولة عند غير مسلم  خارج الصحيح .

ويتبقى لنا من الـ(14) حديث واحد فقط ، نص الحافظ العراقي  على أنه الحديث المعلق الوحيد عند مسلم  .

المعلقات عند البخاري  :

بداية لابد من ذكر الرأي المجمل في هذه المسألة وهو : أن ما علقه بصيغة الجزم فهو صحيح عنده ، وإن لم يكن في صحة الحديث المسند في صحيحه ، وما علقه بصيغة التمريض فهو عنده ضعيف ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من التفصيل وذلك كالتالي :

تقسيم معلقات البخاري  :

الموقوفات :

وخلاصة القول فيها أن شرط البخاري  قد خف فيها ، كما خف شرط مسلم  في مقدمة صحيحه على سبيل المثال .

المرفوعات إلى النبي صلى الله عليه وسلم : 

والكلام فيها يطول بعض الشيء نظرا لأن البخاري  أكثر منها في صحيحه ، ولكن توظيفه لها في صحيحه يدل بلا شك على فقه البخاري  وحسن صناعته الحديثية ، وبداية فإن المعلقات في صحيحه بلغت (1341) ، كثير منها موصول في موضع آخر من الكتاب ، وفي كتب أخرى صنفها مثل قول ابن أبي مليكة  : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ، وما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل . فقد علقه البخاري في صحيحه ورواه في التاريخ الكبير (5/137) . وقد ألف الحافظ ابن حجر  كتابا في وصل الباقي وهو (159) وسماه : تغليق التعليق وأضاف إليها المتابعات والموقوفات ، ومعلقات البخاري  تنقسم إلى قسمين :

المعلقات بصيغة الجزم :

وقد قسم الشيخ سعد بن عبد الله الحميد حفظه الله (في سلسلته القيمة مناهج الأئمة) المعلقات بصيغة الجزم إلى قسمين :

ما أورده البخاري متصلا في موضع آخر :  فهو  يلجأ إلى هذا لعدة دوافع من أبرزها :

أنه يكره إيراد الحديث بنفس الإسناد (وهذا ما أكد عليه الحافظ ، حيث قال بأنه لا يوجد في كتاب البخاري  حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدا إلا نادرا) ، فإذا كان الحديث عنده بأسانيد متعددة ، فإنه يكرر الحديث بإسناد مختلف في كل مرة ، ولكنه في حالتنا هذه لا يملك إلا إسنادا واحدا لهذا الحديث ، فيورده بإسناده في باب ، ثم يورده معلقا في الأبواب الأخرى التي تتعلق بهذا الحديث ، وهذا ما يعبر عنه العلماء  بـ (ضيق المخرج) .

 

أنه ربما رواه في مختصرا في هذا الموضع من كتابه (أي أنه تصرف في المتن) ، فينبه على صنيعه هذا بحذف سند الحديث وإيراده معلقا بصيغة الجزم .

 

أنه ربما كرر الحديث بما فيه الكفاية ، فيكره ذكر الحديث مسندا في هذا الموطن رغم عدم ضيق مخرجه عنده ، فما زال لهذا الحديث طرق أخرى عنده ، ولكنه فضل عدم ذكرها لما سبق ذكره .

 

ما لم يخرجه في صحيحه : 

ربما كان الحديث على شرطه  ، ولكنه لم يخرجه كراهة التطويل (كما نص  ) .

ربما كان الحديث على شرطه  ، ولكنه ساعة تصنيفه لا يحضره اسناد تلقى به هذا الحديث عن شيوخه وربما شك في تلقيه هذا الحديث عن شيوخه ، ومن أبرز الأمثلة على هذا حديث تعليم الشيطان فضل آية الكرسي لأبي هريرة رضي الله عنه ، حيث علق البخاري  هذا الحديث بصيغة الجزم ، ولكن الإشكال هنا أنه علقه على شيخه عثمان بن الهيثم  ، وهذا ما جعل البعض يعتقد أن البخاري أخرجه مسندا ، وخاصة أن مسلم  قد خرجه في صحيحه ، فقال : قال : عثمان بن الهيثم  قال : حدثنا عوف الأعرابي قال : حدثنا محمد بن سيرين قال : حدثنا أبوهريرة رضي الله عنه : الحديث ،  فلم يجزم البخاري هنا بسماع هذا الحديث من شيخه ، ولكنه في نفس الوقت يعلم يقينا أن شيخه قد حدث بهذا الحديث ، فعلقه في 3 مواضع في صحيحه .

ربما كان هذا الحديث صحيحا ولكنه ليس على شرطه ، فتعمد وضعه على صورة المعلق لينبه على ذلك وهذا ما اختاره الحافظ  ومن الأمثلة على ذلك :

حديث الملاهي : وهو حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري رضي الله عنه مرفوعا : (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) ، وقد حصل فيه خلاف شهير بين ابن حزم من جهة وجماهير أهل العلم  من جهة أخرى ، فقال ابن حزم  بأن هذا الحديث منقطع لأن البخاري علقه على شيخه هشام بن عمار  فقال : قال : هشام بن عمار ، ولم يقل حدثنا ، ورد عليه العلماء  بأن الحديث صحيح ولكنه ليس على شرط البخاري ، ومما يؤيد هذا أن الحديث ثابت من طرق أخرى عن هشام بن عمار  وقد توبع هشام  على هذا الحديث ، ورواه الطبراني ، وقال ابن كثير في اختصار علوم الحديث : (وقد رواه أحمد في مسنده ، وأبوداود  في سننه ، وخرجه البرقاني  في صحيحه ، وغير واحد ، مسندا متصلا إلى هشام بن عمار  وشيخه أيضا ) .

حديث عائشة رضي الله عنها : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) ، فالحديث صحيح ، وقد أخرجه مسلم  في صحيحه ، وعلقه البخاري لأنه ليس على شرطه .

 

ربما كان الحديث صحيحا ولكن البخاري  أورده للاستشهاد لا للاعتماد ، ويكون قد سمعه في مجلس المذاكرة ، ومن المعلوم أن المحدثين لا يهتمون بإيراد الأسانيد والمتون كاملة في مجالس المذاكرة ، فاحتاط البخاري من هذا بتعليق الحديث ، وهذا قول بعض المغاربة  .

 

ربما سمع البخاري  هذا الحديث عرضا ومناولة ، وهذا أقل رتبة من تحديث الشيخ ، وإن كان الحاكم  قد قال بأن هذا إسماع عند كثير من المتقدمين ، وحكوه عن مالك والزهري وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري  من أهل المدينة وحكي أيضا عن بعض أهل مكة ، كمجاهد وأبي الزبير  ، وحكي عن الشعبي وقتادة وابن وهب والقاسم  وغيرهم ، وهذا الرأي ذهب إليه الحافظ أبو جعفر بن حمدان  في تأويله لصنيع البخاري  .

 

ربما كان الحديث حسنا أو حسنا لغيره ، وهذا بطبيعة الحال خارج عن شرطه .

ربما جزم بهذا القول عن أحد من الناس ، ولكن هذا لا يقتضي تصحيحه لهذا الحديث ، فهو يكفل لك صحة الحديث إلى من علقه عليه ، وعلى الباحث أن ينظر في باقي السند ليتأكد من توفر شروط الصحة فيه قبل أن يجزم بصحته ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، قوله  في كتاب الزكاة : قال طاووس  عن معاذ رضي الله عنه ، فطاووس لم يدرك معاذا رضي الله عنه ، فكأن البخاري  بتعليقه لهذا الحديث يلفت النظر إلى هذا الإنقطاع .    

 

 

 

المعلقات بصيغة التمريض :

يقول ابن الصلاح  : (وما كان منها (أي المعلقات) ، بصيغة التمريض ، فلا يستفاد منها صحة ، ولا تنافيها أيضا ، لأنه قد وقع من ذلك كذلك ، وهو صحيح ، وربما رواه مسلم  ) .

وقد ذكر الشيخ الحميد حفظه الله 4 احتمالات لصنيع البخاري  في هذا الأمر وهي أنه :

 

ربما كان الحديث صحيحا ، بل وأورده البخاري  في موطن آخر من صحيحه مسندا كأصل محتج به ، ولكنه في الموطن الذي علقه فيه بصيغة التمريض ، رواه بالمعنى أو تصرف في متنه باختصار أو نحوه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث الرقيا بفاتحة الكتاب ، وهو حديث قصة سعيد الخدري رضي الله عنه لما رقى سيد القوم الذين امتنعوا عن ضيافتهم بفاتحة الكتاب لما لدغ ، حيث أورده مسندا في موضع ، ثم علقه بصيغة التمريض في موطن آخر فقال : ( ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، لأنه في هذا الموطن تصرف في معناه ، لأن الحديث لم يذكر فيه صراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الرقيا كانت بفاتحة الكتاب ، وإنما جاء هذا ضمن الحديث .

 

ربما كان الحديث صحيحا ، بل وأخرجه مسلم  في صحيحه ، ولكن البخاري  يرى أنه غير صحيح ، وهذا ما يؤيد قول ابن الصلاح  السابق .

 

ربما كان الحديث مرويا بإسناد ضعيف ، ولكن له ما يجبره .

 

ربما كان الحديث ضعيفا لا يصح ، وهذا ينص عليه البخاري في الغالب ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك حديث النهي عن التطوع في نفس المكان الذي صليت فيه الفريضة ، حيث قال  : ويذكر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتطوع المصلي في المكان الذي صلى فيه ، فقد عقبه بقوله : (ولا يصح) ، وهذا الحديث عند أبي داود بإسناد فيه مجهول .

 

وهناك احتمال خامس ، ذكره د/ عادل عبد الغفور حفظه الله (عميد معهد علوم القرآن والحديث بالقاهرة) ، وهو أن البخاري  قد ذكر هذا الحديث معطوفا على رواية ضعيفة .       

 

وبعد الإنتهاء من مسألة المعلقات ولله الحمد ، تأتي مسألة أخرى برز فيها الإختلاف بين الشيخين  ، وهي مسألة تراجم الأبواب وتفصيلها كالتالي :

التراجم عند مسلم  :

لم يترجم مسلم  لأبوابه ، ولكن العلماء  وضعوا تراجم لأبوابه ، ومن أهم من اعتنى بذلك النووي  في شرحه للصحيح ، والقاضي عياض  ، والحافظ المنذري  ، والقرطبي  ، وقد مال الشيخ الحميد حفظه الله إلى تفضيل تراجم القرطبي في اختصاره وشرحه لصحيح مسلم ، حيث اختصر الكتاب أولا بتجريد الأحاديث من أسانيدها ، ثم شرح هذا المختصر ، ويعلق الشيخ الحميد حفظه الله على تبويبات القرطبي ، بأنه تأثر في بعض المواضع بتراجم أبي نعيم في مستخرجه ، وأما تراجم النووي رحمه الله ، فيقول عنها الشيخ بأن فيها شيئا من الطول .

 

التراجم عند البخاري  : 

وهي تحتاج إلى بعض الإسهاب ، كمسألة المعلقات عند البخاري  ، وقد لخص الشيخ الحميد حفظه الله صنيع البخاري  في تراجمه في 3 نقاط :

أن البخاري  يورد آيات الأحكام في أول أبواب كتابه ، ويوزعها بحسب تناسبها مع أبوابها ، فكأنه  يجعلها أصلا ، لأن القرآن لا نزاع في ثبوته ، ثم يورد ما صح من الأحاديث على شرطه وما يمازجها من المتابعات والموقوفات .

 

أنه في بعض الأحيان يورد المعلقات في بعض الأبواب ، ويجرده من الأحاديث المسندة ، وهذا دليل على أنه لا يثبت في الباب شيء عنده ، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بذلك ، لأنه قد توجد أحاديث صحيحة في هذه الأبواب ، بل وصححها البخاري  خارج الصحيح ولكنه لم يوردها في الصحيح لأنها خارج شرطه .

 

أنه في بعض الأحيان ، يذكر الترجمة ويجرد الباب تماما من أي حديث ، ويقع الإشكال إذا ما أتبع هذه الترجمة المجردة بباب لم يترجم له ، فيأتي بعض النساق ويركب هذه الترجمة المجردة على ذلك الباب غير المعنون رغم انعدام الصلة بينهما ، وهذا بلا شك يسبب حيرة كبيرة لمن أراد معرفة المناسبة بينهما ، وهذا كما يقول الحافظ ابن حجر  التفسير المقبول لوجود بعض الأحاديث التي لا تظهر لها مناسبة مع أبوابها .   

 

وقد تكلم الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في بحثه المختصر عن صحيح البخاري ، عن مسألة التراجم فقال :

وصف الحافظ ابن حجر تراجم صحيح البخاري بكونها حيّرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار, وبكونها بعيدة المنال منيعة المثال انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه وقد فصّل القول فيها في مقدمة الفتح وذكر أن منها ما يكون دالا بالمطابقة لما يورده تحتها .

وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو معناه .

وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام حيث لا يجزم بأحد الاحتمالين ، وقد أفاد ابن حجر والعيني بأن معنى قول البخاري في ترجمته لحديث أنس رضي الله عنه : كان قرام لعائشة ، سترت به جانب بيتها ، ...... الحديث ، : باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته ؟ وما ينهى عن ذلك ، هو استفهام على سبيل الإستفسار ، جرى البخاري في ذلك على عادته ، في ترك القطع في الشيء الذي فيه اختلاف لأن العلماء اختلفوا في النهي الوارد في الشيء ، فإن كان لمعنى في نفسه ، فهو يقتضي الفساد فيه ، وإن كان لمعنى في غيره فهو يقتضي الكراهة أو الفساد ، فيه خلاف . (القول المبين في أخطاء المصلين ص49_50) . 

وكثيرا ما يترجم بأمر لا يتضح المقصود منه إلا بالتأمل كقوله: "باب قول الرجل ما صلينا" فإن غرضه الرد على من كره ذلك .

وكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه .

أو يأتي  بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة ويورد في الباب ما يؤدي معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي .

وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معه أثرا أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطه ، لهذه الأمور وغيرها اشتهر عن جمع من الفضلاء قولهم: "فقه البخاري في تراجمه". 

 

مسألة : من أول من ألف في الصحيح ؟

المشهور المعتمد عند العلماء  ، أن البخاري  هو من ألف في الصحيح المجرد ، ولكن الحافظ مغلطاي ، ذهب إلى أن الدارمي  هو أول من ألف في الصحيح المجرد ، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر  بقوله بأن سنن الدارمي  لا يمكن اعتبارها من كتب الصحيح المجرد ، لأن مؤلفها لم يشترط ذلك ، فهي أقرب إلى كتب السنن منها إلى كتب الصحاح المجرد ، وذهب مغلطاي في قول آخر له نقله الدكتور عبد العزيز عزت في رسالته (الإمام ابن ماجة صاحب السنن) ، إلى أن أول من صنف الصحيح هو مالك ، وعلق الحافظ  على هذا بقوله : كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الإحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما ، ويعلق الحافظ السيوطي  في تنوير الحوالك على قول الحافظ بقوله : فيه من المراسيل ، فإنها مع كونها حجة عنده (أي عند مالك ) ، بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة على الإحتجاج بالمرسل ، فهي حجة أيضا عندنا ، لأن المرسل عندنا حجة إذا اعتضد ، وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد ، فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح كله لا يستثنى منه شيء ، ومن الجدير بالذكر في هذا الموطن أن مراسيل مالك ، وإن لم تعضد ، هي من المراسيل القوية ، حتى قدمها بعض العلماء على مراسيل طبقة التابعين ، التي تعلو طبقة مالك  ، وذلك لشدة تحريه ، وتقدمه على من سواه في معرفة أحوال رواة أهل المدينة .

وممن تكلم في هذه المسألة ، الصنعاني  في توضيح الأفكار حيث قال : أول من صنف في جمع الصحيح البخاري وهذا كلام الشيخ ابن الصلاح  ، قال الحافظ  إنه اعترض عليه الشيخ مغلطاي  فيما قرأه بخطه فإن مالكا أول من صنف الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمي ، قال : وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد فلا يرد كتاب مالك لأن فيه البلاغ والموقوف والمنقطع والفقه وغير ذلك لوجود ذلك في كتاب البخاري ، ولكن الرد المتبادر إلى الذهن في هذه المسألة ، أن هذه المقطوعات أصل عند مالك  ، بينما هي ليست كذلك عند البخاري  ، فهي خارج شرطه . 

 

مسألة : الثلاثيات عند البخاري  :

اشتهر البخاري  من بين أصحاب الكتب الستة ، بإكثاره من الأحاديث الثلاثية ، وقد ذكر الدكتور عبد العزيز عزت أنها 22 حديثا ، وغالبها من طريق مكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، وقد جمعها الحافظ ابن حجر  في مصنف مستقل ، وأما مسلم  فإنه لم يخرج أي حديث ثلاثي في صحيحه ، وأعلى أسانيده رباعية ، ونزول سنده النسبي هو ما شجع كثيرا من المستخرجين على استخراج أحاديث كتابه من طرق لهم بأسانيد أعلى .

 

مسألة :  إذا ساق البخاري الحديث عن أكثر من شيخ له ، فاللفظ للأخير ، كما أشار إلى ذلك الحافظ رحمه الله في الفتح ، ويعلق الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله بأن هذه القاعدة أغلبية استنبطها الحافظ بإستقراءه وتتبعه ، لأن لها بعض الشواذ ، كحديث قال فيه البخاري : أخبرنا يونس ومعمر ، فطبقا للقاعدة يكون معمر هو صاحب اللفظ ، ولكن الحافظ يعلق في الفتح بقوله : أما باللفظ فعن يونس ، وأما بالمعنى فعن معمر .

 

مسألة : الزيادات على الصحيحين :

وممن تعرض لهذه المسألة بالتفصيل الشيخ عبد الرحمن الفقيه حفظه الله ، حيث بدأ بذكر تعريف الزوائد والزيادات والفرق بينهما فقال حفظه الله :

عرَّف الكتاني  كتب الزوائد بأنَّها :
الأحاديث التي يزيد بها بعض كتب الحديث على بعض آخر معيَّن .
وذكر حفظه الله تعريف الدكتور خلدون الأحدب :
علمٌ يتناول إفراد الأحاديث الزائدة في مصنَّف رويت فيه الأحاديث بأسانيد مؤلفه ، على أحاديث كتب الأصول الستة أو بعضها من حديث بتمامه لا يوجد في الكتب المزيد عليها ، أو هو فيها عن صحابي آخر ، أو من حديث شارك فيه أصحاب الكتب المزيد عليها أو بعضهم ، وفيه زيادة مؤثرة عنده .
ويستخلص من التعريفين السابقين عدّة نقاط:
أولاً : أنَّ المراد بالزوائد أحاديث زائدة في كتاب على كتاب آخر، وهذه الزيادة مطلقة، وقد تكون الزيادة في سند أو متن حديث اشتركا في إخراجه وهذه الزيادة نسبية .
ثانيا ً: أنَّ مؤلف الكتاب الذي احتوى على الزوائد لا علاقة له بمؤلف الكتاب المزيد عليه، فتأليف كل واحد منهما لكتابه استقلالاً.
ثالثاً : أنَّ إبراز زوائد الكتاب المزيد عليه جاء في فترة متأخِّرة ومن إمام متأخر عنهما.
وتتجلَّى هذه النقاط واضحة في استعراض المؤلفات في الزوائد، وهي كثيرة أقتصر على ذكر بعضها ، وهي :
1
ـ مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (ت273هـ):
يعني على الكتب الخمسة المشهورة (صحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي).
ومؤلفه هو الحافظ شهاب الدِّين أحمد بن أبي بكر البوصيري (ت840هـ).
2
ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:
وهو زوائد مسند الإمام أحمد (ت241هـ) ، وأبي يعلى الموصلي (ت307هـ) ، والبزار ، ومعاجم الطبراني الثلاثة ، الكبير والأوسط والصغير (ت360هـ) ، على الكتب الخمسة السابقة إضافة إلى سنن ابن ماجه وهي ما تُعرف بالكتب الستة.
ومؤلفه هو الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ) .
3
ـ المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية:
وهو زوائد مسند الطيالسي (ت204هـ)، والحميدي (ت219هـ)، ومسدد (ت228هـ)، وابن أبي عمر (ت243هـ)، وأحمد بن منيع (ت244هـ)، وابن أبي شيبة (ت235هـ)، والحارث بن أبي أسامة (ت282هـ)، وعبد بن حميد (ت249هـ) على الكتب الستة .
ومؤلِّفه الحافظ شهاب الدِّين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) .
هذا فيما يتعلَّق بالزوائد ، أما الزيادات ، فلم أقف على مَّن تعرَّض لها بتعريف يُحدِّدها، لكن من خلال النظر في عمل أصحاب الزيادات يُمكن أن أقول (أي الشيخ عبد الرحمن الفقيه حفظه الله) إنَّها:
الأحاديث التي يرويها راوية كتاب ما على مؤلف ذلك الكتاب ، إمَّا استخراجاً عليه ، فيلتقي معه في شيخه أو شيخ أعلى ، أو استقلالاً بإيراده حديثاً مختلفاً في سنده ومتنه .
والفرق بينها وبين المستخرجات أنَّ شرط الزيادات أن تكون من راوية ذلك الكتاب عن مصنِّفه ، في حين أنَّ مؤلفي المستخرجات ليسوا من رواة الكتاب المستخرج عليه ، ثم إنَّه لا يُشترط في ذلك الراوي أن يكون تلميذا مباشرا للمؤلف بل قد تكون الزيادات من تلميذ أنزل منه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، زيادات عبد الله بن أحمد  على مسند أحمد  ، وهو تلميذ مباشر له ، وزيادات أبي بكر القطيعي  على نفس الكتاب ، رغم أنه ليس تلميذا مباشرا لأحمد  ، وإنما هو تلميذ لإبنه عبد الله  ، ثم شرع الشيخ الفقيه حفظه الله في سرد بعض الأمثلة على الزيادات ، ومن أبرزها ، الزيادات على الصحيحين :

أولا: صحيح الإمام البخاري   :
وعليه زيادات محمد بن يوسف الفربري راوية الكتاب عن البخاري .

ثانيا ً: صحيح الإمام مسلم  :
وعليه زيادتان:
أ ـ زيادات أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان ، راوية الكتاب عن مسلم .
ب ـ زيادات أبي أحمد محمد بن عيسى الجُلودي ، راوية الكتاب عن ابن سفيان .

 

 

ويأتي بعد الصحيحين ، سنن النسائي وهو مقدم على بقية السنن وعلى صحيحي ابن خزيمة وابن حبان  ، مع ملاحظة أن هذا في الأحاديث التي لم ينتقدها النسائي وأما الأحاديث التي ينتقدها النسائي فقد أخرجها النسائي من دائرة الصحة بإعلاله لها ، وقد قال الحافظ  في نتائج الأفكار بأن سكوت النسائي  عن الحديث يقتضي أن الحديث لا علة له عنده .

هل سنن النسائي (المجتبى) كتاب في الصحيح ؟

اختلف العلماء  في هذه المسألة على قولين :

القول الأول :

أن كتاب المجتبى كتاب صحيح واستدل من ذهب لهذا الرأي بما يلي :

تسمية الحافظ أبو علي بن السكن والخطيب وابن مندة وأبو علي النيسابوري كتاب النسائي  بالصحيح ، وكذا قال ابن عدي  عندما ذكر رجلا خرج النسائي حديثه فقال : (خرج له النسائي  في صحاحه) فوصف السنن بالصحاح ، وقال ابن رشيد رحمه الله : كتاب النسائي أفضل كتب السنن ، ويعلق الشيخ الحميد حفظه الله على هذا الرأي بقوله : إن صح ذلك ، فإن هذا يعني المقدار الذي أخرجه من الصحيح ، مع تنبيهه على الضعيف ، (فخرج بذلك من عهدته) ، وأما أن يقال بأنها كلها صحيحة ، فهذا فيه نظر .

نقل ابن الأحمر  عن النسائي  قوله بأن كتابه السنن الصغرى صحيح ، وقد ذكر السيوطي  هذا القول بلا إسناد ، وسماه الذهبي  بالصحيح في تذكرة الحفاظ ، وكذا ابن عدي (كما تقدم) والخطيب وأبو أحمد الحاكم 

أن النسائي  جرد السنن الكبرى من الأحاديث غير الصحيحة ، وذهب الحافظ الذهبي  إلى أن المجتبى هو ما انتخبه ابن السني (تلميذ النسائي) من السنن الكبرى ، ويأتي الكلام على هذه المسألة بالتفصيل إن شاء الله ، وأيا كان الأمر فإن هذا يؤيد الرأي القائل بأن أحاديث المجتبى (أي السنن الصغرى) منتقاة من السنن الكبرى وعلى هذا يكون كل ما فيها صحيح

أن كتاب المجتبى أقل السنن حديثا ضعيفا ورجلا مجروحا ودرجته بعد الصحيحين فهو من حيث الرجال مقدم على سنن أبي داود والترمذي لشدة تحري مؤلفه في الرجال ، وقد قال الحافظ : (كم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي   تجنب النسائي  إخراج حديثه ، بل تجنب إخراج حديث جماعة في الصحيحين) ، ولما ذكر ابن طاهر  لشيخه سعيد الزنجاني  أنه وجد النسائي  أعرض عن رجال خرج لهم في الصحيحين ، قال له سعيد : يا بني ، إن للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط البخاري ، ويعلق الشيخ السعد على هذه الرأي ، بقوله إن فيه نوعا من المبالغة ، فلا شك في أن صحيح البخاري أصح وأعلى شرطا من سنن النسائي  ، وللدارقطني جزء صغير في الرجال الذين خرج لهم البخاري  وأعرض عنهم النسائي كإسماعيل بن أبي أويس ، وبالجملة فشرط النسائي في المجتبى هو أقوى الشروط بعد الصحيحين . (مذكرة مصطلح الحديث للشيخ ابن عثيمين  ص39 ، مكتبة العلم) .

 

وقد مال الشيخ السعد حفظه الله إلى إطلاق هذه التسمية على سنن النسائي وقال بأن نسبة كبيرة جدا من أحاديث المجتبى صحيح ، وعليه فلا مانع من إطلاق هذا الوصف على المجتبى .

 

القوال الثاني :

أما أصحاب الرأي المخالف فقد ردوا بما يلي :

قالوا بأن في السنن الصغرى أحاديث ضعيفة ، ومعللة ومنكرة ، وممن ذهب إلى ذلك ابن كثير في اختصار علوم الحديث ، وأنكر ابن كثير  القول بأن له شرطا في الرجال أشد من مسلم  وقال بأن في السنن الصغرى رجالا مجهولين : إما عينا أو حالا ، وفيهم المجروح ، وقد قال هذا في معرض رده على الحافظ أبي علي بن السكن والخطيب  . (الباعث الحثيث ص44 ، طبعة مكتبة السنة) .  

وأما بالنسبة لتجريد السنن الكبرى من الأحاديث غير الصحيحة فإن هذا غير مسلم به ، لأن بعض الكتب الموجودة في الكبرى قد حذفت بأكملها ككتاب التفسير وكتاب الأذكار ، وبعض الكتب أدرجت في السنن الصغرى كاملة بما فيها من الأحاديث الضعيفة والمعلولة .

 

وأما القول بأن شرطه في المجتبى في الرجال أعلى من شرط مسلم ، فقد سبق الرد عليه ، وإن كنا نسلم بأن شرط النسائي  في الرجال (عموما وليس في المجتبى إذا ما قورن بصحيح مسلم ) ، أعلى من شرط مسلم  ، وجدير بالذكر أن الذهبي والسبكي  قد قدما النسائي  على مسلم  في الصناعة الحديثية ، وهذا ما مال إليه الشيخ السعد حفظه الله .

 

ومن الأمور الجديرة بالذكر أن قول ابن حجر  بأن سكوت النسائي  عن الحديث يقتضي أن الحديث لا علة له عنده يشمل كتابي السنن الكبرى والصغرى ، وقد توسع النسائي  في شرح العلل في الكبرى وخاصة في كتابي (عمل اليوم والليل وعشرة النساء) ، حتى عده بعض أهل العلم من كتب العلل ، وهو  ، لا يصرح بتعليلاته ، وإنما يسوق الروايات بقصد تعليل الأخبار ، فيعلل بسرد الروايات .

 

مسألة : أسانيد النسائي رحمه الله :

أسانيد النسائي بشكل عام ، أسانيد عالية ، فقد روى عن قتيبة بن سعيد وأبي داود وابن راهويه ومحمد بن بشار ، وهذا راجع لتبكيره بالسماع ، ومن الملاحظات المهمة في سنن النسائي  ، أنه لا يوجد فيها أي حديث ثلاثي الإسناد ، وأعلى أسانيدها رباعي ، وربما كان هذا ناتجا من شدة تحريه ، حتى أنه ترك حديث ابن لهيعة  من طريق قتيبة  ، وهي طريق عالية ، كما نبه إلى ذلك الدارقطني ، والأحاديث النازلة عند النسائي رحمه الله هي الأحاديث العشارية ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث أبي أيوب رضي الله عنه في فضل قراءة سورة الصمد ، حيث قال عنه النسائي رحمه الله : لا أعرف في الدنيا إسنادا أطول من هذا الإسناد ، والسبب أن في سنده 6 أو 7 من التابعين ، يروونه عن بعضهم البعض .

   

 

مسألة : سماع النسائي من البخاري رحمه الله :

اختلف العلماء ، كما يقول الشيخ سعد الحميد حفظه الله ، في هذه المسألة على قولين :

أنه لم يسمع من البخاري ، كما ذهب إلى ذلك المزي رحمه الله ، حيث قال بأن رواية النسائي عن محمد بن إسماعيل (البخاري) ، هو تصرف من بعض الرواة .

أنه سمع منه ، وهذا رأي السخاوي رحمه الله .

 

مسألة : روايات سنن النسائي رحمه الله :

أبرزها رواية ابن سيار ورواية ابن الأحمر ، وهما أندلسيان .

 

مسألة : تقسيم ابن طاهر المقدسي رحمه الله لأحاديث سنن النسائي :

أحاديث مخرجة في الصحيحين ، وهي الأكثر .

أحاديث على شرط الشيخين ، ولم يخرجاها .

أحاديث معللة خرجها النسائي ، وبين عللها ، بطريقة يفهمها أهل الصنعة ، كقوله على سبيل المثال : ذكر اختلاف الناقلين لهذا الخبر عن فلان ، ويكون هذا الراوي هو الذي تدور عليه أسانيد الحديث .

 

 

 

مسألة : هل السنن الصغرى من انتخاب النسائي رحمه الله ؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين ، وقد سبق ذكر طرف من هذا الخلاف ، عند الكلام على صحة أحاديث سنن النسائي ، ونعرض هنا لهذه المسألة بالتفصيل ، إن شاء الله :

فقد ذهب الحافظ الذهبي  إلى أن المجتبى هو ما انتخبه ابن السني (تلميذ النسائي) من السنن الكبرى ، ووافقه على هذا الرأي ابن ناصر الدين الدمشقي ، وظاهر صنيع المنذري في شرحه لسنن أبي داود ، والمزي في تحفة الأشراف وتهذيب الكمال ، يؤيد هذا الرأي ، فالمنذري إذا عزا حديثا للنسائي فإنه يعزوه للكبرى ، والمزي ، خرج أحاديث الكبرى في التحفة ، وعندما تكلم على رجال النسائي في تهذيب الكمال ، تكلم على رجال الكبرى ، وهذا بمفهومه يدل على أنهما يريان أن الكبرى هي سنن النسائي التي صنفها ، بينما الصغرى هي انتخاب ابن السني ، ومما استند إليه أصحاب هذا الرأي هو تكرار لفظ : "قال ابن السني" ، وهذا ليس بمستند قوي لأن طريقة المتقدمين في التصنيف يذكر فيها الراوي في أصل الكتاب ، كما في مسند أحمد (فيما عدا زيادات ابنه عبد الله "راوي المسند") ، حيث نجد لفظ "حدثنا عبدالله ، قال : حدثنا : أبي ، وكذا في كتاب "الأم" للشافعي ،  وأما ابن الأثير وابن كثير والعراقي والسخاوي فاعتمدوا في تأييد هذا الرأي على حكاية فيها أن أمير الرملة طلب من النسائي انتخاب الصحيح من الكبرى ، وهي حكاية منقطعة لاتصح ، وواقع المجتبى يؤيد عدم صحتها ، ففيه أحاديث ضعيفة ، ومعللة ، ومنكرة ، فكيف يطلب منه انتخاب الصحيح ، ومع ذلك ينتخب أحاديث كثيرة معلولة ضمن المجتبى ، بل إن بعض أحاديثه ، أعلها بنفسه ، فعلى سبيل المثال :

نجد النسائي حكم على رجال بأنهم متروكون ، ومع ذلك خرجت أحاديثهم في المجتبى ، منهم : أيوب بن سويد الرملي ، وسليمان بن أرقم وإسماعيل بن مسلم وعبد الله بن جعفر ، وخرج أيضا في الصغرى لمصعب بن شيبة ، وقد قال فيه : منكر الحديث ، وخرج لأبي ميمون ، وقد قال فيه : لا أعرفه ، وعلى الجانب الآخر نجد أحاديث صحيحة في الكبرى لم ينتخبها النسائي في المجتبى ، وهذا عكس المقصود من حكاية أمير الرملة .

ومن الأدلة التي استدل بها من قال بأن النسائي هو مصنف المجتبى ، هو أنها جاءت من رواية ابن السني عن النسائي ، والرد على ذلك ، أننا نجد كثيرا من الكتب الحديثية التي لها أكثر من رواية ، يحصل في رواياتها اختلاف بالزيادة أو النقص ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

روايات موطأ مالك ، كرواية يحيى بن يحيى الليثي ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، وغيرها ، وهذا الأمر ينطبق أيضا على السنن الكبرى ، ففي كل رواية لها ما ليس في الأخرى ، بل قد يصل الأمر إلى زيادة رواية على الأخرى كتبا بأكملها ، وممن أشار إلى هذا المزي رحمه الله في تحفة الأشراف ، حيث يعزو الحديث الذي يذكره من سنن النسائي في التحفة إلى الرواية التي خرجت هذا الحديث ، فيقول على سبيل المثال : هذا من رواية ابن الأحمر ، وهذا من رواية ابن سيار ، وهكذا ، وعليه ، فليس يبعد أن المجتبى هو أحد روايات الكبرى ، ترك فيها ابن السني رواية تلك الأحاديث والأبواب المحذوفة ، أو أنه انتخبها بنفسه . 

 

وهناك ملاحظة مهمة جدا ، وهي أن الإجتباء ليس على قاعدة منضبطة ، فقد حذفت من المجتبى كتب بأكملها ، كالتفسير وفضائل القرآن وفضائل علي وفضائل الصحابة ، رغم أن فيها أحاديث كثيرة صحيحة ، بل ومخرجة في الصحيحين ، فكيف يتركها النسائي ، وعلى الجانب الآخر نجد في المجتبى كتبا بأكملها ليست الكبرى ، كالصلح والإيمان وشرائعه ، وكذا نجد في المجتبى زيادات متون وأسانيد وتراجم أبواب (كباب النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة) ، واستنباطات فقهية ، ليست في الكبرى ، وهذا مما يؤيد أن المجتبى هو أحد روايات الكبرى .

 

والنسائي من المتشددين في الجرح ، فلا يخرج لمن اجتمع النقاد على ترك حديثه ، حيث قال : بأنه بأنه لا يترك حديث الرجل حتى يجمع أهل بلده على ترك حديثه ، وهذا من المواضع التي تظهر فيها أهمية مسألة بلدية الراوي ، وقد يخرج لمن اختلف في حاله ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك : تخريجه لحديث جابر رضي الله عنه ، في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم عليا في موسم الحج من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم  ، وهو مختلف في حاله ، وقد أشار النسائي رحمه الله لهذا الإختلاف بقوله : وابن خيثم ليس بالقوي في الحديث ، ولم يتركه ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ، وقال ابن المديني رحمه الله : منكر الحديث ، وكأن ابن المديني خلق للحديث . اهـ ، فهذا راو مختلف في حاله ، ومع ذلك خرج له النسائي ، والراجح أنه صدوق حسن الحديث ، وقد يتركه كما ترك ابن لهيعة رغم أن حديث ابن لهيعة كان عنده من طريق قتيبة بن سعيد التي أثنى الإمام أحمد عليها ، وهذا يدل على شدة تحريه  ، وقد أثنى العلماء كأبي طالب أحمد بن نصر الحافظ على صنيعه هذا ، حيث قال  : من يصبر على ما يصبر عليه النسائي؟! عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة يعني عن قتيبة عن ابن لهيعة ، قال: فما حدث بها . وجدير بالذكر أن النسائي يوثق الطبقة المتقدمة من التابعين بإطلاق ، كما أشار إلى ذلك الشيخ المعلمي رحمه الله .  

والنسائي  شديد التحري في ذكر طريقة تحمله للحديث ، فعلى سبيل المثال ، عندما منعه الحارث بن مسكين  من حضور مجلسه لما أتاه في زي أنكره ، وكان الحارث خائفا من أمور تتعلق بالسلطان ، فخاف أن يكون عينا عليه ، فمنعه ، وقيل بأن الخلاف بينهما هو خلاف بين الأقران ، فكان النسائي يقعد خلف الباب ويسمع حديث الحارث  ومع ذلك لم يستجز أن يقول حدثنا ، وإنما قال : قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع ، كما ذكر ذلك ابن الأثير في أول جامع الأصول .

 

وأما بالنسبة للنسائي  فقد وصف ببعض التشيع ، وهذا لايضره  في شيء ، (وسيأتي الكلام على ذلك بالتفصيل عند الكلام على الحاكم ) ، وقد قيل بأنه  تعمد إظهار هذا التشيع أمام أهل الشام لما رأى منهم ميلا عن أهل البيت رضوان الله عليهم ، وكان هذا من أسباب تأليفه لكتاب (خصائص علي) ، فلما أنكر عليه تركه لفضائل الشيخين رضي الله عنهما ، ألف في فضائل الصحابة ، ولم يخرج في فضائل معاوية رضي الله عنه شيئا ، لأنه لم يصح عنده فيها شيء على شرطه ، (وقد وافق شيخه ابن راهويه في هذه المسألة) وكان هذا سبب منع أحمد بن صالح النسائي من حضور مجلسه ، ولذا لم يقبل العلماء كلام النسائي في أحمد بن صالح لما وقع بينهما من الخصومة نتيجة ذلك ، وقيل بأن أحمد بن صالح رحمه الله كان عسر الرواية ، لا يسمح لأحد بحضور مجلسه ، إلا إذا أتى برجلين يزكيانه ، فترك النسائي الرواية عنه .

وقد أشار العراقي إلى هذا في ألفيته فقال :

وربما رد الكلام الجارح         كالنسائي في أحمد بن صالح .

 

مسألة : أبرز مصنفات النسائي رحمه الله :

من أبرز مصنفاته ، بالإضافة إلى السنن ، كتاب الكنى ، ولم يصل إلينا ، وكتاب حديث مالك بن أنس ، وقد ذكر المزي رحمه الله أحاديثه في التحفة ، وذكر رجاله في تهذيب الكمال ، وينبه الشيخ الحميد حفظه الله في هذا الموضع ، إلى أن النسائي رحمه الله ، كان كلفا بتصنيف مسانيد للأئمة .

 

بعض معالم منهج النسائي رحمه الله في سننه :

أنه ربما وجد في الباب حديثا صحيحا ، فيخرجه ويخرج معه أحاديث ضعيفة ، تحوي زيادات لم يشتمل عليها هذا الحديث الصحيح ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك : حديث سعيد بن سلمة عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن أنس رضي الله عنه : (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن …) ، حيث علق النسائي رحمه الله بقوله : سعيد شيخ ضعيف ، وإنما أخرجناه للزيادة في الحديث .

اهتمام النسائي رحمه الله ، بالجوانب الفقهية ، وإن كان الترمذي رحمه الله يفوقه في هذه الجوانب .

وهو يشابه البخاري في تكراره للحديث في المواضع التي يصلح فيها الإستدلال به ، حتى قيل بأن كتابه هو أكثر الكتب تكرارا للحديث ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث : (إنما الأعمال بالنيات …) ، حيث كرره 16 مرة .

وهو مقل من النقل عن الفقهاء ، ومن الأمثلة على ذلك ، نقله عن مسروق رحمه الله فتوى في الهدية والرشوة .

وهو يختصر الحديث أحيانا ، ويقتصر على موضع الشاهد منه ، وهو بصنيعه هذا ، يشابه البخاري وأبا داود وابن خزيمة .

والنسائي رحمه الله ، يعلق أحيانا على الحديث ، كما يظهر من صنيعه في كتاب المزارعة ، وقد يطول تعليقه حتى يصل إلى الصفحتين .

أنه رحمه الله يورد الأحاديث المتعارضة في الباب الواحد ، وهذا يعني أنه يرى العمل بكلا الرأيين ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، تخريجه لأحاديث الجهر وعدم الجهر بالبسملة .

تسميته لبعض المكنين ، كتسميته لأبي عمار : عريف بن حميد ، وتكنيته لبعض المسمين ، وقد سبق أن له مصنفا مستقلا في الكنى ، ولكنه مفقود .

وهو يحكم أحيانا على أحاديثه ، فيقول مثلا : حديث منكر ، ثابت ، ليس بمحفوظ ، صحيح ، …

كلامه على الرواة جرحا وتعديلا ، وقد جمعه أحد الباحثين المعاصرين في مصنف مستقل : (المستخرج من سنن النسائي في الجرح والتعديل) ، وقد أورد ابن حجر رحمه الله ، كلام النسائي في الرواة ، في تهذيب التهذيب ، وكلامه رحمه الله ، إما أن يكون في السنن أو في الضعفاء .

معظم أحاديث كتابه مسندة ، ولا يورد شيئا من المعلقات ، وينبه الشيخ الحميد حفظه الله ، إلى أن المقدار الذي وجد على صورة المعلق ، هو حديثان فقط .  

نبه الأخ أبو بيان حفظه الله ، (أحد أعضاء ملتقى أهل الحديث) ، إلى قاعدة مهمة في رجال النسائي ، ذكرها الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي صالح باذام :
قال عنه النسائي: (ليس بثقة) , قال الذهبي : كذا عندي , والصواب: (بقوي) , فكأنَّها تصَحَّفت ،
فإن النسائي لا يقول: (ليس بثقة) في رجل مُخَرَّج في كتابه ، سير أعلام النبلاء 5/37- 38.

   مسألة : إذا أطلق لفظ "رواه النسائي" ، فهل يعني هذا العزو إلى "الكبرى" أم "الصغرى" :

ذهب ابن الملقن إلى أن العزو في هذا اللفظ يكون "للكبرى" ، بينما ذهب السيوطي في "تدريب الراوي" ، إلى أنه يكون "للصغرى" .

 

 

 

 

وأما بالنسبة لصحيحي ابن خزيمة وابن حبان , فإن الغالب على كتابيهما الصحة ، والأحاديث المنقطعة عند ابن حبان  أكثر والضعفاء عنده أكثر (فهو  متساهل في توثيق المجاهيل ، وخاصة في طبقة التابعين ، لأن العدالة غالبة على طبقتهم ، وإنما يخشى فقط من سوء حفظهم) ، وأما ابن خزيمة  فكتابه أصح ، وإن كان  قد تساهل في بعض أحاديث الفضائل كما حدث في حديث علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان رضي الله عنه في فضيلة شهر رمضان : (أوله رحمة …) الحديث ، ويعتذر لإبن خزيمة  بأنه قال في تعليقه على إيراده لهذا الحديث : (إن صح هذا الخبر) ، وإذا أردنا أن نلقي نظرة سريعة على منهج الإمامين ابن خزيمة وابن حبان  في كتابيهما يتضح لنا ما يلي :

أنهما  من المتساهلين في توثيق الرواة ، وإن كان ابن خزيمة أحسن حالا من ابن حبان ، حيث أنهما اعتمدا قاعدة تنص على أن الأصل في الرواة العدالة حتى يثبت عكسها ، فمقياس العدالة عندهما إسلام الراوي ، كما ذكر ذلك الحافظ رحمه الله في لسان الميزان ، وهذا خلاف ما ذهب إليه الجمهور من أن العدالة قدر زائد على الإسلام .

أنهما اشترطا شروطا فيها لين ولكنهما وفيا بها في أغلب الأحيان ، خلاف الحاكم  الذي اشترط أعلى شروط الصحة بإستدراكه على الشيخين  ما فاتهما مما هو على شرطهما ، ولكنه لم يوف بما اشترطه ووهم  في أغلب الأحيان .

أن الحسن قسم من الصحيح عندهما وليس قسيما له وهذا ما يجعل الناقد يتوقف في قبول تصحيحهما إلا بعد دراسة السند دراسة وافية وهذا ما أكد عليه الحافظ  في النكت في معرض نقده لإبن الصلاح  .

ومن الملاحظ على صحيح ابن حبان ، أن ترتيبه مخترع ، فلا هو على الأبواب ولا هو على المسانيد ، ولهذا أسماه "التقاسيم والأنواع" ، والكشف على الحديث من كتابه هذا عسر جدا ، وقد رتبه الأمير علاء الدين أبو الحسن علي بن بلبان  وسماه "الإحسان في تقريب ابن حبان" .

 

وسوف أستعرض في هذا الموطن ، إن شاء الله ، ببيان موجز أهم ملامح منهجي ابن خزيمة وابن حبان  ، وإن كان هذا خارجا عن موضوع المحاضرات الأساسي ، لأنه أدعى إلى جمع المادة العلمية في موضع واحد ، وقد استفدتها من محاضرات الشيخ سعد الحميد حفظه الله ، وأبدأ إن شاء الله بإبن خزيمة  :

بداية لابد من التذكير بأن صحيحي ابن خزيمة وابن حبان  ومستدرك الحاكم  ، هي أهم ما ألف في الصحيح بعد الصحيحين ، ومن أبرز من أكد على ذلك ابن الصلاح والعراقي والسيوطي وأحمد شاكر  ، وذكر الخطيب البغدادي  أحق الكتب بالسماع فذكر الصحيحين ، ثم ذكر كتبا ، ثم قال : وكتاب محمد بن إسحاق  (أي ابن خزيمة) ، الذي اشترط فيه اخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر السيوطي  في مقدمة جمع الجوامع ، الكتب التي إذا عزا إليها حديثا من الأحاديث ، فهو صحيح عنده ، وإن لم ينص على ذلك ، وذكر منها صحيح ابن خزيمة  ، وأكد ابن كثير  على جودة كتاب ابن خزيمة  في معرض ذكره للزيادات على الصحيحين في اختصار علوم الحديث فقال  : (وكتب أخر التزم أصحابها صحتها ، كابن خزيمة  وابن حبان البستي  وهما خير من المستدرك بكثير ، وأنظف أسانيد ومتونا) ، الباعث الحثيث ص38 .   

وقد سبق أن الشيخ السعد حفظه الله ، رجح صحيح ابن خزيمة  على صحيح ابن حبان  ، وهو بهذا يتابع جماهير أهل العلم ، وذلك لشدة تحري ابن خزيمة  حتى أنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد فيقول على سبيل المثال : (إن صح الخبر) ، (أو إن ثبت الخبر) ، ونحو ذلك من العبارات التي تبرأ بها ذمته ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك

 

حديث سلمان رضي الله عنه في فضائل شهر رمضان .

روى ابن خزيمة حديث الأعمش عن عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، ثم عقبه بقوله (لم يسمعه الأعمش عن أبي وائل ، ولم أكن وقفت عليه من قبل) .

روى حديثا عن محمد بن اسحاق عن محمد بن مسلم  ، ثم عقبه بقوله : أنا استثنيت صحة هذا الخبر لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق  لم يسمعه من محمد بن مسلم ، وإنما دلسه عنه .

روى حديثا لإبن لهيعة  مقرونا بجابر بن إسماعيل  ، ثم قال : ابن لهيعة ليس ممن أخرج له حديثا في كتابي هذا إذا انفرد به ، وإنما خرجت له هذا الحديث لأن معه جابر بن إسماعيل  ، رغم أن هذا الحديث من رواية عبد الله بن وهب  عن ابن لهيعة  ، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه ، ومع ذلك لم يحتج به ابن خزيمة منفردا ، فدل ذلك على أن ابن حزيمة  ممن يرى ضعف ابن لهيعة  قبل وبعد الإختلاط ، وإن كان ضعفه أشد بعد اختلاطه . وقد قال يحي معين : "كان ضعيفاً قبل الاختلاط وبعده". فجلّ الحفاظ على تضعيف حديثه مطلقاً بدون تفصيل، ولذلك قال أبو الحسن الدرقطني : "يعتبر برواية العبادلة عنه"، ما قال : "تُصحح" ، وإنما قال: "يُعتبر" يعني لأنهم سمعوا منه قبل أن تحترق كتبه . (أفاده الشيخ السعد حفظه الله في إجاباته على أسئلة رواد ملتقى أهل الحديث) .

روى حديثا لمحمد بن جعفر غندر  عن معمر عن الزهري قال : أخبرني سهل بن سعد رضي الله عنه ، ثم علق بقوله : في القلب من هذه اللفظة التي ذكرها محمد بن جعفر (أي أخبرني سهل بن سعد) ، وأهاب أن يكون وهما من محمد بن جعفر  أو ممن دونه .

وهنا لابد من طرح سؤالين :

هل يسلم لإبن خزيمة  بصحة كل ما أورده ؟ وهل هو فعلا مقدم على ابن حبان  ؟

وممن تعرض لإجابة السؤال الأول ، ابن حجر  في النكت (1/290) ، لما تعرض لعبارة ابن الصلاح : (مقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان  وغيرهما ممن اشترط الصحة بالتسليم ، وكذا ما يوجد في المستخرجات) بالنقد ، فقال  :

لم يلتزم ابن خزيمة وابن حبان  بتخريج الصحيح الذي فيه شروط الصحة عند ابن الصلاح  ، لأنهما لا يريان التفرقة بين الصحيح والحسن ، (فالحسن عندهم قسم من الصحيح وليس قسيما له) ، وقد سمى ابن خزيمة  كتابه بـ : (المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة) ، وهذه الشروط هي نفس شروط ابن حبان  لأنه تابع شيخه ابن خزيمة   على ذلك .

والناظر في صنيعهما يتضح له بأنهما احتجا بأصحاب الطبقة الثانية (كأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن عجلان ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو بن علقمة ) ، ممن روى لهم مسلم  متابعة ولم يحتج بهم .، وهذا يؤدي بنا إلى صلاحية الإحتجاج بأحاديث ابن خزيمة  لأنها تدور بين الصحة والحسن ، ما لم تظهر فيها علة قادحة ، وأما القول بأنها استوفت شروط الصحيح الإصطلاحية فلا . وممن أكد على ذلك أيضا الحافظ ابن كثير حيث قال :كم في صحيح ابن خزيمة  من حديث محكوم منه بصحته وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن .

ويلخص الشيخ الحميد حفظه الله الجواب عن هذه المسألة في عدة نقاط أبرزها :

أن أحاديث ابن خزيمة  أحسن حالا مما عداها إلا أحاديث الصحيحين .

أن نسبة الضعيف عند ابن خزيمة  ضئيلة جدا مقارنة بما فيه من الصحيح والحسن ، وإن كان في كتابه أحاديث شديدة الضعف ، مثل حديث فضائل شهر رمضان كما تقدم .

أن ابن خزيمة قد يخرج الضعيف ولكنه يخرجه لغرض من الأغراض وينبه على ذلك ، ويتوقف في الحكم على بعضه بالصحة .

وأما بالنسبة لإجابة السؤال الثاني ، فقد تقدم اختيار الشيخ السعد حفظه الله ، حيث قدم صحيح ابن خزيمة  على صحيح ابن حبان  ، وممن قال بهذا القول السيوطي ودرج عليه الشيخ أحمد شاكر ، وممن خالف فقدم ابن حبان  ، الشيخ شعيب الأرناؤوط ، حيث ذكر ذلك في مقدمة تحقيقه لصحيح ابن حبان ، بل قال بأنه يزاحم بعض الكتب الستة ، ويعلق الشيخ الحميد حفظه الله على هذا الرأي بقوله :

إن منهج الشيخ شعيب الأرناؤوط فيه شيء من التساهل في تصحيح الأحاديث ، ولذا فإن حكمه بأن غالب أحاديث ابن حبان  صحيحة على شرط الشيخين فيه نظر ، وهذا الحكم على ابن خزيمة  ، مع العلم بأن ثلاثة أرباع كتابه مفقودة ، وعليه فإن الأسلوب الأمثل للمقارنة بين صحيحي ابن خزيمة وابن حبان  ، هو المقارنة بين الجزء الموجود من صحيح ابن خزيمة (حتى نهاية كتاب الحج كما نبه إلى ذلك الدمياطي ) ، والجزء المقابل له عند ابن حبان  بعد استبعاد ما اتفقا على إخراجه ، وينظر فيما زاد كل منهما على الآخر مع ملاحظة بعض الإختلافات المنهجية بين الإمامين ، ومن أبرزها أن ابن خزيمة  يرى عدم تصحيح حديث الراوي الذي لا يعرف بعدالة أو جرح ، وإن أخرج لمن هذه صفته فإنه ينص على التوقف في الحكم على هذه الأحاديث بالصحة ، بينما يرى ابن حبان  تصحيح حديث من هذا حاله ، ويوافقه الشيخ شعيب ، ولعل هذا ما جعله يرجح ابن حبان على ابن خزيمة  .

ومن أبرز الملاحظات على ما انتقد على ابن خزيمة  ، أن بعض هذه الإنتقادات لا تلزمه لأن :

منها أحاديث يتوقف في الحكم عليها بالصحة ويبين السبب في ذلك ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

أنه أخرج لعاصم بن عبيد الله ، ثم قال : (أنا بريء من عهدة عاصم) ، وذكر أقوال العلماء فيه .

أنه أخرج لمعمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، ثم قال : (أنا أبرأ من عهدة هذا الإسناد) .

أنه أخرج لكليب بن ذهل عن عبيد بن جبير ، ثم قال : (لست أعرفهما ولا أقبل دين من لا أعرفه بعدالة) .

أخرج عن ابن المطوف عن ابيه عن أبي هريرة رضي الله عنه : (من أفطر يوما في رمضان في غير رخصة رخصها الله لم يقضه عنه صوم الدهر) ، وأخرجه الحافظ في فتح الباري وقال صححه ابن خزيمة ، ثم أخذ يذكر علل الحديث ، وقد غلط على ابن خزيمة  لأنه لما أخرجه ، عقبه بالقول : (إن صح الخبر فإنني لا أعرف ابن المطوف ولا أباه) .

 

ومنها أحاديث أوردها لظنه أنها صحيحة ثم تبين له أنها معلولة ، فنص على ذلك ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث الأعمش ، الذي تقدم ص26  .

أنه أخرج حديثا لموسى بن أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ، ثم قال : (غلطنا في اخراج هذا الحديث لأنه مرسل ، فموسى لم يسمعه من أبي هريرة ، وأبوه روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أخبارا سمعها منه) .

ومنها أحاديث أوردها وهو يعرف ضعفها ، ولكنه أخرجها لكون الحديث عنده من غير هذه الطريق الضعيفة ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) ، فقد أخرجه من طريق ثوبان رضي الله عنه ، ثم أخرجه من طريق الحسن عن ثوبان رضي الله عنه وهي طريق منقطعة ، وقد نبه ابن خزيمة  على ذلك بقوله : (الحسن لم يسمع من ثوبان) ، فهي متابعة للطريق الأولى وليست أصلا يحتج به .

ومنها أحاديث يوردها قصدا لكونها تخالف ما ذهب إليه ثم يعلها ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

ما ذكره تحت الباب الذي ناقش فيه هل الحجامة تفطر الصائم أم لا ؟ حيث أورد أدلة المخالفين له ، وناقشها ، كحديث : (ثلاث لا يفطرن الصائم ، الحجامة والقيء والحلم ) ، حيث أورده من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  عن أبيه عن عطاء بن يسار  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ثم أعله لأنه ليس فيه عطاء وأبو سعيد ، وعبد الرحمن سيء الحفظ لا يحتج بحديثه .

وقد نبه الذهبي  إلى تمكن ابن خزيمة  من معرفة الرجال حيث قال  : كان (أي ابن خزيمة ) جهبذا بصيرا بالرجال ، ونقل عن أبي بكر محمد بن جعفر  (شيخ الحاكم ) قول ابن خزيمة  : (ولست أحتج بشهر (أي ابن حوشب) ، ولا بحريز بن عثمان لمذهبه (لأنه كان ناصبيا) ، ولا بعبد الله بن عمر (وهو أحد الرواة وليس الصحابي المشهور) ، ولا ببقية (أي ابن الوليد) ، ولا بمقاتل بن حيان ، ولا بأشعث بن سوار ولا بابن جدعان (علي بن زيد بن جدعان  وهو للضعف أقرب لسوء حفظه) ، ولا بعاصم بن عبيد الله ولا بمجالد (أي ابن سعيد) ولا بيزيد بن أبي زياد ، ولا بقابوس بن أبي ظبيان ، ولا بحجاج بن أرطأة (إذا قال عن ، لأنه مدلس ، وقد تكلم في حفظه) ، ولا بأبي حذيفة النهدي ، ولا بأبي معشر نجيح ، ولا بعمر بن أبي سلمة ، ولا بإبن عقيل (أي عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب  ، وهو متكلم في حفظه) ، قال الذهبي  متابعا : ثم سمى خلقا دون هؤلاء في العدالة فإن المذكورين احتج بهم غير واحد ، وهذا يدل على شدة تحريه في صحيحه ، ومن أبرز من ألف في رجال ابن خزيمة  ، ابن الملقن  .

 

ومن أبرز ملامح صحيح ابن خزيمة  :

اختصر ابن خزيمة صحيحه من كتاب (المسند الكبير) ونبه إلى ذلك في مواطن كثيرة من صحيحه ككتاب الوضوء وكتاب التوحيد ، ومن الملاحظات المهمة في صحيح ابن خزيمة  ، هو ميله  إلى اختصار الأحاديث وخاصة الطويلة ، فيقتصر على موضع الشاهد منها ثم يقول : وذكر الحديث .

ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث : (ثم أخذ بيمينه (أي الماء) فصك بها وجهه) وذكر الحديث .

حديث : (ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به الحسنات ، قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال : إسباغ الوضوء على المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ) ، ثم ذكر الحديث ، وقال  : (وهذا خبر طويل قد خرجته في أبواب ذوات عدد) .

حدبث عمران رضي الله عنه ، في نومهم عن صلاة الفجر عندما كانوا في سفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد اختصره ابن خزيمة  من وسطه .

 

 

وابن خزيمة  يتعقب الأحاديث بما يزيل اللبس ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، ما ذكره في بداية الكتاب الذي ناقش فيه أدلة من قال بإفطار من احتجم وهو صائم ، فأورد أدلة المخالفين ثم قال : (فكل مالم أقل إلى آخر هذا الباب ، إن هذا صحيح فليس من شرطنا في هذا الكتاب) .

 

وقد يورد  اسنادا فيه راو يعلم أنه ثقة ولكنه يخشى أن يقف عليه من لا يعرفه (أي ذلك الراوي) فيتهمه بالتساهل في صحيحه ، فلذلك يورد أقوال العلماء في ذلك الراوي ليزيل اللبس ، ومن الأمثلة على ذلك : أنه ذكر حديثا من طريق عبيد الله بن أبي جعفر  ، ثم نقل بإسناده إلى الليث بن سعد  قوله : (سمعت يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر وهما جوهرتا البلد يقولان : فتحت مصر صلحا) ، وهذا بلا شك تعديل لعبيد الله بن أبي جعفر  .

 

وابن خزيمة  يشبه شيخه البخاري  في مسألة الإستنباطات الفقهية في صحيحه ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما بوب له بقوله : باب ذكر اسقاط فرض الجمعة عن النساء ، والدليل على أن الله عز وجل خاطب الرجال دون النساء بقوله تعالى : (ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة …) الآية ، ثم قال : إن ثبت هذا الحديث الخبر من جهة النقل وإلا فإتفاق العلماء كاف لإسقاط الجمعة عنهن دون خبر خاص فيه ، فهو بهذه الترجمة يبين أن الحديث الذي سيذكره يؤيد ما بوب له ولكنه غير ثابت ، ومع ذلك فلا إشكال لأن العلماء اتفقوا على ذلك .

 

ولإبن خزيمة  تعليقات مفيدة جدا في صحيحه ومن أبرزها :

تفسير الألفاظ الغريبة ، ومثاله ما ذكره في (3/141) ، حيث ذكر حديث سهل بن سعد رضي الله عنه : أن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أثل الغابة ، ثم قال : الأثل هو الطرطاء ، وأيضا حديث حنين الجذع حنين الواله ، ثم قال : الواله ، المرأة إذا مات لها ولد .

تنبيهه على العلل الخفية ، ومثاله ما ذكره في (3/157) عن شيخه محمد بن بشار (بندار) وهو ثقة حافظ عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن وديعة عن أبي ذر رضي الله عنه ، ثم قال معقبا على الحديث : ولا أعلم أحدا تابع بندارا على ذلك والجواد قد يفتر في بعض الأوقات ، وكأنه بهذا ينبه على أن الثقة قد يهم لأن هذا الحديث ورد من غير هذا الطريق ، فقد أخرجه البخاري من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن ابن وديعة  عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وهو الصحيح .

 

إزالته للمشكل في كثير من المواضع ، ومن الأمثلة على ذلك ، ما ذكره في (3/319) ، باب ذكر أبواب ليلة القدر والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها (وهذا ما اشتهر به ابن خزيمة ، حيث قال : ليس ثم حديثان متعارضان من كل وجه ، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتني لأؤلف له بينهما) ، وكان عمله  في هذا الباب بديعا ، حيث رجح بداية أنها في رمضان ، ثم رجح أنها في العشر الأواخر ، ثم رجح أنها في الليالي الوتر منها ، ثم رجح أنها متنقلة بين الليالي الوتر .

 

وكذا ، ما رواه البخاري وأحمد رحمهما الله عن حماد بن زيد عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شكوا إليه قلة الماء في غزوة من الغزوات فدعا بقدح رحراح …… الحديث ) ، فلفظ (رحراح) رواه عن حماد : (مسدد بن مسرهد وسليمان بن حرب وأبو الربيع الزهراني ومحمد بن عبيد الغبري وعفان بن مسلم ، وروى نفس الحديث عن حماد : (أحمد بن عبدة الضبي عند ابن خزيمة) بلفظ (زجاج) ، فهنا خلاف في اللفظ أرجعه بعض العلماء إلى تصحيف أحمد بن عبدة كما نقل ذلك ابن حجر ، ولكن ابن خزيمة رحمه الله على عادته جمع بين الروايتين بل وأخذ فقه الباب من هاتين اللفظتين فعقد بابا في جواز اتخاذ آنية الزجاج خلافا للمتصوفة وقال رحمه الله : وقد رواه جماعة عن حماد فقالوا رحراح (والرحراح هو الواسع الفوهة ولكنه غير عميق) ورواه أحمد بن عبدة فقال : زجاج والجمع يكون بأن مسدد وجماعته ذكروا صفة الإناء وابن عبدة رحمه الله ذكر جنسه ، فتم الجمع وزال الإضطراب ، (أفاده الحويني حفظه الله في شرحه للموقظة) .

 

 

إزالته التباس اسم راو براو ، ومن الأمثلة على ذلك ، ما رواه عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه ، حيث نبه على وجود راويين في هذه الطبقة ، اسم كل منهما عبد الرحمن بن إسحاق ، أحدهما أبو شيبة الكوفي وهو ضعيف ، والآخر عبد الرحمن بن إسحاق عباد ، الذي روى عن سعيد المقبري والزهري  وهو صالح الحديث .

 

ذكره اسم الراوي تماما إذا ذكر بكنيته أو لقبه ، أو ذكر اسمه دون نسبه ،ومن الأمثلة على ذلك ، ما أخرجه عن أبي القاسم الجدلي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ، حيث قال : أبو القاسم الجدلي هو حسن بن الحارث من جديلة قيس ، وقد روى عنه عطاء بن السائب وأبو مالك الأشعري وحجاج بن أرطأة ، وأيضا ما أخرجه عن أبي حازم  عن أبي هريرة رضي الله عنه حيث نبه ابن خزيمة  على أن أبا حازم المذكور في هذا الطريق هو سلمان الأشجعي الذي روى عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وليس سلمة بن دينار الذي روى عن سهل بن سعد رضي الله عنه الذي يحمل نفس الكنية ، وهو من نفس طبقة سلمان الأشجعي .

 

اهتمامه بالكلام على الرواة جرحا وتعديلا ، ومن الأمثلة على ذلك ، قوله في عبد الرحمن بن إسحاق عباد : صالح الحديث ، وقوله في عاصم العنزي وعباد ابن عاصم : مجهولان لا يدرى من هما

 

رده رواية المدلس الذي لا يحتمل تدليسه إذا عنعن ، ومن الأمثلة على ذلك ، ما خرجه من طريق أبي اسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها ، حيث قال : لم أقف على سماع أبي إسحاق (وهو السبيعي) من الأسود .، وما خرجه من طريق حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وما خرجه من طريق قتادة عن مورق عن أبي الأحوص ، حيث لم يحتمل ابن خزيمة  عنعنة حبيب بن أبي ثابت وقتادة ، رغم أن بعض العلماء تحملوا تدليسهما ، وهذا يدل بلا شك على شدة تحريه في الرواية .

 

تضعيفه لرواية من اختلط وإن كان من طريق بعض الثقات الذين سمعوا منه قديما إذا كان الراوي ضعيفا أصلا  ولذا رد حديث ابن لهيعة  وإن كان من طريق العبادلة الذين رووا عنه قبل اختلاطه  وهذا يدل على أن ابن حزيمة  ممن يرى ضعف ابن لهيعة  قبل وبعد الإختلاط ، وإن كان ضعفه أشد بعد اختلاطه .

 

نصه على عدم السماع في بعض الطرق ، ومن الأمثلة على ذلك نصه على عدم سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى  من معاذ بن جبل رضي الله عنه  ولا من عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه ، صاحب الأذان .

 

بيانه للعلل الخفية ، ومن الأمثلة على ذلك ، ما أخرجه من طريق خالد الحذاء عن رجل عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في سجود التلاوة ، (وهذه رواية ابن علية ) ، ثم أخرجه من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وخالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها ، فلم يذكرا الراوي بين خالد الحذاء وأبي العالية  ، وعقب ابن خزيمة  على هاتين الروايتين بقوله : إنما تركت إملاء هذا الحديث لأن بين خالد وأبي العالية رجلا لا يعرف ولم يذكره عبد المجيد وخالد الواسطي وإنما بينت هذا لئلا يتوهم أحد أن رواية عبد الوهاب وخالد الواسطي صحيحة ، ومن الأمثلة أيضا تنبيهه على قلب المتن في رواية يحيى بن سعيد القطان  عن عبيد الله بن عمر  عن خبيب بن عبد الرحمن  عن حفص بن عاصم   وفيها : (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم يمينه ما أنفقت شماله) وهذه رواية مسلم  ، فقد خولف يحيى  على هذا اللفظ ، والصواب مع من خالفه ، رغم إمامته ، والصحيح رواية البخاري  : (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما أنفقت يمينه) .

 

تقديم المتن على السند ، إذا كان في السند مقال ، وقد صرح  بأن من رواه على غير ذلك الوجه لا يكون في حل منه ، كما نقل ذلك السيوطي  في تدريب الراوي .

 

وبعد الإنتهاء من الكلام على صحيح ابن خزيمة رحمه الله ، نعرض بصورة موجزة ، أهم معالم منهج ابن حبان رحمه الله في صحيحه :

بداية ، لابد من إعادة التنبيه على تأثر ابن حبان رحمه الله بشيخه ابن خزيمة ، ويظهر هذا جليا ، كما سبق ، وقدمنا ، في مسائل :

التساهل في التوثيق ، وإن كان ابن خزيمة رحمه الله أحسن حالا منه ، فصحيح ابن حبان رحمه الله ، يأتي بعد صحيح شيخه ابن خزيمة ، وهو أفضل حالا من مستدرك الحاكم .

وإدراج الحسن كقسم من الصحيح ، لا كقسيم له ، كما هو الحال عند جماهير المحدثين .

وجدير بالذكر أن هذه المسألة ، مما استدرك به على ابن الصلاح رحمه الله ، لما قال بمنع اجتهاد المتأخرين في الحكم على الأحاديث ، والإكتفاء بأحكام المتقدمين ، ممن يحكمون على الأحاديث ، كالترمذي رحمه الله ، أو يشترطون الصحة ، كابن حبان ، وهذا بطبيعة الحال ، غير مسلم به عند النظر إلى صحيحي ابن خزيمة وابن حبان ، لأننا قد نرفع بعض أحاديثهما عن درجتها الحقيقية ، فربما كان الحديث عندهما ، صحيحا ، وهو في الحقيقة حسن ، لا يرقى لدرجة الصحيح ، لأنهما ، كما سبق لايفرقان بينهما ، وهذا لا يظهر بطبيعة الحال إلا بالبحث والنظر .

 

مسألة : ترتيب ابن حبان رحمه الله لصحيحه :

لم يرتب ابن حبان رحمه الله كتابه على الأبواب ، كما رتب بقية أصحاب الجوامع كتبهم ، وإنما رتبه ترتيبا مخترعا ، كما سبق ذكر ذلك ،  أسماه التقاسيم والأنواع ، حيث قسم كتابه إلى 5 أقسام ، تحت كل قسم عدد من الأنواع ، وهي :

الأوامر ، وهي 110 .   

النواهي ، وهي 110 .

الأخبار ، وهي 80 نوعا .

الإباحات ، وهي 50 نوعا .

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بها ، وهي 50 نوعا .

وبهذا تبرز صعوبة البحث عن أي حديث في صحيح ابن حبان بهذا الترتيب ، لأن الباحث فيه ، إما أن يستعرض الكتاب بأكمله للبحث عن حديث ما ، وإما أن يحفظ الكتاب بأكمله ، وكلا الأمرين صعب .

وجدير بالذكر أن ابن حبان رحمه الله ، لم يقصد حصر كل أنواع السنن ، وقد سبق ، أن ابن حبان رحمه الله ، مع خفة شرطه ، وفى به ، خلاف الحاكم رحمه الله ، الذي علا شرطه ، ولكنه لم يوف به .

مسألة : شروط الراوي الموثق عند ابن حبان رحمه الله :

العدالة في الدين بالستر الجميل : وهو مخالف فيه ، لأنه كما سبق ، يرى أن الأصل في المجهول العدالة ، دون اشتراط تعديله ، ولو من واحد من أئمة الجرح والتعديل المعتبرين ، فالراوي قد يكون ظاهر العدالة ، غير معلوم الباطن ، وقد يكون ظاهر العدالة ، ولكنه كثير الخطأ والوهم في حديثه ، وعلى هذا ، فإن هذا الشرط قيد لإخراج من عرف بالجرح فقط .

الصدق : للإحتراز من ظاهر العدالة ، غير الصادق .

العقل : أن يكون عاقلا بمعنى الحديث ، فلا يكون مجرد ناقل للحديث .

أن يكون عالما بما يحيل المعاني ، وجدير بالذكر أن العلماء قد أجازوا الرواية بالمعنى إذا كان الراوي عالما بما يحيل المعاني .

عدم التدليس : وذلك بأن يصرح الراوي بالسماع في هذا الموضع ، أو في غيره ، بحيث يطلع ابن حبان على هذا التصريح ، وإن لم يخرجه في صحيحه ، وهذه قاعدة عامة ، ولكن يلزم لصحتها ، أن يكون ابن حبان عالما بأن هذا الراوي مدلس ، فقد يروي المدلس بالعنعنة دون أن يصرح بالسماع ، ومع ذلك ، يصحح ابن حبان حديثه ، لأنه لم يقف على تدليسه ، وقد نبه الشيخ الحميد حفظه الله ، إلى أنه قد وجدت روايات لمدلسين في صحيح ابن حبان ، وجدت في مواضع أخرى بزيادة راو بين المدلس ومن يروي عنه بالعنعنة .

بعض الملامح العامة لمنهج ابن حبان رحمه الله في نقد الرجال :

ابن حبان رحمه الله لايخرج حديث من عرف بالإختلاط ، إلا من طريق من روى عنه قبل الإختلاط .

وهو رحمه الله ، مع تساهله في التوثيق ، متشدد في الجرح ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، رده لحديث عارم رحمه الله ، شيخ البخاري ، بأكمله ، وهو ما جعل الذهبي رحمه الله يشدد النكير عليه .

لمحات من الصناعة الحديثية عند ابن حبان رحمه الله :

عنايته بجمع طرق الحديث ، فقد ذكر ، على سبيل المثال ، طريقا آخر لحديث خرجه من طريق سهيل بن أبي صالح ، ليزيل تفرد سهيل به ، لأن البعض قد يرد الحديث بسبب هذا التفرد .

وهو يقبل زيادة الثقة ، إذا ورد الحديث من عدة طرق متضادة ، فلو تعارض الوصل مع الإرسال ، أو الرفع مع الوقف ، فالحكم لم زاد ، إن كان ثقة ، وقد يخالف ابن حبان رحمه الله من بعض النقاد ، كالدارقطني رحمه الله ، لأنهم يحكمون في هذه الحالة للأحفظ ، وأما ابن حبان ، فإنه إذا خالف الواحد أو الإثنان ، الجماعة في رفع موقوف ، أو وصل مرسل ، كأن يروي جمع من الرواة حديثا مرسلا عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرويه واحد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم موصولا ، فينظر ابن حبان رحمه الله ، لهذا الحديث ، هل له أصل عن ابن عمر رضي الله عنهما ، بمعنى ، هل روي عن ابن عمر ، ولو من طريق غير طريق نافع رحمه الله ، فإذا ثبت هذا ، فإنه يقبل رواية الواحد ، ولا يلتفت إلى المخالف .

هناك أحاديث كثيرة عند ابن حبان رحمه الله ، يمكن نقدها بداعي النكارة أو العلة القادحة ، ولكنها في نفس الوقت لا تخرج عن شرطه الذي وفى به ، وإن كان لينا ، فخرج ابن حبان من عهدتها ، ولا يمنع هذا من الحكم بنكارتها أو ضعفها ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث قصة هاروت وماروت ، وهي قصة مشهورة ، استنكرها أحمد وأبو حاتم ، وقد ثبت أنها من الإسرائيليات التي لا يصح رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا على منهج ابن حبان رحمه الله في توثيق من لا يعرف ، وعدم اعتبار مخالفة الواحد للجماعة خلافا لجماهير المحدثين .

ولإبن حبان رحمه الله ، تعليقات مفيدة جدا ، في صحيحه ، في الجمع بين الأدلة المتعارضة ، أو الترجيح بينها ، ولعله في هذا يشبه إلى حد كبير شيخه ابن خزيمة رحمه الله الذي برع في هذا الجانب ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، كلامه عن حديث طلق بن علي رضي الله عنه وحديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها ، فالأول فيه عدم وجوب الوضوء من مس الذكر ، والثاني فيه وجوب الوضوء من مس الذكر ، حيث قال ابن حبان رحمه الله ، بأن حديث طلق رضي الله عنه ، منسوخ بحديث بسرة ، وأورد في صحيحه ما يدل على أن قدوم طلق رضي الله عنه كان عند بناء مسجد المدينة ثم خرج ولم يعلم له قدوم بعد ذلك ، وأما حديث بسرة رضي الله عنه فقد رواه أيضا أبو هريرة رضي الله عنه وهو متأخر الإسلام ، وهذا يقوي القول بنسخ حديث طلق رضي الله عنه ، وإن كان هذا غير كاف للحكم بنسخ الحديث ، لأن تأخر إسلام راوي الحديث ، وإن كان مؤشرا على صحة هذا الإستدلال ، إلا أنه غير كاف ، كما هو معلوم من علم الأصول ، وقد اشترط الشيخ الشنقيطي رحمه الله في "مذكرة أصول الفقه" ، أن يثبت أن وفاة الراوي الأول "للحديث المنسوخ" كانت قبل سماع الراوي الثاني "للحديث الناسخ" ، بل إن قول الصحابي : هذا ناسخ لهذا ، غير كاف ، لأنه يرجع إلى نوع من الإجتهاد ، وقد يخطيء فيه ، كما نقل ذلك ابن كثير رحمه الله ذلك عن كثير من الأصوليين ، في اختصار علوم الحديث ، خلاف قوله : هذا كان قبل هذا ، لأنه ناقل عن الأصل ، والصحابي ثقة مقبول الرواية ، كقول أبي رضي الله عنه : كان الماء رخصة في أول الإسلام ، ثم أمر بالغسل . وقد رجح ابن المديني رحمه الله ، حديث طلق رضي الله عنه ، وقال : هو أحسن من حديث بسرة ، وخالفه ابن معين في مناظرة شهيرة بينهما حضرها أحمد بن حنبل .

 

أهم الخدمات التي قدمت لصحيح ابن حبان :

اختصر ابن الملقن ، تهذيب الكمال للمزي ، وذيل له برجال أحمد وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم .

وألف الحافظ العراقي كتاب : رجال ابن حبان ، ذكر ذلك ابن فهد المكي ، ولكنه مفقود .

وألف الهيثمي ، في زوائد ابن حبان : موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ، وقد اقتصر فيه على زوائده على الصحيحين فقط لأنه من الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد ، فلابد أن تكون زوائده على كتب اشترطت نفس شرطه ، كما نبه إلى ذلك الشيخ السعد حفظه الله .

وكذا ألف الحافظ مغلطاي في زوائد ابن حبان ، ولكن كتابه مفقود .

وانتخب العراقي أربعين حديثا من صحيح ابن حبان في مصنف سماه : أربعون بلدانية ، كما ذكر ذلك ابن فهد المكي في لحظ الألحاظ .

وهناك من فهرسه على الأطراف ، كالحافظ ابن حجر في اتحاف المهرة .

ولكن أبرز الخدمات ، التي قدمت إلى صحيح ابن حبان ، على الإطلاق ، هو ترتيب الأمير علاء الدين أبو الحسن علي بن بلبان رحمه الله ، المعروف بعلاء الدين الفارسي ، لصحيح ابن حبان على الأبواب الفقهية ، في مصنف أسماه الإحسان في تقريب ابن حبان ، وذكر أن ما دعاه إلى ذلك ، هو صعوبة ترتيب ابن حبان لصحيحه ، حتى عز جانبه فكثر مجانبه ، حيث انصرف الناس عنه لصعوبة البحث عن أي حديث فيه ، وقد راعى علاء الدين رحمه الله أمورا من أبرزها :

أنه احتفظ بعناوين وتعليقات ابن حبان رحمه الله ، ولا شك أنها عظيمة الفائدة ، لأنها تشتمل على استنباطات فقهية مهمة .

أنه أشار إلى مكان الحديث في النسخة الأصلية لإبن حبان ، فلو كان الحديث ، على سبيل المثال في القسم الأول ، في النوع الخمسين ، فإنه يشير إليه بـ : (1/50) ، وعليه ، فإننا من خلال هذه الإشارات نستطيع إرجاع الكتاب إلى أصله الذي صنفه ابن حبان رحمه الله .

 

وأما بالنسبة لكتاب المنتقى لإبن الجارود ، فإن عدة أحاديثه 1100 حديث أغلبها من الصحيح والحسن وقد نص الذهبي  في سير أعلام النبلاء في ترجمة ابن الجارود  على ذلك فقال  عن المنتقى : هو مجلد واحد في الأحكام ، لا ينزل فيه عن رتبة الحسن أبدا ، إلا في النادر في أحاديث يختلف فيها اجتهاد النقاد ، وقال الكتاني : وقد تتبعت أحاديثه فلم ينفرد عن الشيخين منها إلا بيسير .

 

وأما بالنسبة لصحيح ابن السكن  ، فقد ذكر السبكي أنه مجرد من الأسانيد وهو غير موجود الآن ، وغير مشهور حتى عند السابقين .

 

وأما بالنسبة لمستدرك الحاكم  فإن أحاديثه تنقسم إلى سبعة أقسام :

ما كان على شرط الشيخين .

ما كان على شرط البخاري  .

ما كان على شرط مسلم  .

ما يصححه الحاكم   وإن لم يكن على شرط أحدهما ، ويعبر عنها بأنها صحيحة الإسناد (تيسير مصطلح الحديث ص39 ، مكتبة المعارف) .

ما يذكره كشواهد .

ما يضعفه .

 

يذكر  أحيانا بعض الأحاديث التي يتساهل فيها كالأخبار والتواريخ ، والأقسام الأربعة الأولى ، حكم الحاكم فيها فيه نظر ، وهناك عدة أسباب تدعونا لعدم قبول حكم الحاكم  عدة أسباب منها :

 

أن الحاكم  لم يلتفت إلى سياق الإسناد عند استدراكه على الشيخين ، فعلى سبيل المثال : (رواية سماك  عن عكرمة  عن ابن عباس رضي الله عنهما) ليست على شرط أي من الشيخين ، فسماك على شرط مسلم  ، وعكرمة انفرد به البخاري  ولم يرو له مسلم  إلا مقرونا . وأدق من السبب السابق كما نبه إليه الحافظ  : أن يرويا عن أناس مخصوصين من غير حديث الذين ضعفوا فيهم  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، رواية البخاري  عن إسماعيل بن أبي أويس  ، (فقد انتخب من أحاديثه لأن إسماعيل  متكلم فيه ولكنه في نفس الوقت من أثبت الناس في مالك ) ، ثم يأتي الحاكم  فيخطأ ويخرج لهم من طريق من ضعفوا فيه ، برجال كلهم في الكتابين أو أحدهما ، كأن يقال : هشيم عن الزهري فكلاهما  مخرج لهما في الصحيحين ولكن رواية هشيم  عن الزهري  خاصة ضعيفة ، وهذا مما خفي على الحاكم  .

 

مسألة : قول ابن الأخرم  : قل ما يفوت البخاري ومسلم  من الأحاديث الصحيحة ، وقد ناقشه ابن الصلاح  في ذلك واحتج عليه بصنيع الحاكم  في المستدرك ، ولكن ابن كثير  اعترض على هذا الإحتجاج بوهم الحاكم  في أغلب الأحاديث التي استدركها على الشيخين ، ولكن النقاد  ردوا على ابن الأخرم  بعدة ردود من أهمها :

تصريح البخاري ومسلم  بعدم استيعاب الصحيح حيث قال البخاري  : "ما أدخلت في كتابي إلا ما صح وتركت من الصحاح خشية الإطالة" ، وقال مسلم  : "ما أدخلت إلا ما أجمعوا عليه" . 

تصحيح البخاري  لأحاديث لم يوردها في صحيحه وهذا ما يظهر بوضوح في بعض سؤالات الترمذي  له في أحاديث أوردها في جامعه حيث صححها البخاري  ولم يوردها في صحيحه كحديث : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) حيث قال عنه الترمذي  : هذا حديث حسن صحيح وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : حديث صحيح .

تصحيح مسلم  لحديث : (وإذا قرأ فأنصتوا) ، حيث قال عنه مسلم  هو عندي صحيح ولكنه لم يدخله في صحيحه لأنهم لم يجمعوا عليه .

اتفق الشيخان  على أحاديث كثيرة من صحيفة  همام بن منبه وانفرد كل واحد منهما ببعض ما فيها وإسنادها واحد ، ذكره الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث ص208 طبعة مكتبة السنة . ومن الجدير بالذكر أنه ينبغي التفريق بين عدم استيعاب الشيخين للأحاديث الصحيحة مطلقا وبين عدم استيعابهم للأحاديث الصحيحة على شرطهما فالإستيعاب المطلق لا إشكال فيه لما تقدم من نصهما وفعلهما ، وأما إستيعاب ما صح على شرطهما فقليل لا يتجاوز عند التحقيق 100 حديث

أن الحاكم  لم يكن همه الإستدراك على الشيخين بقدر ما كان همه الرد على أهل البدع والأهواء الذين قالوا بأن ما صح عند أهل السنة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو 10000 حديث فقط ، وقد وهم  كما سبق ذكره في كثير مما استدركه على الشيخين فلم يكن على شرطهما .

 

وخلاصة القول أن قول ابن الأخرم  صحيح بقيد ، فالصحيح أن نقول بأنه قل ما يفوت البخاري ومسلم  من الأحاديث الصحيحة (على شرطيهما) فهو لا يتجاوز عند التحقيق 100 حديث كما سبق ذكره .

وقد تفاوتت أنظار العلماء تجاه مستدرك الحاكم ، فبالغ البعض ومنهم أبو سعيد الماليني وقال بأن الحاكم  لم يخرج حديثا واحدا على شرط الشيخين في مستدركه ، وهذا كما قال الذهبي  ، إسراف وغلو ، وبعضهم اعتمد تصحيحه مطلقا ، وهذا بلا شك تساهل ومن أهم من تكلم في هذه المسألة :

ابن الصلاح  :

وقد بنى ابن الصلاح كلامه على ما ذهب إليه من القول بمنع الإجتهاد في الحكم على الأحاديث بعد انقراض عهد الأئمة المتقدمين وعلى هذا فمنهج ابن الصلاح  في الحكم على المستدرك ، يكون بالنظر في أحكام المتقدمين على أحاديثه وذلك كالتالي (مع العلم بأنه ذهب بداية إلى الحكم على الحاكم  بالتساهل في عمله في المستدرك) :

ما صححه غيره من الأئمة المتقدمين  (بأن يرد الحديث في كتاب يشترط الصحة كالصحيحين ، أو يرد الحكم بصحته في كتاب يحكم مصنفه على الأحاديث كجامع الترمذي  ) ، فهو صحيح بلا شك .

ما ضعفه غيره من الأئمة المتقدمين  فهو ضعيف .

ما سكت عنه الأئمة ، إن لم يكن صحيحا فهو حسن يحتج به إلا أن تظهر فيه علة تمنع الحكم بصحته ، لأن قرينة الطعن في المستدرك قوية ، وقد رد العراقي  هذا الرأي ، ونقل عن ابن جماعة  أنه قال : يتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف ، وممن رد هذا الرأي أيضا ابن كثير  في اختصار علوم الحديث ، واختار رأي النووي  الذي أجاز لمن تمكن وقويت معرفته ، الحكم على أحاديث المستدرك بما يليق بحالها ، وقد اختار هذا الرأي الشيخ أحمد شاكر في شرحه لإختصار علوم الحديث ، وأنكر قول ابن الصلاح  بمنع الإجتهاد في الحكم على الأحاديث ووصف هذا القول بأنه قول باطل ، لا برهان عليه من كتاب أو سنة ، وجدير بالذكر أن ابن الصلاح رحمه الله قصد من هذا الرأي غلق باب الإجتهاد في وجه من لم تقو عنده ملكة الإجتهاد في الحكم بصحة حديث أو بطلانه .

الذهبي  : 

وقد اختصر مستدرك الحاكم  ، واستدرك على الحاكم  في معظم أحكامه ، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير  ، حيث قال : في هذا الكتاب "أي المستدرك" أنواع من احديث كثيرة ، فيه الصحيح المستدرك ، وهو قليل ، وفيه صحيح قد خرجه البخاري ومسلم  ولم يعلم به الحاكم  ، وفيه الحسن والضعيف والموضوع أيضا وقد اختصره شيخنا أبو عبد الله الذهبي  ، وبين هذا كله وجمع فيه جزءا كبيرا مما وقع فيه من الموضوعات ، وذلك يقارب مائة حديث ، والله أعلم . الباعث الحثيث ص38_42 بتصرف ، طبعة مكتبة السنة . وجدير بالذكر أن الذهبي  رغم تعقبه للحاكم  في أغلب أحكامه ، إلا أنه وهم هو الآخر في الحكم على أحاديث كثيرة في المستدرك ، وربما كان هذا بسبب سرعة إنجاز الذهبي رحمه الله لهذا المختصر ، حيث ورد ما يؤيد ذلك ، وهو أنه "علقه برأس القلم" (أو كلمة نحوها ، وهذا يدل على سرعة مراجعته للمستدرك ، ومعلوم ما يقع من الوهم نتيجة هذه السرعة ، ولا أدري من قائل هذه الكلمة ، هل هو الذهبي ، أم غيره ممن علق على تلخيصه) .

وقد اعتذر الحافظ عن الحاكم بقوله : إنما وقع للحاكم التساهل لأنه سود كتابه لينقحه فأعجلته المنية .

وأما بالنسبة لصاحب المستدرك  (وإن كان هذا لا يتعلق بموضوع البحث ارتباطا مباشرا ، إلا أنني أردت التركيز على المستدرك وصاحبه في نفس الموضع حتى نخرج إن شاء الله بصورة كاملة) ، فقد تكلم فيه بعض العلماء وتركز كلامهم على جانب التشيع لآل البيت رضوان الله عليهم ، فنقل عن ابن طاهر  أنه سأل أبا إسماعيل الهروي  عن الحاكم  فقال : ثقة في الحديث ، رافضي خبيث . وقال ابن طاهر  في موضع آخر : كان شديد التعصب للشيعة من الباطن ، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة ، وكان منحرفا غاليا عن معاوية رضي الله عنه وأهل بيته ، يتظاهر بذلك ولا يعتذر عنه . وقال أبو بكر الخطيب  : كان أبو عبد الله بن البيع (أي الحاكم ) ثقة ، وكان يميل إلى التشيع . وقد رد الذهبي  على قول أبي إسماعيل الهروي  بقوله : كلا ، ليس رافضيا ، بل يتشيع ، وبالموازنة بين هذه الأقوال يتضح لنا أن العلماء لم يتكلموا في ضبطه فهو  ثقة ضابط ، ومن تكلم منهم ، تكلم في تشيعه ، ولا شك أن القول الصحيح في هذه المسألة_إن شاء الله_هو قول الذهبي والخطيب ، والفرق كبير بين التشيع الذي وصف به كثير من أهل السنة كالأعمش وشريك والحاكم والنسائي  (وقد اشتهر به أهل السنة في الكوفة ، على النقيض من أهل البصرة الذين وصفوا بأنهم عثمانية) وبين الرفض ، فالأول أصحابه لا يقدحون في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا في عثمان رضي الله عنه ، ويقدمون الشيخين رضي الله عنهما في الفضل والخلافة ، ويقدمون عثمان رضي الله عنه في الخلافة ونقطة الخلاف الوحيدة بينهم وبين أهل السنة الخلص أنهم يقدمون عليا رضي الله عنه على عثمان في الفضل ، وهذا وإن كان مما يخالف فيه هؤلاء إلا أنه لا يوجب تفسيقا أو تضليلا ، وإنما الذي يوجب الفسق والتضليل هو تقديم علي رضي الله عنه في الفضل أو الخلافة على الشيخين رضي الله عنهما ، أو تقديمه رضي الله عنه على عثمان في الخلافة لا الفضل كما بين ذلك شيخ الإسلام  ، وأما الثاني (أي الرفض) فهو مذهب خبيث يقتضي الطعن في الشيخين رضي الله عنهما وعثمان رضي الله عنه والقدح في إمامتهم وهو الذي يوجب التفسيق والتضليل . وفي هذا رد كافي على كلام الهروي  ، ولعل من أشهر الأحاديث التي تكلم في الحاكم  بسبب تصحيحه لها حديث الطير، وفيه إهداء الطير المشوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه صلى الله عليه وسلم الله بقوله : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فدعا أنس رضي الله عنه أن يكون الآتي من الأنصار لتصيب هذه الدعوة رجلا من قومه ، فجاء علي بن أبي طالب فرده أنس وجاء الثانية والثالثة والرابعة فدفع أنسا في صدره ودخل فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن إبطائه فأخبره بما كان بينه وبين أنس فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أنسا عن ذلك فقال أنس رضي الله عنه : رجوت أن يكون رجلا من الأنصار فتصيبه هذه الدعوة ، فقال صلى الله عليه وسلم : (إن الرجل قد يحب قومه) ، فهذا الحديث روي من طريق سفينة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طريق أنس رضي الله عنه حيث جاء من أكثر من تسعين طريقا عن أنس رضي الله عنه فقط بخلاف الطرق الأخرى ، وقد تعقب الذهبي  الحاكم  في هذا الحديث وأغلظ له القول ولكنه عاد مرة أخرى وألف مؤلفا في هذا الحديث وربما هالته كثرة طرقه وتوقف في تصحيحه وقال : (ولست بمثبته ولا بعتقد بطلانه) ومن قبل الذهبي والحاكم ألف ابن جرير الطبري  رسالة في هذا الحديث ، ولكن الحافظ ابن كثير  لم يلتفت لكثرة هذه الطرق وتعرض لها طريقا طريقا في البداية والنهاية وأبطلها كلها . وقد يعتذر للحاكم  في تصحيحه لهذا الحديث بأنه ربما نظر إلى هذه الطرق الكثيرة التي جاء منها الحديث .           

 

 

الكتب التي غلب على أحاديثها الصحة وفيها شيء من الضعيف . ككتب السنن الأربعة ومسند أحمد  :

ونعرض هنا بصورة مختصرة لبقية السنن الأربعة ومسند أحمد  وموطأ مالك   :

بداية لابد من التنبيه على طريقة أصحاب السنن التي اتبعوها في تصانيفهم (كما يظهر من صنيع أصحاب السنن الأربعة وسعيد بن منصور وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني وأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي) ، وهي الإقتصار على أحاديث الأحكام المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم  ، (فهي مرتبة على الأبواب الفقهية) ، وهذا يشبه كثيرا من حيث المضمون تعريف الكتاني  حيث قال : السنن هي الكتب التي ألفت لتضم كثيرا من أبواب الدين ، وليس فيها شيء من الموقوف أو المقطوع إلا نادرا ، لأن المقطوع والموقوف لا يسمى سنة في اصطلاحهم ، وقد تعقب الشيخ الحميد حفظه الله ، الكتاني  في تعريفه هذا من وجهين :

الوجه الأول : من ناحية الشمول ، حيث أننا نجد بعض كتب السنن تشابه الجوامع مي حيث شموليتها لجميع أبواب الدين ، دون الإقتصار على أبواب الأحكام فقط ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك سنن سعيد بن منصور  حيث أنه يحوي كتابا للتفسير ، فسر فيه القرآن كاملا بالمأثور ، وكتابا للزهد وهما ليسا من كتب الأحكام .

الوجه الثاني : أننا نجد من السنن ما يكثر فيه المقطوع والموقوف ، ومن الأمثلة على ذلك ، ما ألفه المتقدمون كابن جريج وهشيم والأوزاعي وابن المبارك  تحت مسمى السنن ، ورغم ذلك ورد فيها الموقوف والمقطوع ، ورغم عدم وصول هذه المصنفات إلينا ، إلا أن نموذجا منها قد وصل إلينا ، وهو سنن سعيد بن منصور  ، وقد احتوت على الموقوف والمقطوع ، وهو في مادته العلمية يساوي مصنف أبي شيبة  ، ورغم ذلك سمي الأول بالسنن والثاني بالمصنف ، وكذا ورد في سنن البيهقي  موقوفات ومقطوعات رغم أن البيهقي  ركز في الغالب على أحاديث الأحكام ، وكذا الدارمي  حيث أن كتابه شبيه بالجوامع من حيث الشمولية وقد ورد فيه الموقوف والمقطوع ومع ذلك أطلق عليه السنن ، وهذا يدل على أن هذه التسميات كانت من قبيل التفنن في التسمية ، ولم يكن المقصود منها المعاني الإصطلاحية لهذه المسميات ، التي استقرت فيما بعد ، وقد وجه الشيخ حفظه الله كلام الكتاني  بأنه يصح لو أطلق على السنن الثلاثة (أبوداود وابن ماجة والنسائي ) ، خلاف الترمذي  لأن كتابه جامع ، كما هو واضح من عنوانه .

 

والسنن تأتي في المرتبة الثانية بعد الصحيحين من حيث صحة أحاديثها ، فالغالب عليها الصحة ، وإن كان فيها الضعيف والمنكر والموضوع ، وقد زعم الحافظ السلفي  أن علماء المشرق والمغرب اتفقوا على صحة الأصول الخمسة (فساوى بين الصحيحين من جهة وبين سنن أبي داود والترمذي والنسائي من جهة أخرى) ، ولا شك أن في هذا الكلام نظر لأن في السنن أحاديث ضعيفة ومنكرة بل وموضوعة ، فكيف يساوى بينها وبين الصحيحين ؟ ، وأجاب العراقي : بأن السلفي  إنما قال بصحة أصولها ، كما ذكره في مقدمة الخطابي  إذ قال : وكتاب أبي داود  هو أحد الكتب الخمسة التي اعتمد أهل الحل والعقد من الفقهاء وحفاظ الحديث على قبولها والحكم بصحة أصولها ، يقول العراقي  معلقا على هذا : ولا يلزم من كون الشيء له أصل صحيح أن يكون هو صحيحا في واقع الأمر (الباعث الحثيث ص47 بتصرف) . 

المقارنة بين السنن والمسانيد من حيث درجة الصحة :

وقد جعل المحدثون  (ومنهم ابن الصلاح  ) المسانيد في الدرجة الثالثة بعد الصحيحين والسنن ، وممن تكلم على هذه المسألة الحافظ  في تعجيل المنفعة ، حيث قال : وأصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب (أي منهج أصحاب السنن) ،أن يقتصر فيه على ما يصلح للإحتجاج أو الإستشهاد بخلاف من رتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع ، وهذا النص يرجح كتب السنن على كتب المسانيد ، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه ، لأن بعض أصحاب السنن ، تساهلوا إلى حد ما في الإحتجاج بأحاديث ضعيفة ، ومن أبرزهم ابن ماجة  ، بينما تشدد بعض من صنف على طريقة المسانيد كأحمد  ، حتى قال شيخ الإسلام  بأن شرطه أعلى من شرط أبي داود حيث قال : شرط أحمد في المسند أقوى من شرط أبي داود في سننه ، وقد روى أبو داود عن رجال أعرض عنهم أحمد  في المسند ، وهذا يقتضي أن مسند أحمد أعلى شرطا من سنن ابن ماجة ، لأنها أدنى كتب السنن . 

   

سنن أبي داود  :

ومن أبرز من تكلم في سنن أبي داود من الباحثين المصريين ، الدكتور / عادل عبد الغفور حفظه الله ، وأنقل هنا كلامه بتصرف ، مع إضافة بعض الزيادات :

بداية نذكر كلام أبي داود  في رسالته الشهيرة إلى أهل مكة ، وفيها يبين منهجه في سننه ، حيث قال : ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ، وما كان في كتابي هذا فيه وهن شديد بينته وليس فيه عن رجل متروك الحديث شيء وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض ، والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير (وهو لا يقصد الشهرة الإصطلاحية وإنما يقصد فشو هذه الأخبار بين ثقات الرواة) ، وروي عنه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه .

نقد العلماء لنص أبي داود  :

كلام ابن الصلاح  :

وقد سار فيه طبقا للقاعدة التي اعتمدها (وهي منع إجتهاد المتأخرين في الحكم على الأحاديث) ، فقال  :

بأن ما صححه غيره من الأئمة المتقدمين  (بأن يرد الحديث في كتاب يشترط الصحة كالصحيحين ، أو يرد الحكم بصحته في كتاب يحكم مصنفه على الأحاديث كجامع الترمذي  ) فهو صحيح .

 

وأما ما سكت عنه أبو داود  (وهو ما عبر عنه بقوله : وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح) ، فهو متردد بين الصحة والحسن ولذا فإننا نحكم عليه بالحسن إحتياطا ، إلا إذا ورد ما يرفعه إلى مرتبة الصحة ، وهذا أصل المقولة الشهيرة بأن : (ما سكت عنه أبو داود  فهو حسن) وقد وافق المنذري ابن الصلاح  في هذه المسألة .   

  

 وقبل مناقشة ابن الصلاح  ، لابد من ذكر أقسام الحديث عند أبي داود  ، طبقا لكلامه في رسالته لأهل مكة وهي :

الصحيح وما يشبهه ويقاربه

الذي به وهن غير شديد

الذي به وهن شديد

ونلاحظ من كلام أبي داود  أنه لم يبين إلا القسم الثالث فقط وعلى هذا يكون ما سكت عنه أبو داود  ليس الحسن فقط (كما قال ابن الصلاح  ) وإنما النوعين 1 ، 2 بأكملهما وهما يشملان (الصحيح والحسن والحديث الضعيف الذي ضعفه غير شديد) ، وعلى هذا يمكننا مناقشة ابن الصلاح  كالتالي :

أن بعض ما جعلته حسنا بلا تفصيل قد يكون صحيحا .

وأن بعض ما جعلته حسنا بلا تفصيل قد يكون ضعيفا ضعفا غير شديد .

وعلى هذا فإن قول الجمهور هو الصحيح في هذه المسألة (كما في حالة مستدرك الحاكم ) ، وهو أن الناقد المتمكن لابد له من النظر في الحديث والحكم عليه بما يستحقه . ومن الجدير بالذكر أن أبا داود  ، لا يسكت على الضعيف إلا إذا كان معمولا به ، أي لا يكون ضعفه شديدا ، كأن يتقوى بظاهر القرآن ، وهذا يشبه ، كما نبه إلى ذلك الشيخ طارق عوض الله حفظه الله ، صنيع أحمد  ، حيث كان يقوي الضعيف بفتاوى الصحابة رضي الله عنهم .  

ما معنى (صالح ) في قول أبي داود  :

معناه أنه إما أن يكون صالحا للإحتجاج (وهو الصحيح والحسن) ، وإما أن يكون صالحا للإعتبار (الضعيف الذي ينجبر) ، وممن أشار إلى ذلك الشيخ مقبل رحمه الله حيث قال : منه ما هو صالح للحجية ومنه ما هو صالح للشواهد والمتابعات ، وقد وجدناه سكت عن أحاديث في "الصحيحين" ، وأحاديث تصلح في الشواهد والمتابعات ، وأحاديث ضعيفة .

 

 وقد نبه الشيخ طارق عوض الله حفظه الله إلى أن الحجة درجات ، وذلك كالتالي :

الحجة العالية أو الكاملة : وهي الصحيح أو الحسن .

الحجة الناقصة : وهي الضعيف المنجبر ، وهذا ما يطلق عليه في كتب الأصول ، جزء حجة ، فالحديث الضعيف لا يحتج به ابتداءا وإنما يحتج به إذا جاء ما يقويه ، فهو لا يقوم بنفسه ، كالقياس تماما ، فهو لا يقوم إلا بأصل يقاس عليه … الخ من شروط القياس ، ولا يمكن أن يستقل بنفسه ، وعلى هذا يحمل كلام بعض الأصوليين في كلامهم عن صحة الإحتجاج بقول الصحابي ، فمن قال بأن قول الصحابي حجة ، لم يرد بذلك الحجة الكاملة التي تستقل بنفسها ، وإنما أراد الحجة الناقصة التي تصلح للإستشهاد فقط ، ومن أبرز الأمثلة التي تفسر هذه المسألة :

قول ابن حبان  في الضعفاء : لا يعجبني الإحتجاج به إلا فيما وافق عليه الثقات ، فالحجة قائمة بالثقات الذين وافقهم لا به ، وعليه يكون المقصود من هذا الإحتجاج الإستشهاد أو الإستئناس فقط .

ويظهر هذا أيضا من صنيع أحمد حيث كان يرد حديث عمرو بن شعيب  إذا عارضه ما هو أقوى منه وقال لإبنه عبد الله  : ربما قبلت حديث عمرو بن شعيب وربما وجدت في القلب منه وفي رواية : وربما رددته ، فقبول أحمد  لحديث عمرو بن شعيب ، لا يعني احتجاجه به منفردا ، وإنما يعني الإستشهاد والإستئناس به .

 

نقد نص أبي داود   (وليس فيه عن رجل متروك الحديث شيء) :

وهذا نص أبي داود  ولكن الواقع يخالف هذا ، فقد  وجد في "سنن أبي داود" روايات عن مجاهيل وعن ضعفاء، بل روى أبوداود في "سننه" حديثًا من أحاديث جابر بن يزيد الجعفي في السهو في الصلاة من حديث المغيرة بن شعبة وقال عقبه ليس في كتابي عن جابر الجعفي غيره ،  فأبوداود إذا قال بهذا فهو لم يوف بشرطه ، وقد قال أبوداود : وما سكتّ عنه فهو صالح ، ووجدناه سكت عن أشياء، وجاء الحافظ المنذري وبيّن ضعفها، ثم جاء الحافظ ابن القيم وبيّن ما لم يبينه أبوداود ولا المنذري، ولا يزال المجال مفتوحًا للباحثين في "سنن أبي داود"، وكذلك رواية أبي داود مباشرة عن الشخص لا تكفي، فكم من محدث قيل عنه : إنه لا يروي إلا عن ثقة، ثم تجده قد روى عن ضعيف، وعن مجهول، كما في "الصارم المنكي في الرد على السبكي". وهذه إجابة الشيخ مقبل بن هادي رحمه الله على السؤال 80 في المقترح .

قول أبي داود  : (الأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير) :

وقد كان أبو داود  يفتخر بشهرة أحاديث كتابه  فهو لا يحتج بحديث غريب وهذا يدل على أن المشهور يطلق على كل حديث خرج عن حد الغرابة والشذوذ إما بورده عن طريق آخر أو بشيوع العمل بمقتضاه ، وهو خلاف ما استقر عليه المتأخرون في تعريف مصطلح المشهور (وهو ما رواه ثلاثة فأكثر_في كل طبقة_ما لم يبلغ حد التواتر) . وهذا يؤكد مجددا اختلاف ألفاظ المتقدمين عن الألفاظ التي اصطلح عليها المتأخرون وسارت عليه كتب المصطلح ، وهو ما أكد عليه الدكتور حمزة المليباري حفظه الله في بحثه النفيس (نظرات جديدة في علوم الحديث) ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

قول ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين : إنه استفاض وتواتر.  وقد يريدون بالتواتر : الاشتهار ، لا المعنى الذي فسره به الأصوليون ، نقله العراقي  في التقييد والإيضاح . 

تتبع الشيخ حاتم الشريف حفظه الله لفظ التواتر في كلام المتقدمين قبل استقرار المصطلح المتعارف عليه عند المتأخرين حيث قال حفظه الله :  ومثل هذا الاستخدام لكلمة ( المتواتر ) ، على المعنى اللغوي ، يرد أيضاً في كلام من قبل الحاكم ؛ كأبي جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامه المصري الحنفي ، المتوفى سنة 321هـ   ، وقبلهما وجدته في كلام الإمام البخاري  ، والإمام مسلم  ، وغيرهم .

 

ما روي عن أبي داود  بأنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه :

وقد نقل ابن كثير  في اختصار علوم الحديث  هذه الرواية عن ابن الصلاح  ، ويؤكد هذا ما ذكره ابن مندة  بأن أبا داود  يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره ، لأنه أقوى عنده من رأي الرجال ، وهو بذلك يقتدي بصنيع شيخه أحمد بن حنبل  ، ولكنه لا يعقد بابا لحديث منكر أو شديد الضعف .

 

مسألة : هل ما قرره ابن الصلاح  من أن أبا داود  يسكت عن الحسن خاص بسننه أم يجري على بقية مصنفاته ؟ :

أيد ابن حجر  اطلاق هذه العبارة على كل مصنفات أبي داود  ولكن رأيه معارض بما قاله العراقي  بأن نص أبي داود  في رسالته صريح حيث قال : (ذكرت في كتابي هذا الصحيح …) ، فصنيعه لا يجري إلا على كتاب السنن .

مسألة : ضعف أبو داود بعض الأحاديث في سؤالات أبي عبيد الآجري ، وسكت عنها في السنن ، ومعلوم أن ما سكت عنه أبو داود  في السنن هو صالح ، والضعيف بلا شك غير صالح فكيف يمكن تفسير ذلك ؟ :

لا يلزم هذا الإستدراك ، لأن أبا داود   سكت عن الضعيف الذي يصلح للإعتبار ، فليس معنى تضعيفه المطلق لحديث في سؤالات أبي عبيد أنه لا يصلح للإعتبار ، فربما كان أبو داود يقصد بهذا التضعيف المطلق ، الضعيف الذي لم يشتد ضعفه ، وإنما يلزم الإستدراك إذا كان تضعيفه للحديث تضعيفا شديدا . ومع ذلك أورده في سننه وسكت عليه . وهذا كلام العراقي  (الباعث الحثيث ص59 ، طبعة مكتبة السنة) .

     

أهم ملامح منهج أبي داود في السنن : (نقلا عن حجية السنة ص191) :

عنايته بذكر الطرق واختلاف الألفاظ وزيادات المتون .

جمع الأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمصار .

انتقى في كل باب مجموعة قليلة من الأحاديث خشية الإطالة .

لا يكرر الحديث إلا إذا اشتمل على زيادة مهمة ، وهو بذلك يميل لصنيع مسلم  .

اختصاره لبعض الأحاديث لبيان موضع الإستدلال ، وهو بذلك يميل لصنيع البخاري  .

كثيرا ما يشير إلى العلل الواردة في الأحاديث .

إذا لم يخرج أبو داود  في الباب إلا حديثا واحدا وسكت عنه فإننا لا نحكم عليه ابتداءا بأنه صحيح ، لأن أبا داود  يعقد الباب إذا وجد فيه الصحيح أو الحسن أو حتى الضعيف المنجبر ، فما يدرينا أنه صحيح ، وإنما الأصح أن يقال بأن هذا الحديث هو أقوى ما عنده في هذا الباب ، وفي هذا رد على ابن عبد البر  ، الذي قال بأن أبا داود  إذا خرج في الباب حديثا واحدا فقط فهو عنده صحيح ، وعليه فإننا إذا وجدنا حديثا يصلح لأن يخرج في هذا الباب ، ولكن أبا داود  أعرض عنه ، فإن هذا يعني أن هذا الحديث الذي لم يخرجه أضعف من الحديث الذي خرجه ، لأنه يخرج في الباب أقوى ما عنده ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث أسماء رضي الله عنها : (إن المرأة إذا بلغت المحيض …) الحديث ، فقد خرجه أبو داود  في سننه وأعله بالإنقطاع بين خالد بن دريك  وعائشة رضي الله عنها ، ولم يخرج الرواية الموصولة من طريق ابن لهيعة  ، التي خرجها الطبراني  ، فيفهم من ذلك أن رواية خالد بن دريك  على إرسالها ، هي أقوى عنده من رواية ابن لهيعة  رغم أنها موصولة .

أبوداود  يصدر دوما الباب بالقوي المحتج به ، وقد يورد الضعيف جدا بعد ذلك ، مبينا ضعفه ، لا ليستشهد به ، فكأنه ينبه بذلك على عدم احتجاجه بهذا الضعيف جدا ، لكيلا يستدرك عليه أحد بإهماله لهذا الحديث .

يقول ابن سيد الناس  بأن أبا داود  شأنه شأن مسلم  في تقسيم الحديث حيث قسم مسلم الرجال إلى 3 طبقات :

الطبقة الأولى : وهي طبقة من يحتج بحديثهم .

الطبقة الثانية : طبقة من يوصف بأنه صدوق ، كعطاء بن السائب  .

الطبقة الثالثة : الضعفاء جدا والمتروكون .

وقد احتج مسلم  بأحاديث رجال الطبقة الأولى ، ثم أتبعها بأحاديث الطبقة الثانية ، وغالبا ما يكون ذلك على سبيل الإستشهاد ، وعلى هذا يقال بأن مسلم  يخرج الصحيح وما قريب منه ، وهذا يشبه كلام أبي داود  الذي يقول : (ذكرت الصحيح وما يشابهه) ، فمسلم  لم يفرق بين الصحيح والحسن وإنما ذكر كليهما تحت مسمى الصحيح (على اختلاف مراتبه) ، فلماذا لا يقال نفس الكلام على صنيع أبي داود  ، ويقال بأن كل ما سكت عنه أبو داود  صحيح وليس حسن ؟ ويرد العراقي  فيقول : لأن مسلم  ذكر أن هذه الأحاديث عنده صحيحة ، فقد اشترط  الصحة ، بينما لم يشترط أبو داود  الصحة ، وإنما ذكر الصحيح وما يشابهه ، فما سكت عنه ، ربما كان حسنا أو صحيحا .

 

الثلاثيات في سنن أبي داود  :

في سنن أبي داود  حديث ثلاثي واحد .

 

مسألة : الزيادات على سنن أبي داود  :

وهي زيادات أبي سعيد أحمد بن محمد ابن الأعرابي  ، أحد رواة الكتاب عن أبي داود .

 

سنن الترمذي  : 

ومن أهم مميزات جامع الترمذي  أنه مرجع مهم جدا في الحكم على الأحاديث ، فهو ينص على درجة أحاديثه صراحة ، فيقول مثلا : هذا حديث صحيح ، أو حسن صحيح ، أو غريب … الخ .

تميز الترمذي  في جامعه بمصطلحات خاصة به في جامعه ومن أبرزها مصطلح "حسن صحيح" الذي اختلف فيه النقاد اختلافا كبيرا وقبل الشروع في ذكر أقوال العلماء  في هذا الشأن لابد من إلقاء نظرة سريعة على جامع الترمذي  الذي اشتهر باسم سنن الترمذي :

اقتصر الترمذي  غالبا على الأحاديث المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (حجية السنة وتاريخها ص190) . وهذا أمر أغلبي وإلا فجامع الترمذي  كمثال لكتب السنن يحتوي على موقوفات ومقطوعات حيث كان الترمذي  يعنى بذكر عمل الصحابة أو التابعين أو غيرهم بمقتضى الحديث الذي هو بصدد تصحيحه ، بل إن تحسينه كان مبنياً على ثبوت العمل به من بعض الصحابة. وهذا ما يعبر عنه الترمذي  في أكثر من موضع في جامعه بقوله (وعليه العمل عند العلماء أو بعضهم) ونحو ذلك . وتميز جامع الترمذي  بعدة خصائص لخصها د/ حسين شواط في كتابه حجية السنة ص192 في النقاط التالية :

أنه عرض كتابه هذا على علماء الحجاز والعراق وخراسان فاستحسنوه ، فحصل له القبول من أهل زمانه .

أنه اقتصر على إيراد الأحاديث التي عمل بها فقهاء الأمصار . حيث قال : وجميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخذ به بعض العلماء ما خلا حديثين حديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر وحديث : "إذا شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" اهـ . قلت (أي الشيخ ابن عثيمين  في مذكرته في المصطلح ص41) : بل أخذ الإمام أحمد  بمقتضى حديث ابن عباس رضي الله عنه في الجمع فأجاز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للمريض ونحوه وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما لم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ؟ فقال : أراد أن لا يحرج أمته فدل على أنه كلما لحق الأمة حرج في ترك الجمع جاز الجمع . وأما حديث قتل شارب الخمر في الرابعة فقد أخذ به بعض العلماء فقال ابن حزم  : يقتل في الرابعة بكل حال وقال شيخ الإسلام : يقتل عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه ، وعلى هذا فلا إجماع على ترك العمل بالحديثين .

 أنه أول كتاب شهر الحديث الحسن ، لكثرة ذكر الترمذي  لذلك عند الكلام على الأحاديث (كما سيأتي تفصيلا إن شاء الله) .    

 حكم الترمذي  في كتابه على أكثر الأحاديث وتكلم عليها بما يقتضي التصحيح أو التضعيف . قال ابن رجب  : "اعلم أن الترمذي  خرج في كتابه الصحيح والحسن والغريب ، والغرائب التي خرجها فبها بعض المنكر ولا سيما في كتاب الفضائل ولكنه يبين ذلك غالبا ولا أعلم أنه خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه بإسناد منفرد ، نعم قد يخرج عن سيئ الحفظ ومن غلب على حديثه الوهن ويبين ذلك غالبا ولا يسكت عنه" اهـ . ويؤكد د/ حسين شواط على ضرورة عرض أحاديث جامع الترمذي  على قواعد الجرح والتعديل ، وقد جرد الشيخ الألباني  أحاديثه المقبولة في صحيح جامع الترمذي ، وهو إن لم يحكم صراحة (بصحة أو حسن ، الخ ......) ، فإنه يحكم بإبراز علل الأحاديث إن وجدت ، ومن ذلك إعلاله لحديث : (لزوال الدنيا أهون على الله من إراقة دم مسلم ) ، أو كما قال لى الله عليه وسلم ، في أول كتاب الديات ، حيث ذكر إختلاف العلماء في رفعه ووقفه ، ثم حكم بوقفه ، وهذا إعلال للرواية المرفوعة بالموقوفة .

يعنون للباب غالبا بالحكم الذي يدل عليه أصح أحاديث ذلك الباب .

أورد فيه كثيرا من فقه الصحابة والتابعين ومذاهب فقهاء الأمصار ، فهو من أهم مصادر دراسة الفقه المذهبي وقد سبق أن الترمذي  في  تحسينه لبعض الأحاديث كان يعتمد على ثبوت العمل بها من بعض الصحابة .

يختصر الترمذي طرق الحديث فيذكر أحدها ويشير إلى غيرها ، بقوله وفي الباب عن فلان ، وأحيانا يشير إلى من دون الصحابي ، مثل قوله : وقد روي هذا الحديث عن صفوان بن عسال رضي الله عنه من غير حديث عاصم  ، أي حديث المسح على الخفين . فقد أشار هنا إلى من دون الصحابي ، وهو عاصم  .

ذيل جامعه بكتاب بكتاب العلل ، وفيه فوائد نفيسة ، أثرى الحافظ  الحنبلي في شرحه عليها وذكر فيها جملة مسائل مهمة في علم الجرح والتعديل مثل ذكر طبقات أتباع بعض الرواة كابن عمر رضي الله عنه ونافع  وذكر المختلطين ومن روى عنهم وذكر من كانت روايته في بلد أصح من روايته في بلد آخر ، وقد نبه الشيخ طارق عوض الله حفظه الله إلى أن علل الترمذي  هي تكميل لكتابه الجامع ، وليست مصنفا مستقلا ، وقد امتاز الترمذي  في جامعه بنصه على العلل صراحة ، حيث يذكر أقوال الأئمة  في بيان علل هذا الحديث ، وربما وافقهم ، وربما عارضهم .

اهتم الترمذي  ببعض الدقائق الحديثية ، كاهتمامه  بتسمية المكنين .

ومن أبرز من تكلم على مزايا جامع الترمذي  :

ابن رشيد  حيث قال : إن كتاب الترمذي  تضمن الحديث مصنفا على الأبواب وهذا علم برأسه ، والفقه ، وهذا علم ثان ، وعلل الحديث ، وهذا علم ثالث ، (وهو يشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب) ، والأسماء والكنى ، وهذا علم رابع ، والتعديل والتجريح ، وهذا علم خامس ، ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه ، وهذا علم سادس ، وتعديد من روى هذا الحديث ، وهذا علم سابع ، فهذه علومه المجملة ، وأما علومه التفصيلية فكثيرة .

أبو بكر العربي  حيث قال بأن في الجامع 14 علما ، فقد صنف وأسند وصحح وأسقم وعدد الطريق وجرح وعدل وأسمى وأكنى ووصل وقطع وأوضح المعمول به والمتروك وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره ، وذكر اختلافهم في تأويله وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه .

 

ومن المسائل المهمة التي تطرق إليها الشيخ الحميد حفظه الله في محاضراته عن مناهج الأئمة ، تأثر الترمذي  بشيخيه البخاري ومسلم  ، وبين حفظه الله تأثر الترمذي  بكل واحد منهما على حدة ، وذلك كالتالي :

أولا : بشيخه البخاري  :

ويظهر هذا جليا في الجوانب الفقهية ، وخاصة في تراجم أبوابه التي بناها على استنباطاته الفقهية ، تماما كشيخه البخاري  ، ولكنه زاد عليه اهتمامه بذكر أقوال أهل العلم ، وربما أورد اختلافهم ، وربما رجح بين الآراء ، فهو من المراجع المهمة لدراسة الفقه المقارن ، كما سبق ذكره .

ثانيا : بشيخه مسلم  :

ويظهر هذا في بعض الدقائق في الصناعة الحديثية ومن أبرزها :

أنه يقرن شيوخه عند إيراده لروايته عنهم ، فيورد المتن الواحد بإسنادين ، بمساق واحد ، كقوله ، حدثنا قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر .

أنه  قد يورد هذا الحديث الذي قرن فيه شيوخه ، بهذه الأسانيد عن شيوخه مستقلا سندا ومتنا ، ولكنه في الغالب إذا فعل ذلك ، فإنه يكرر المتن لأجل الإختلاف الوارد في المتن أو لما فيه من زيادة ، وأما إذا كان المتن هو نفس المتن ، أو فيه اختلاف يسير ، فإنه يورد الإسناد الثاني ويشير إلى المتن إشارة كقوله (بمثله ، أو نحوه) ، وهذه طريقة مسلم  .

أنه يستخدم طريقة التحويل في الأسانيد ، وقد أكثر منها مسلم  في صحيحه ، خلاف البخاري  ، كما نبه إلى ذلك النووي  في شرحه لصحيح مسلم  .

 

 

 

  

أهم المصطلحات التي استخدمها الترمذي في جامعه :

حسن :

ونبدأ بتعريف الترمذي  للحسن كما ذكره في آخر العلل التي في آخر الجامع حيث اشترط له :

 أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب .

 ولا يكون شاذا .

 وأن يروى من غير وجه .

 وفي معرض نقد بعض العلماء لهذا التعريف قالوا : بأن الشرطين الأول والثاني ينطبقان على الصحيح أيضا فيشترط له  أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون شاذا فالشرط الثالث هو الذي يميز الصحيح من الحسن لأن الصحيح لا يشترط له تعدد الأوجه ويرد هنا اعتراض آخر وهو أن الحسن لذاته لا يشترط له أيضا تعدد الأوجه ويشترط في راويه العدالة والضبط "وإن كان الضبط خفيفا" بينما الشرط الأول في تعريف الترمذي  يشمل من هو دون راوي الحسن لذاته فغايته ألا يكون في سنده متهم بالكذب فيخرج الحسن لذاته من حد التعريف ويكون تعريف الترمذي  قاصرا على نوع واحد فقط من الحسن وهو الحسن لغيره (وهو الذي يحتاج إلى أكثر من وجه ليزول ضعفه كالمرسل الذي يتقوى بالشروط التي حررها العلماء ليصل إلى درجة الحسن لغيره ويكون صالحا للاحتجاج خلافا للحسن لذاته الذي يحتج به ابتداء دون اشتراط وروده من وجه آخر ، بل إن وروده من وجه آخر قد يصل به إلى درجة الصحيح لغيره) . وقد اعترض الحافظ ابن كثير  على اشتراط الترمذي  تعدد الطرق  بقوله : وهذا إذا كان قد روي عن الترمذي أنه قاله ففي أي كتاب له قاله ؟ وأين إسناده ؟ وإن كان فهم من اصطلاحه في كتابه "الجامع" فليس ذلك بصحيح ، فإنه يقول في كثير من الأحاديث : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد استدرك الحافظ العراقي  على ابن كثير  إنكاره لوجود هذا التعريف لأنه موجود في آخر كتابه العلل وأما اعتراضه بقول الترمذي  هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه فمن الممكن الرد عليه بأن الترمذي  يعني بهذا المصطلح الحسن لذاته ولا يشترط فيه تعدد الطرق (الباعث الحثيث ص53-54 طبعة مكتبة السنة) ، ويعلق الشيخ أحمد شاكر على شرط تعدد الأوجه بأن الترمذي لا يريد بقوله في بيان معنى الحسن "ويروى من غير وجه نحو (ذلك)" أن نفس الحديث عن الصحابي يروى من طرق أخرى ، لأنه لا يكون حينئذ غريبا ، وإنما يريد أن لا يكون معناه غريبا : بأن يروى المعنى عن صحابي آخر ، أو يعتضد بعمومات أحاديث أخر ، أو بنحو ذلك ، مما يخرج به معناه عن أن يكون شاذا غريبا . فتأمل (الباعث الحثيث ص56 طبعة مكتبة السنة) . وقد تعرض الشيخ السعد حفظه الله لتفسير قول الترمذي  : (وأن يروى من غير وجه) ، وقال بأن هذا يحتمل أحد أمرين :

إما أن يروى لفظه من غير وجه .

وإما أن يروى معناه من غير وجه وهو الأقرب ، لأن التقوية قد تكون لذات الخبر وقد تكون لمعناه (وغالبا ما يكون ذلك في الحسن لغيره) ، ويدل على ذلك قول الترمذي  : وفي الباب عن فلان وفلان ، ويذكر أحاديث بمعنى الحديث الأول أو تتعلق بالمسألة التي يدور حولها الحديث الأول ، ولا تكون هذه الأحاديث بنفس لفظ الحديث الأول . والشيخ حفظه الله بترجيحه التفسير الثاني يؤيد ما ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر  فيما تقدم .          

وقد أثنى العلماء على صنيع الترمذي  بتفريقه بين الشرطين الثاني والثالث فلا يكفي أن يرد الحديث من أكثر من وجه حتى يرتفع لدرجة الحسن لغيره فربما كانت هذه الطرق المتعددة معلولة (كأن يكون رواتها متهمين بالكذب) فهي لا تصلح للمتابعة فلا تتقوى ولا يتقوى بها . ومن الأمثلة التي يتضح بها صنيع الترمذي  حكمه على حديث علي رضي الله عنه : (من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج) فقد رواه الترمذي (530) وقال حديث حسن وفي اسناده ضعف لكن له شواهد لا يخلو كل منها من ضعف من حديث سعد القرظي وأبي رافع ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الزهري وبمجموع هذا كله فالحديث حسن وقد حسنه الألباني   . والمتتبع لأقوال العلماء في صنيع الترمذي في جامعه يتضح له أن هناك بعض التساهل في تصحيح وتحسين الترمذي  لبعض الأحاديث ومنهم ابن دحية  الذي يقول : كم حسن الترمذي من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية . وقال الحافظ الذهبي  : لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي ، والترمذي ، كما يقول الشيخ مقبل رحمه الله ، أكثر تساهلاً من ابن حبان ، فالحافظ الذهبي قال في ترجمة كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف وقد ذكر حديث: ((المسلمون على شروطهم)) : وأما الترمذي فصحح حديثه ، ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه ، لأنه ذكر في ترجمة كثير بن عبدالله عن الإمام الشافعي وأبي داود قولهما : أنه ركن من أركان الكذب .

 

وقال في ترجمة يحيى بن يمان : وقد ذكر في ترجمته حديثًا وهو أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ناراً في المقبرة ، وذهب فإذا هم يحفرون بالليل ودفن في الليل ، قال الذهبي : حسّنه الترمذي ، وفي سنده ثلاثة ضعفاء ،  فعند المحاققة غالب تحسينات الترمذي ضعاف ، وجدير بالذكر أن الدفن جائز في الليل لأدلة أخرى ، كما هو معلوم .

وقال الألباني  في معرض تعليقه على حديث ابن عمر في القراءة عند القبور في أحكام الجنائز حينما تكلم على أحد رواة الحديث وهو عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج : ومما يؤيد ما ذكرنا "من جهالة عبد الرحمن" أن الترمذي  مع تساهله في التحسين لما أخرج له حديثا آخر (2/128) وليس له عنده غيره سكت عنه ولم يحسنه . (أحكام الجنائز ص 244 مكتبة المعارف) . وقد نبه الشيخ عبد الله السعد حفظه الله على أن الحسن عند الترمذي  هو الحديث الذي به ضعف أو به علة وذكر بعض الأمثلة على هذا ومنها :

حديث دخول المسجد وقال فيه : (حديث حسن وإسناده ليس بالمتصل) .

حديث سعيد بن أبي هلال عن عمر بن إسحاق عن عائشة وقال فيه : (حديث حسن وإسناده غير متصل لأن عمر لم يسمع من عائشة) .

حديث خيثمة البصري عن الحسن عن عمران وقال فيه : (حديث حسن وإسناده ليس بذاك) .

 حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة : (من سلك طريقا يلتمس فيه علما) حديث حسن ونقل الحافظ  في النكت أنه لم يقل حسن صحيح لأنه ذكر أن الأعمش دلسه عن أبي صالح وهذه الزيادة غير موجودة في نسخ الترمذي  .

وقد تتبع أحد الباحثين المصريين (يدعى الدكتور بدران ، وهو أستاذ المادة في معهد علوم القرآن والحديث في القاهرة) ، الأحاديث التي حكم عليها الترمذي بقوله : "حسن" ، فوجدها 931 حديثا .

 

حسن غريب : فقد قال بعض العلماء أن مصطلح (حسن غريب) يقصد به الترمذي  أن متن الحديث سليم من الشذوذ والغرابة، لكن السند فيه غرابة وإشكال . ومما يزول به شذوذ المتن أن يكون قد عمل به بعض الصحابة مثلا (وكثيرا ما يلجأ الترمذي إلى ذلك فيقول مثلا والعمل عليه عند أهل العلم) ، وقد مال الألباني رحمه الله في مقدمة الترغيب والترهيب ، إلى تقديم "الحسن الغريب" ، على "الحسن" ، وفي هذا نظر . وهناك من فرق بين قول الترمذي  (حسن غريب من هذا الوجه) وقوله (حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) فقالوا :

 (حسن غريب من هذا الوجه) : يعني الترمذي  بالغرابة هنا الغرابة النسبية فقد لا يرد الحديث عن الصحابي الذي رواه إلا من طريق واحد فيكون غريبا من هذا الوجه ولكنه ورد عن صحابة آخرين من طرق أخرى فزالت الغرابة المطلقة بهذه الطرق ولم تزل الغرابة النسبية لأنه لم يرد عن هذا الصحابي من طريق آخر . (فهو غريب الإسناد لا المتن)

 وأما (حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) : فهذا تأكيد منه على غرابته المطلقة وقال بعض العلماء أن الترمذي  يعني بهذا القول الحسن لذاته لأنه لا يحتاج إلى طريق آخر ليرتقي إلى الحسن فهو حسن بدون وروده من طريق آخر وهذا هو الحسن لذاته . (فهو غريب الإسناد والمتن)

 قوله : وفي الباب عن فلان وفلان : لا يعني أن هؤلاء الصحابة رووا ذلك الحديث المعين بلفظه ، إنما يقصد وجود أحاديث أخرى يصح إيرادها في ذلك الباب . (حجية السنة ص193) ومن الأمثلة التي تؤيد هذا الرأي ما رواه الترمذي  وحسنه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم ، فأجاز حيث قال الترمذي  عقبه : " وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد)" .

وأما مصطلح (هذا أصح شيء في الباب وأحسن) فيفيد الصحة عنده ، بخلاف قوله : (أحسن شيء في هذا الباب حديث فلان) أو (أصح شيء في هذا الباب حديث فلان) ، إذ لا يفيد إلا مطلق الترجيح من بين المرويات التي وردت في الباب ، وهذا ما تبين لي (أي الدكتور / حمزة المليباري) بالاستقراء ، حيث يستخدم الإمام الترمذي في سننه مصطلح (حديث فلان أحسن وأصح) فيما صححه البخاري ومسلم . وعليه فإن هذا المصطلح المركب يكون آكد في إفادة الصحة من قوله المعتاد : (حسن صحيح) .   والله أعلم .

حسن صحيح : وهو المصطلح الذي وقع فيه أكثر الخلاف بين العلماء وأقوالهم تتلخص في الأقوال التالية :

أنه ورد بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن وعلى هذا يكون الحديث أعلى درجة من الحديث الذي قال فيه الترمذي  "صحيح" فقط . وقد استدرك على أصحاب هذا الرأي بقول الترمذي  في حكمه على بعض الأحاديث بقوله (حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) فالحديث هنا ليس له إلا سند واحد فقط ومع ذلك وصفه الترمذي  بالحسن والصحة معا . ومن أمثلته حكم الترمذي  على حديث إخبار الذئب للراعي ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : "وهذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل" . ولكن الشيخ عبد الرحمن الفقيه حفظه الله يؤكد على أن قول الترمذي : "وهذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، لا يعني عدم ورود الحديث من طرق أخرى ولكنه يعني أنه لا يعرفه من طريق صحيح إلا من هذا الطريق ، فقد يفهم البعض عندما يجد طريقا آخر غير ما ذكره هذا الإمام أن هذا قد فاته ، ويستدرك عليه ، وقد نبه الحافظ ابن حجر  على هذه المسألة في النكت على ابن الصلاح وبين مقصود الأئمة بذلك: قال الحافظ ابن حجر  في النكت على ابن الصلاح(2/721-723) : ولما أخرج الترمذي حديث ابن جريج المبدأ بذكره في (( كتاب الدعوات )) من جامعه عن أبي عبيدة بن أبي السفر ، عن حجاج قال : هذا حديث حسن [صحيح] غريب لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه انتهى  .وهو متعقب أيضاً وقد عرفناه من حديث سهيل من غير هذا الوجه فرويناه في الخلعيات مخرجاً من أفراد الدار قطني من طريق الواقدي ثنا عاصم ابن عمر وسليمان بن بلال كلاهما عن سهيل به . ورويناه في كتاب الذكر لجعفر الفرباني قال : ثنا هشام بن عمار . ثنا إسماعيل بن عياش . ثنا سهيل به. ورويناه في (( الدعاء )) للطبراني من طريق ابن وهب قال : حدثني محمد بن أبي حميد عن سهيل .
فهؤلاء أربعة رووه عن سهيل من غير هذا الوجه الذي أخرجه الترمذي .  فلعله إنما نفى أن يكون يعرفه من طريق قوية ، لأن الطرق المذكورة لا يخلو واحد منها من مقال .
أما الأولى : فالواقدي متروك الحديث .
وأما الثانية : فإسماعيل بن عياش مضعف في غير روايته عن الشاميين . ولو صرح بالتحديث .
وأما الثالثة : فمحمد بن أبي حميد وإن كان مدنياً ، لكنه ضعيف أيضاً
وقد سبق الترمذي أبو حاتم إلى ما حكم به من تفرد تلك الطريق عن سهيل ، فقال : فيما حكاه ابنه عنه في العلل : (( لا أعلم روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه . قال : وأما رواية إسماعيل بن عياش ، فما أدري ما هي ؟ إنما روى عنه إسماعيل أحاديث يسيرة )) . فكأن أبا حاتم استبعد أن يكون إسماعيل حدث به ، لأن هشام بن عمار تغير في آخر عمره ، فلعله رأى أن هذا مما خلط فيه ، ولكن أورد ابن أبي حاتم على إطلاق أبيه طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة التي قدمناها ، ثم اعتذر عنه بقوله : كأنه لم يصحح رواية عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري (فكأن الطريق المعلولة لا تأخذ في الإعتبار) وهذا يدلك على أنهم قد يطلقون النفي ، ويقصدون به نفي الطرق الصحيحة ، فلا ينبغي أن يورد على إطلاقهم مع ذلك الطرق الضعيفة والله الموفق . انتهى .

ويشير الشيخ عبد الله السعد حفظه الله إلى أن مصطلح "حسن صحيح" يعني أن هذا الحديث دون الصحيح وإن كان ثابتا عنده وساق الشيخ حفظه الله مثالا لهذا وهو حديث محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة وقال عنه حسن صحيح ثم ساقه من طريق ابن أبي ذئب  عن المقبري عن أبي هريرة وقال عنه : هذا حديث صحيح وهو أصح من الأول .

وقد نبه الشيخ حمزة المليباري في الموازنة ( ص 118-122 ) على أن البعض قد يستدرك على الحفاظ إذا قالوا  لايعرف من هذا الوجه بطرق غريبة متأخرة عن زمن هذا الإمام وذكر أمثلة لذلك .

ومن الأمثلة التي استخدم فيها الترمذي  هذا المصطلح مع ورود الحديث من طرق أخرى حديث زكاة الفطر وزيادة مالك  : "من المسلمين" حيث قال الترمذي  في آخر العلل : ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث . وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه مثل ما روى مالك بن أنس_ فذكر الحديث_ثم قال : وزاد مالك في هذا الحديث  "من المسلمين" ، وروى أيوب وعبيد الله بن عمر وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ولم يذكروا  فيه  "من المسلمين" . وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه . انتهى كلام الترمذي  ومن هذه المتابعات ما رواه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع وما رواه البخاري وأبو داود والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه . وقال العراقي في شرحه على المقدمة مدافعا عن الترمذي ، بأنه لم يذكر التفرد مطلقا عن مالك ، وإنما قيده بتفرد الحافظ كمالك  "فهناك متابعات لمالك  ولكنها ليست لحفاظ  كمالك ".

ويرد على هذا الرأي أيضا ، حكم الترمذي رحمه الله على بعض أحاديث جامعه بقوله : هذا حديث حسن صحيح غريب ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث : (إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي) ، حيث حكم عليه الترمذي بقوله : هذا حديث حسن صحيح غريب .

حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يده كتابان ، فقال : هل تدرون ما هذان الكتابان ؟ ، قال : قلنا : لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله . قال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل عليهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص أبدا . ثم قال للذي في يساره : هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص أبدا ، الحديث . حيث حكم عليه الترمذي بنفس الحكم السابق .

حديث : (اللهم اهد ثقيفا) ، حيث حكم عليه أيضا بنفس الحكم .

فقد وصف الترمذي رحمه الله هذه الأحاديث بالحسن والصحة معا ، ومع ذلك حكى رحمه الله التفرد بقوله : غريب ، ولكن ، قد يرد على هذا ، أن الترمذي رحمه الله لم يحكم بالغرابة المطلقة ، فلم يقل : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، فلعل الغرابة هنا نسبية ، لا تمنع ورود الحديث من طريق آخر ، والله أعلم .

 

 

أنه حسن متنا وصحيح إسنادا ، وهو رأي ابن الصلاح  ، واستدرك على هذا القول بأن حسن المتن غير معتبر في الحكم على الأحاديث وقد أورد الترمذي  أحاديث في الوعيد والحدود ونحو هذا وحكم عليها بالحسن والصحة ولكن يمكن الرد على هذا الإعتراض بأن حسن المتن لا يلزم منه أن يكون من الحديث من أحاديث الوعد فحسن البيان يشمل كل أنواع الحديث ، وممن انتقد هذا التعريف ، الحافظ ابن دقيق العيد  في الإقتراح ، حيث قال  بأنه يلزم من هذا ، أن يوصف الحديث الضعيف بل والموضوع بالحسن ، إذا كانت ألفاظه جزلة ، وقد رد الحافظ العراقي  على ابن دقيق العيد  ، بقوله بأن هذا المعنى ، الذي ذكره ابن الصلاح  ، قد وجد في كلام بعض أهل العلم ، وممن أكثر من استخدامه ، الحافظ ابن عبد البر  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث معاذ : (تعلموا العلم فإن تعلمه …) ، حيث أورده ابن عبد البر  في جامع بيان العلم ، وقال عنه : هذا حديث حسن جدا ، رغم أنه موضوع ، فابن عبد البر  ، لم يقصد هنا الحسن الإصطلاحي ، وإنما عنى حسن اللفظ .

روى ابن عبد البر  في التمهيد ، حديثا عن مالك  ، من طريق بعض الضعفاء ، في فضل لا إله إلا الله ، ورغم أن الحديث مردود من الناحية الإسنادية ، إلا أن ابن عبد البر  قال عنه : هذا حديث حسن جدا ، ترجى بركته .     

 أن لفظ الحسن يعني العمل بالحديث ولفظ الصحة يعني الصحة بمعناها الاصطلاحي . وممن تبنى هذا الرأي الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة  حيث قال : والذي يظهر أن الحسن في نظر الترمذي  أعم من الصحيح ، فيجامعه وينفرد عنه ، وأنه في معنى المقبول المعمول به ، الذي يقول مالك  في مثله : (وعليه العمل ببلدنا) وما كان صحيحا ولم يعمل به لسبب من الأسباب يسميه الترمذي "صحيحا" فقط وهو مثل ما يرويه مالك في موطئه ويقول عقبه : "وليس عليه العمل" . وكأن غرض الترمذي  أن يجمع في كتابه بين الأحاديث وما أيدها من عمل القرون الفاضلة من الصحابة ومن بعدهم . فيسمي هذه الأحاديث المؤيدة بالعمل حسانا ، سواء صحت أو نزلت عن درجة الصحة ، وما لم تتأيد بعمل لا يصفها بالحسن وإن صحت . ويؤيد هذا الرأي قول الترمذي  في حديث علي رضي الله عنه : (من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج) : حديث حسن والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج . ولكن هذه القاعدة غير مطردة في صنيع الترمذي  فقد حكم على حديث الترجيع بأنه صحيح عليه العمل بمكة ولم يعبر عن التأييد بالعمل بلفظ "حسن" .

 أنه متردد بين الحسن والصحة فهو صحيح عند قوم حسن عند آخرين ، وهذا رأي الحافظ ابن كثير  ، وعلى هذا يكون الحديث أعلى من الحسن وأدنى من الصحيح ، ولعل مما يؤيد هذا الرأي المثال الذي ساقه الشيخ السعد حفظه الله تأييدا لهذا الرأي ، وهو حديث محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة وقال عنه حسن صحيح ثم ساقه من طريق ابن أبي ذئب  عن المقبري عن أبي هريرة وقال عنه : هذا حديث صحيح وهو أصح من الأول .

 وقد ذكر الحافظ  هذا الرأي في شرح النخبة وقال بأن أداة التردد (أو) حذفت فالمقصود (حسن أو صحيح) وقد استدرك على أصحاب هذا الرأي من ثلاثة أوجه :

 أن الترمذي  يحكم على معظم الأحاديث التي يصححها بقوله (حسن صحيح) وقل ما يحكم على حديث بالصحة فقط . ولا يعقل أن الترمذي تردد في الحكم على معظم الأحاديث التي أوردها في جامعه .

 أن الترمذي  حكم على أحاديث في أعلى مراتب الصحة بل ووردت في الصحيحين بقوله "حسن صحيح" فلا يعقل أنه تردد في تصحيح هذه الأحاديث .

وقد علق الحافظ ابن حجر  على هذا بقوله ، إن هذا التردد في الحكم على الحديث بالحسن أو الصحة ، يقتضي إيجاد نوع ثالث ، هو وسط بين الصحيح والحسن ، وهذا غير واقع في كلام أهل العلم .

 

نبه الشيخ طارق عوض الله حفظه الله ، إلى أن بعض المحدثين ، قد يطلقون وصف الحسن على معنى خاص في السند أو المتن ، لا علاقة له بالحكم على الحديث من ناحية القبول أو الرد ، فيكون هذا كقول القائل : هذا حديث صحيح موقوف ، فالوقف لا علاقة له بقبول الحديث أو رده ، وإنما هو حكاية صفة من صفات المتن ، وهي وقفه .

أن هذا الحديث حسن وزيادة ، فكأن الترمذي  يقول : هذا حديث حسن بل صحيح ، فكل صحيح حسن ، ولا عكس ، لأن من أحرز المرتبة العليا ، فقد أحرز بلا شك المرتبة الدنيا ، ولا عكس ، وهذا رأي الحافظ ابن دقيق العيد  .

وقد جمع الحافظ  ، بين رأي من قال بتعدد الأسانيد ، ورأي من قال بالتردد في الحكم على الحديث ، فقال  ، بأن الحديث الذي يحكم عليه الترمذي  ، بأنه حسن صحيح ، إما :

أن يكون له إسناد واحد ، ففي هذه الحالة ، يحمل قول الترمذي على التردد في الحكم على الحديث ، فيكون الحديث حسنا أو صحيحا ، فكأن الترمذي  يحكي في هذه الحالة اختلاف الأئمة في حال راوي هذا الحديث ، فمن وثق هذا الراوي ، سيحكم على الحديث بأنه صحيح ، ومن حكم عليه بأن صدوق ، أو ما إلى ذلك ، من أوصاف راوي الحسن ، التي تشعر بخفة الضبط مع تمام العدالة ، سيحكم على حديثه بالحسن .

وإما أن يكون له أكثر من إسناد ، فيكون هذا الحديث حسنا باعتبار إسناد ، صحيحا باعتبار إسناد آخر .

وهذا رأي الحافظ  في النزهة ، ولم يأخذ به في النكت ، وإنما أخذ برأي ابن دقيق العيد  السابق ذكره .

 

وهناك عدة ردود على رأي الحافظ  ، من أبرزها :

أن الترمذي  مجتهد وليس ناقلا لأحكام من سبقه من أهل العلم ، فإذا قلنا بأن الترمذي  ينقل خلاف من سبقه في حال راوي الحديث ، فهذا يعني أن الترمذي  ، قد خرج أحاديث مختلف في حال رواة معظمها ، ولم يحكم على أحاديث كتابه كناقد مجتهد ، وهذا خلاف الواقع .

أنه حكم على أحاديث رواتها في أعلى درجات التوثيق ، بقوله : حسن صحيح ، كبعض أحاديث سلسلة مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ،  فأي خلاف في حال رواة هذه السلسلة يحكيه الترمذي  ، وقد أجمع الأئمة على توثيقهم ؟ .

ويرد سؤال مهم في هذا الموضع ، وهو : هل اختلف العلماء في حال رواة الأحاديث التي لها سند واحد فقط ، حتى يقال بأن قول الترمذي  هو حكاية لخلافهم في التحسين أو التصحيح ؟ والجواب ، بطبيعة الحال : لأن الواقع يظهر خلافهم في رواة أحاديث لها أكثر من إسناد .

والناظر إلى صنيع الترمذي  ، يجده يحكي الخلاف صريحا ، إذا ما وجد ، فيذكر أقوال أهل العلم في الراوي المختلف فيه ، ثم يرجح بينها كإمام مجتهد في أحكامه ، فلم يلجأ إلى هذه الطريقة الغامضة في حكاية الخلاف ؟ .

ويرد سؤال آخر ، وهو هل الخلاف ينحصر بين الحسن والصحة فقط ، أم أنه يشمل الخلاف بين الصحة والضعف ، والحسن والضعف ، فلم لم يقل الترمذي  : حسن ضعيف ، أو صحيح ضعيف ؟ .

ثم كيف يحمل قول الترمذي  : حسن صحيح ، على أن بعض أسانيد الحديث حسنة والأخرى صحيحة ، وهو قد اشترط في الحسن الذي يورده في كتابه أن يكون له أكثر من سند ، فالحسن عنده مجموع روايات ، وكل رواية منها على حدة لا تستحق أن توصف بالحسن ناهيك عن الصحة ؟ .

 

وهناك جواب آخر ، نبه الشيخ طارق حفظه الله ، إلى أن البعض نظمه وأدخله في ألفية السيوطي  ، وقد جعله الشيخ أحمد شاكر  من أصل الألفية وهو :

أن الترمذي  يعني أن هذا الحديث حسن لذاته صحيح لغيره .

أو أنه حسن ، وفي نفس الوقت هو أصح ما في هذا الباب ، فأصح هنا بمعنى أقوى وأفضل ، ولا يفهم منها الصحة الإصطلاحية .

ويرد على الرأي الأول ، ما يرد على من قال بتعدد الأسانيد ، فكيف إن كان للحديث إسناد واحد فقط ؟ .

ويرد على الرأي الثاني ، بأن الترمذي  ، يشير إلى أصح ما في الباب صراحة ، بل وله اصطلاح خاص في هذه الحالة ، حيث يقول  : وهذا أصح ما في الباب ، فما الذي يلجئه لهذا الأسلوب الغامض في الإشارة إلى أصح ما في الباب ؟ .

 

وجدير بالذكر أن الشيخ طارق حفظه الله ، قد رد على القول القائل بأن الأبيات التي تذكر هذا القول هي من أصل الألفية بردين ، وهما :

أن السيوطي  لم يذكر هذا الجواب في التدريب عن أحد ، ولم ينسبه لنفسه .

أن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري  أجاب بهذا الجواب في تحفة الأحوذي شرح الترمذي ، ونسبه لنفسه ، ولو كان رأي السيوطي  ، لنسبه إليه .

ثم تطرق الشيخ طارق حفظه الله ، إلى رأي الحافظ ابن رجب  ، الذي ذكره في شرح علل الترمذي ، ووصفه الشيخ حفظه الله ، بأنه من أفضل الآراء ، لأن الحافظ ابن رجب  ، بنى جوابه على اصطلاح الترمذي  في الحسن ، وهو : (ألا يكون راويه متهما بالكذب وألا يكون شاذا وأن يرد من أكثر من وجه) ، فالحسن عند الترمذي  ، هو مجموع روايات ، كما سبق ذكر ذلك ، وليس رواية بعينها ، كما ذهب إلى ذلك من قال بأن معنى : حسن صحيح ، أنه ورد بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن ، بل إن تعريف الحسن عند الترمذي  ، هو الذي اعتمده ابن الصلاح  ، في تعريف الحسن لغيره ، الذي يشترط له أن يرد من أكثر من وجه . 

ومهد الشيخ طارق بن عوض الله حفظه الله إلى رأي الحافظ ابن رجب رحمه الله ببعض المقدمات ، من أبرزها :

أن مقتضى كلام ابن رجب  ، أن هذا الوصف يعبر عن معنى يمكن أن يجتمع مع الحكم بالصحة أو الحسن الإصطلاحيان بلا إشكال .

أن الحسن ليس حكما عند الترمذي  ، بل هو وصف لمعنى معين في سند الحديث أو متنه ، كما تقدم ذكر ذلك ، وعلى هذا يصح أن يقال عن حديث ضعيف من الناحية الإصطلاحية ، على سبيل المثال ، بأنه حسن ، وهذا ما أكد عليه الشيخ السعد حفظه الله ، عندما قال بأن الترمذي رحمه الله ، قد يطلق وصف (ولا نقول حكم) الحسن على الحديث الضعيف ، وذكر أمثلة على ذلك سبق ذكرها في موضعها ولله الحمد .

وقبل الشروع في ذكر رأي الحافظ ابن رجب رحمه الله ، لابد من التعليق على تعريف الترمذي رحمه الله للحديث الحسن ، وقد سبق ذكره ، وسبق أنه اشترط له 3 شروط ، وهي :

أولا : أن يكون الراوي ليس متهما بالكذب :

وهنا يبرز سؤال مهم ، هل يعني هذا الشرط ، أنه لابد أن يكون هذا الراوي ضعيفا ، ولكن ضعفه محتمل ، لا يصل إلى حد اتهامه بالكذب ، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله ، أم أن هذا الوصف يشمل كل من لم يتهم بالكذب ، سواءا كان ثقة أو صدوقا أو ضعيفا ضعفا محتملا ، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن رجب رحمه الله ، وبنى عليه تفسيره لقول الترمذي رحمه الله : حسن صحيح ، كما سيأتي إن شاء الله .

ثانيا : ألا يكون شاذا :

بمعنى ألا يكون مخالفا للحديث الصحيح ، كما قرر ذلك ابن تيمية وابن رجب ، وهذا يعني أن الحديث المخالف للصحيح المتقرر ، لا يستحق أن يكون حسنا عند الترمذي ، حتى لو كان راويه ثقة أو صدوقا ، لأنه يعد حينئذ من جملة أخطاء ذلك الراوي .

ثالثا : أن يروى من غير وجه :

ذهب الجمهور أنه لا يشترط أن يكون ذلك الوجه مرفوعا ، بل قد يكون موقوفا أو مقطوعا ، ولعل هذا يشبه إلى حد كبير ، تقوية الشافعي رحمه الله للمرسل بالموقوف ، أو بإجماع أهل العلم على العمل به ، ويظهر أيضا في كلام أحمد رحمه الله ، بينما قالت قلة قليلة ، بأنه لابد أن يكون مرفوعا ، وهذا ما عليه المتأخرون ، ولا شك أن ظاهر صنيع الترمذي في جامعه يؤيد الرأي الأول ، حتى أن الحافظ رحمه الله ، ذكر النكت أن الحديث الضعيف يتقوى بالإجماع ، ولكن يشترط ألا يكون ذلك الوجه المقوي شاذا ، كما سبق التنبيه إلى ذلك ، فلو كان شاذا ، كأن يكون جمهور الصحابة على خلافه ، فحينئذ لا يعتد به ، فالشاذ من القول لا يقوي الشاذ من الرواية ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث أبي داود رحمه الله ، أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه ، فهذا الحديث أنكره أحمد رحمه الله انكارا شديدا ، بل وصل الأمر إلى أنه ضعف محمد بن إسحاق رحمه الله ، بسبب هذا الحديث ، وقد جاءت أحاديث أخرى ، تدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على إبراهيم رضي الله عنه ، وعلى الطفل عموما ، وهي أحاديث مرسلة ، ورغم ذلك قدمها الخطابي رحمه الله في معالم السنن ، على حديث ابن إسحاق رحمه الله ، رغم أنه مسند ، وذكر ابن عبد البر رحمه الله ، في ترجمة إبراهيم رضي الله عنه في الإستيعاب ، أن الصلاة على الطفل أمر أجمع عليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يخالف إلا سمرة بن جندب رضي الله عنه ، فقوله شاذ لا يصلح لتقوية حديث ابن إسحاق المسند الضعيف .          

حديث النهي عن الإعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ، فهو حديث ضعيف اختلف في رفعه ووقفه ، ووقع في بعض روايات الحديث عند سعيد بن منصور رحمه الله لفظ : لاإعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ، أو قال : مسجد جماعة ، هكذا على الشك ، وهذا مما يؤيد عدم الإحتجاج به ، وهناك قول لحذيفة رضي الله عنه وبعض التابعين يؤيد عدم الإعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ، ولكنه قول شاذ ضعيف لا يصلح لتقوية هذا الحديث الضعيف .

وينبه الشيخ طارق بن عوض الله حفظه الله ، في شرحه لألفية السيوطي رحمه الله ، أن قول الترمذي : حسن صحيح ، يعني به معنيين مختلفين ، وإلا لكان التكرار حشوا من القول ، والملاحظ أن الترمذي رحمه الله ، لم يشرح مصطلح الصحيح ، وهذا يعني أنه يوافق من سبقه ومن عاصره في تعريفه ، والسؤال : هل يمكن تنزيل الحسن عند الترمذي رحمه الله على تلك المواضع التي جمع فيها الترمذي بين وصفي الصحة والحسن ، لأن الأصل أن نفهم مصطلح الإمام من كلامه ، لا من إفتراضات نفترضها ، قد تكون صحيحة أو خاطئة .

والجواب أنه يمكن ذلك ، إذا نظرنا ، كما سبق إلى شرط الترمذي الأول في الحسن عنده ، حيث اشترط ألا يكون راويه متهما بالكذب ، وعليه يدخل في هذا الحد كما سبق ، الثقة والصدوق والضعيف ضعفا محتملا ، ولذا فإن إطلاق وصف حسن صحيح لا إشكال فيه ، لأن الحديث قد يرويه الثقة ، فيستحق وصف الصحة عند الترمذي رحمه الله وغيره ، فإذا أضيف إلى ذلك ، وروده من غير وجه ، وسلامته من الشذوذ ، فإنه يستحق وصف الحسن عند الترمذي فقط ، وهذه خلاصة كلام ابن رجب رحمه الله ، ويفهم من هذا أن الصحيح الفرد أو الغريب ، الذي لم يأت من غير وجه ، لايكون حسنا عند الترمذي ، وإنما يكون صحيحا فقط ، وأما على تعريف الحافظ رحمه الله ، فلا يصفو هذا الأمر ، لأنه قال بأن شرط الترمذي الأول ، يقتصر فقط على الضعيف ضعفا محتملا ، ولا يشمل راوي الصحيح أو الحسن لذاته .

وعلى هذا التعريف ، يكون : حسن صحيح ، أعلى من صحيح فقط ، لتعدد طرق الأول ، خلاف الثاني ، الذي لم يرد إلا من وجه واحد ، رغم اجتماع شروط الصحة فيه ، ومن تأمل صنيع الترمذي رحمه الله ، يجده يحكم على أحاديث في أعلى مراتب الصحة ، بقوله : حسن صحيح ، بل إن كثيرا منها مخرج في الصحيحين ، وإن كان الترمذي يخطيء أحيانا ، ولكن هذا راجع لخطأ إجتهاده ، لا لمخالفته لشرطه .  

 وينبه الشيخ طارق عوض الله حفظه الله ، إلى أن الشذوذ وصف للرواية ، وأما الضعف فهو وصف للراوي ، فقد يروي الثقة حديثا يخطيء فيه ، فيكون شاذا ، وقد يروي الضعيف ضعفا محتملا حديثا يصيب فيه ، فيكون صحيحا سالما من الشذوذ ، والترمذي رحمه الله يحسن هذا الضرب من الحديث ، إذا روي من غير وجه ، ولكن هل يصح إطلاق وصف الصحيح على هذا الحديث ؟ الجواب بالطبع لا ، لأنه لا يرتقي لمرتبة الصحة ، وظاهر صنيع الترمذي رحمه الله يؤيد هذا ، لأنه يطلق على هذا الضرب لفظ : حسن (فقط) ، وهذا مما يؤيد رأي الحافظ ابن رجب رحمه الله .

وينبه الشيخ طارق حفظه الله إلى أن وصف الترمذي رحمه الله للحديث بالحسن ، لا يزاحم وصف الصحة ، لأنه ، كما سبق لم يقصد به الحسن الإصطلاحي ، وإنما قصد معنى خاص في الرواية ، كما سبق ذكر ذلك ، فهو كقولك فلان طويل أبيض ، فلا تعارض بين هذين الوصفين ، خلاف قولك ، فلان طويل قصير ، فهذا غير جائز لتعارض الوصفين ، وكقولك هذا حديث صحيح موقوف ، فلا تعارض بين الصحة والوقف ، خلاف قولك هذا حديث صحيح ضعيف ، فهذا غير جائز لتعارض وصفي الصحة والضعف فيستحيل اجتماعهما ، وكقولك : هذا حديث حسن موضوع ، فلا إشكال إذا أردت بالحسن ، الحسن اللفظي ، وبالوضع ، الحكم على الحديث ، خلاف ما إذا قصد القائل بكلا اللفظين الحكم على الحديث من جهة الثبوت ، فهذا ممتنع ، فلا إشكال في إطلاق وصف : حسن صحيح ، على هذا الوجه ، وإنما الإشكال يقع إذا وصف الحديث بالصحة والحسن من جهة واحدة ، وهي الثبوت ، فهذا ممتنع .

 ويميل الشيخ طارق حفظه الله ، إلى أن الترمذي يقصد بالحسن ، معنى وجد في الحديث ، ألا وهو العمل به ، كما سبق ذكر ذلك ، من كلام الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله ، وقد وجد هذا المعنى في كلام بعض العلماء ، كأحمد رحمه الله ، الذي يقول أحيانا : ضعيف وعليه العمل ، بل إن الترمذي رحمه الله نص على ذلك في كتاب العلل في آخر جامعه ، فقال : وأحاديث هذا الكتاب كلها معمول بها .

وعليه فالصحيح ينقسم إلى قسمين : صحيح معمول به ، وصحيح غير معمول به ، وهو المنسوخ ، كحديث أبي رضي الله : كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ، ثم أمر بالغسل ، فهذا الحديث لا يكون حسنا عند الترمذي ، لأنه غير معمول به .

وينبه الشيخ طارق حفظه الله ، إلى مسألة مهمة جدا ، متعلقة بحديث : إنما الأعمال بالنيات … ، فهو حديث غريب غرابة مطلقة ، من جهة لفظه ، لأنه لم يصح إلا من طريق عمر رضي الله عنه ، وأما من جهة معناه ، فهو ليس غريبا ، بل يصل إلى حد التواتر المعنوي ، لكثرة شواهده .

مسألة : الراوي الضعيف ضعفا غير محتمل ، لايعتبر بحديثه ، وإن لم يكن متهما ، وعليه فهذا الضرب من الرواة ، لا يحسن حديثهم عند الترمذي أو غيره ، وقد أكد العلماء على ذلك ، لأن بعض أهل البدع ، قصروا عدم الإعتبار على المتهم فقط ، ولم يلتفتوا لضعف الحفظ ، وإن كان فاحشا .

وجدير بالذكر أن بعض العلماء قال بأن الترمذي يقصد بهذا المصطلح الحكم على الحديث بالصحة وأن زيادة لفظ حسن من باب التأكيد على صحة هذا الحديث .

ولا بد من أمثلة تبين المراد :

المثال الأول :

يقول الإمام البخاري : (( وحديث أنس في هذا الباب ـ أي في حد السكران ـ حسن  )) ، بينما قال فيه الإمام الترمذي : (( حديث أنس حسن صحيح )) . وحديث أنس هذا متفق على صحته ، فقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق شعبة وهشام عن قتادة عن أنس (وهما أثبت الناس في قتادة بالإضافة إلى سعيد بن أبي عروبة) ، والرواة عن شعبة وهشام كلهم ثقات أجلاء ، بل هو أصح حديث عند مسلم إذ صدر به موضوع الباب ، فالحديث في أعلى درجات الصحة ، فوصف الحديث بالحسن والصحة معا ، إنما هو من قبيل التأكيد على صحة الحديث .

المثال الثاني :

ويقول الترمذي : سألت محمداً ، فقلت : أي الروايات في صلاة الخوف أصح ، فقال : كل الروايات عندي صحيح ، وكل يستعمل ، وحديث سهل بن أبي حثمة هو حديث حسن وحديث عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة حسن وحديث عروة بن الزبير عن أبي هريرة حسن . فأطلق الإمام البخاري على الحديث الذي صح عنده صحيحاً كما أطلق عليه الحسن حين فصل تلك الروايات ، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه ، وهو حديث سهل بن أبي حثمة ، بل صححه الترمذي وقال : (( حسن صحيح )) وكذا عبدالله بن شقيق قال الترمذي فيه (( حسن صحيح غريب من عبد الله بن شقيق )) وعبدالله بن شقيق ثقة ، وأما حديث عروة عن أبي هريرة رواه النسائي .

ويقول د/ حمزة المليباري حفظه الله :

فإذا ثبت أن الحسن عند المتقدمين عام وشامل بحيث يطلق على الحديث الصحيح ، والحديث المقبول فإن إطلاقهم جمعاً بين لفظي الحسن والصحيح لم يكن إلا لإفادة التأكيد لمعنى القبول والاحتجاج ، وليس فيه ما يثير الإشكالية لا لغوياً ولا فنياً ، إلا على منهج المتأخرين الذي يقضي بانفصالهما كنوعين مستقلين لا يصح الجمع بينهما وهذا ما أيده د/ عادل عبد الغفور حفظه الله في تفسير مصطلح الترمذي  "حسن صحيح" . وهذا ما يؤكد ضرورة دراسة منهج المتقدمين دراسة دقيقة دون الاعتماد على اتحاد الألفاظ بين المتقدمين والمتأخرين ومن أهم الأمثلة على هذا الأمر ما ذكره د/ ماهر ياسين الفحل حفظه الله عن الدلالة المعنوية للفظ الصدوق عند المتقدمين والمتأخرين بقوله في بحثه فرائد الفوائد :

الدلالة المعنوية للصدق تختلف ما بين المتقدمين والمتأخرين ، فعلى حين كان ذا دلالة راجعة إلى العدالة فقط في مفهوم المتقدمين ، ولا تشمل الحفظ بحال من الأحوال ؛ لذا كان أبو حاتم الرازي كثيراً ما يقول : ضعيف الحديث ، أو : مضطرب الحديث ومحله عندي الصدق . فقد أصبح ذا دلالة تكاد تختص بالضبط عند المتأخرين ، ولذا جعلوا لفظة صدوق من بين ألفاظ التعديل .

 

ومن الجدير بالذكر أن الإمام الترمذي حين يحكي عن بعض النقاد تصحيحه كان يقول : "قال فلان هذا حديث حسن صحيح " أو "هذا أحسن وأصح" ، دون أن يلفظ ذلك الناقد بهذه الكلمة . ومن أهم الأمثلة على ذلك :

حكى الإمام الترمذي عن الإمامين : أحمد والبخاري تصحيحهما حديث المستحاضة الذي روته حمنة بنت جحش : بقوله : "حسن صحيح" . دون أن يرد هذا اللفظ عنهما (سنن الترمذي ، أبواب الطهارة ، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد 1/226) . وأما لفظهما فكما ورد في علل الترمذي : " قال محمد (يعني البخاري) : حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن ، إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم ، لا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا ، وكان أحمد بن حنبل يقول : "هو حديث صحيح" . (العلل الكبير ص58 ، تحقيق السامرائي ، ط1 ، 1409هـ ، عالم الكتب ، وسنن البيهقي 1/339) . وفي أثناء المقارنة بين السياقين يبدو واضحاً أن ما تضمنه السياق الثاني هو لفظ البخاري وأحمد ، بخلاف ما ورد في السياق الأول ، فإنه ورد مختصراً ، اختصره الترمذي بأسلوبه المعروف في التعبير في التصحيح .

 

ومثال آخر : يحكي فيه الترمذي عن البخاري تصحيح حديث "البحر هو الطهور ماؤه" : بقوله : "حسن صحيح" . (شرح العلل 1/ 342) . وفي الوقت ذاته قال الترمذي : سألت محمداً عن حديث مالك عن صفوان بن سليم في حدث "البحر هو الطهور ماؤه" فقال : "هو حديث صحيح" (العلل الكبير للترمذي ص41 ، وكذا في التمهيد لابن عبد البر 16/218). وقال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث : "صحح البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في العلل المفرد حديثه ، وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان وغير واحد" (التهذيب 4/42) . وهذا كله يدل على توسعهم في إطلاق الألفاظ والمصطلحات ، وأن الترمذي يقصد بقوله حسن صحيح ما يقصده غيره بقوله : صحيح" لا غير . والله أعلم .

 

 

 

غريب : وهذا المصطلح يذكره الترمذي  في الحكم على الأحاديث الضعيفة وقد يطلق ألفاظا أخرى للحكم على الحديث بما يدل على ضعفه مثل قوله : (اسناده ليس بذاك القائم) . ومن الأمثلة التي استخدم فيها الترمذي  لفظ الغريب ، حديث الدعاء عند أذان المغرب : (اللهم هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ……الحديث) حيث أخرجه الترمذي  وغيره من طريق أبي كثير مولى أم سلمة عنها ، وقال الترمذي  : (حديث غريب ، وأبو كثير لا نعرفه) .

 

وختاما فإن جامع الترمذي  من مظنات الحسن ولكن ينبغي التنبه إلى أن نسخه تختلف في قوله "حسن صحيح" ونحوه فعلى طالب الحديث العناية باختيار النسخة المحققة والمقابلة على أصول معتمدة . ومن أمثلة هذا الاختلاف : حديث عمران بن حصين الضعيف الشاذ في تشهد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد سجدتي السهو فقد قال عنه الترمذي  : "حديث حسن غريب" وفي بعض النسخ زيادة : "صحيح" . (القول المبين في أخطاء المصلين ص146) . وفي نهاية الكلام على جامع الترمذي ، لابد من التنبيه على إيراد الترمذي  لبعض المنكرات والموضوعات وخاصة في الفضائل ، وهو ما أكد عليه الحافظ الذهبي  في ترجمة الترمذي في سير أعلام النبلاء ، فقال  : (في الجامع علم نافع وفوائد غزيرة ورؤوس مسائل وهو أحد رؤوس الإسلام لولا ما كدره بأحاديث واهية بعضها موضوع وكثير منها في الفضائل) ، وأكد  في موضع آخر على أن درجة الجامع تنحط عن درجة سنن النسائي وأبي داود  لأن الترمذي  خرج لبعض الهلكى كمحمد بن السائب الكلبي ومحمد بن سعيد المصلوب ، ورغم هذا يبقى جامع الترمذي رحمه الله من أجل كتب السنة ، وقد كان أبوالحسن المقدسي ينصح طلبة العلم بالبدء به قبل البخاري ومسلم لسهولته .

 

الثلاثيات في جامع الترمذي  :

في جامع الترمذي  حديث ثلاثي واحد ، وهو ما أخرجه من طريق اسماعيل بن موسى الفزاري عن عمر بن شاكر عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر ، وقد أشار الشيخ الحميد حفظه الله إلى أن هذا الحديث لا يصح ، وعلته عمر بن شاكر ، ونبه حفظه الله ، إلى نزول أسانيد الترمذي  ، وربما كان ذلك لتأخره في طلب العلم .

 

سنن ابن ماجة  :

وسنن ابن ماجة  هي رابع كتب السنن ، وأدناها من حيث المرتبة ، وقد نبه د/ حسين شواط في حجية السنة ، إلى أن المعتمد عند المتقدمين هو أن كتب الأصول خمسة : الصحيحان وسنن أبي داود  وسنن النسائي  وسنن الترمذي  ، ثم ألحق بها سنن ابن ماجة  لما فيه من الفقه وحسن الترتيب ، ولما فيه من الزوائد على الكتب الخمسة الأصول ، واستقر الأمر على ذلك في كتب الأطراف والرجال ، ومن أبرز من أيد هذا الرأي ، أبو الفضل محمد بن طاهر القيسراني في أطراف الكتب الستة وشروط الأئمة الستة ، وتبعه ابن عساكر  في زوائد السنن الأربعة وشيوخ أصحاب الكتب الستة ، والحافظ عبد الغني المقدسي  في الكمال في أسماء الرجال ، والحافظ المزي  ، ولكن كثيرا من العلماء  ، ومنهم رزين بن معاوية العبدري وابن الأثير قدموا موطأ مالك  على سنن ابن ماجة  واعتبروه سادس الأصول لأن أحاديثه المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الصحة كما سيأتي إن شاء الله ، بينما رجح الحافظ ابن حجر والحافظ العلائي ومغلطاي سنن الدارمي  على سنن ابن ماجة  وذلك لقلة الرجال الضعفاء فيه ولندرة الأحاديث الشاذة والمنكرة فيه ، ويقول الشيخ الحميد حفظه الله في محاضراته عن مناهج الأئمة بأن صحيح ابن خزيمة  أولى بأن يقدم على سنن ابن ماجة  ، ولكن العلماء  اصطلحوا على جعله سادس كتب الأصول ، كما تقدم ، واستقر الإصطلاح بعد ذلك ، ولا مشاحاة في الإصطلاح . (حجية السنة ص195 بتصرف) . 

 

مسألة :

اشتهر القول بأن ما انفرد به ابن ماجة  ضعيف ، وممن نبه على هذا الأمر الحافظ المزي وابن القيم  نقلا عن أبي البركات بن تيمية  ، ولكن الحافظ  قال بأن الأمر ليس على إطلاقه ، وذلك من خلال استقرائه للكتاب ، وقال : وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة والله المستعان ، ثم يقول الحافظ  : لكن حمله على الرجال أولى ، وأما حمله على أحاديث فلا يصح كما قدمت ذكره من وجوه الأحاديث الصحيحة والحسان مما انفرد به عن الخمسة اهـ ، وقال  في تهذيب التهذيب : كتابه ، (أي ابن ماجة ) ، في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب وفيه أحاديث ضعيفة جدا ، ومما يؤيد كلام الحافظ  ، أن زياداته على الكتب الخمسة تبلغ 1339 حديثا منها 428 حديثا صحيحا و 613 حديثا ضعيفا و 99 حديثا ما بين واهية الإسناد أو منكرة أو موضوعة ، وقد ذكر الدكتور عبد العزيز عزت في رسالته (الإمام ابن ماجة صاحب السنن) ، عدة أمثلة لأحاديث تفرد بها ابن ماجة  ، وهي مع ذلك صحيحة ، وذلك في معرض الرد على الحافظ المزي  ، الذي أطلق الضعف على كل ما تفرد به ابن ماجة  ، كما تقدم ، ومن هذه الأمثلة :

ما رواه ابن ماجة  ، في باب المنديل بعد الوضوء وبعد الغسل ، من طريق العباس بن الوليد وأحمد بن الأزهر قلا حدثنا مروان بن محمد ، حدثنا يزيد بن السمط ، حدثنا الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فقلب جبة صوف فمسح بها وجهه ، وقد علق الحافظ البوصيري  على هذا الحديث في زوائد ابن ماجة بقوله : إسناده صحيح ورواته ثقات ، وفي نفس الوقت ، لم تنقل لنا كتب الصحاح عدا ابن ماجة أي رواية عن يزيد بن السمط ، وإنما تفرد بالرواية عنه ابن ماجة  .

ما رواه ابن ماجة  ، في باب وقت صلاة الفجر ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن نهيك بن بريم الأوزاعي عن مغيث بن سمي قال : صليت مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الصبح بغلس فلما سلم أقبلت على ابن عمر رضي الله عنهما ، فقلت : ما هذه الصلاة ؟ قال : هذه صلاتنا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ، فلما طعن عمر رضي الله عنه أسفر بها عثمان رضي الله عنه ، ففي سلسلة اسناد هذا الحديث نهيك بن بريم الأوزاعي ولم يرو له أحد من رجال الصحاح إلا الإمام ابن ماجة  وقد علق البوصيري  على هذا الحديث بقوله : وإسناده صحيح ، فهذان حديثان تفرد بهما ابن ماجة  ، ومع ذلك حكم عليهما البوصيري  بالصحة .    

 

ومن أبرز الأحاديث الموضوعة في سنن ابن ماجة  حديث في فضل قزوين ، وممن نبه على هذا الحديث ابن الوزير اليماني  ، حيث قال في تنقيح الأنظار : وأما سنن ابن ماجة  فإنها دون هذين الجامعين والبحث عن أحاديثها لازم وفيها حديث موضوع في الفضائل . اهـ ، وعدد الصحيح وإن كان أقل من الضعيف إلا أنه عدد كبير يؤيد أن انفراد ابن ماجة  ، وإن كان مظنة الضعف ، إلا أنه ليس على إطلاقه . وممن علق على أحاديث ابن ماجة  الحافظان الذهبي والسيوطي  ، حيث قال الذهبي  في سير أعلام النبلاء في ترجمة ابن ماجة  : قد كان ابن ماجة  حافظا ناقدا صادقا واسع العلم ، وقد حط من منزلة كتابه ما فيه من المناكير وقليل من الموضوعات ، وقال السيوطي  : إنه تفرد بإخراج الحديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث ، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم ، فلم يتابعوا عليها .

ومما سبق يخلص لنا أن السبب الرئيسي لإدخال سنن ابن ماجة  في الأصول هو دقة ترتيبه وكثرة أبوابه وعدم تكرار الأحاديث فيه ، فهو يشبه صحيح مسلم  في عدم تكرار أحاديثه . (مصطلح الحديث ، طبعة مكتبة العلم ص42 بتصرف ، حجية السنة ص195 بتصرف) .

 

مسألة : روايات سنن ابن ماجة :

لسنن ابن ماجة  4 روايات ، كما ذكر ذلك الشيخ الحميد حفظه الله ، وهي رواية أبي الحسن علي بن إبراهيم بن القطان  ، وهي أشهر الروايات ، ولم يصلنا من روايات سنن ابن ماجة  إلا هذه الرواية ، ورواية سليمان بن يزيد  ، ورواية أبي جعفر محمد بن عيسى المطوعي  ، ورواية أبي بكر حامد الأبهري  .

 

مسألة : ثلاثيات ابن ماجة  :

وعددها 5 ، وكلها من طريق شيخه جبارة بن مغلس ، ولولا ضعف شيخه جبارة لارتفعت منزلة سننه بهذه الثلاثيات ، ولكنها كلها لا تصح لأنها جاءت من هذه الطريق الضعيفة ، وكلها جاءت بإسناد واحد من طريق جبارة بن مغلس عن كثير بن سليم عن أنس رضي الله عنه ، ويتفق الدكتور عبد العزيز عزت عبد الجليل في رسالته (الإمام ابن ماجة صاحب السنن) مع الشيخ الحميد حفظه الله في عدد هذه الثلاثيات ، وفي الحكم عليها بالضعف ، ولكنه نسب الضعف فيها إلى شيخ جبارة بن مغلس ، كثير بن سليم ، ونقل توثيق كثير من أهل العلم لجبارة بن مغلس  ، من أبرزهم عثمان بن أبي شيبة  ، واستدل لتوثيق جبارة  برواية بقي بن مخلد  ، صاحب المسند ، عن جبارة  ، وهو من شأنه ألا يروي إلا عن ثقة ، كما ذكر ذلك الحافظ  في ترجمة جبارة  في تهذيب التهذيب ، ومما يجدر التنبيه عليه في هذا الموضع ، علو اسناد ابن ماجة  ، وهذا ما أكد عليه الدكتور عبد العزيز عزت بقوله : في سنن ابن ماجة  رباعيات كثيرة ، أي أحاديث سلسلة رواتها أربع طبقات ، وهو بذلك يعتبر ذا أفضلية بين الصحاح الستة من هذه الزاوية ، فإن روايات الإمام البخاري الثلاثية كثيرة وهذه ميزة انفرد بها ، كما سبق بيانه ، ورباعيات ابن ماجة  كثيرة وهذه ميزة تشبهها .   

 

مسألة : زيادات أبي الحسن بن القطان  على سنن ابن ماجة  :

وإيراد أبي الحسن  لهذه الزيادات يماثل إيراد عبد الله بن أحمد  ، وأبي بكر القطيعي  لزوائدهما على مسند أحمد  ، وعدد زيادات أبي الحسن  44 زيادة ، منها زيادة موقوفة على الشافعي  من قوله ، في بيان العلة من رش بول الغلام الذي لم يأكل الطعام وغسل بول الجارية ، حيث قال  بأن الذكر خلق من طين ، بينما خلقت الأنثى من لحم ودم ، وزيادة لأبي الحسن  في تفسير لفظ غريب ، وباقي الزيادات وعددها 42 ، زادها أبو الحسن  لأنه تحصل عليها بسند عال .

 

مسألة : نقل الحافظ الذهبي  في تذكرة الحفاظ عن ابن ماجة  قوله : عرضت هذه السنن على أبي زرعة  فنظر فيه وقال : أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها ، ثم قال : لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف ، وهذا الكلام بلا شك يخالف الواقع ، كما تقدم من أقوال العلماء عن الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة في سنن ابن ماجة  ، وقد رد الحافظ السيوطي  في مقدمة زهر الربى على هذا القول بقوله : وأما ما حكاه ابن ماجة  عن أبي زرعة  _ أنه نظر فيه فقال : لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما فيه ضعف _ فهي حكاية لا تصح لإنقطاع سندها ، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية ، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءا منه فيه هذا القدر ، وقد حكم أبوزرعة  على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة وذلك محكي في كتاب العلل لإبن أبي حاتم  . 

 

مسألة : إعتناء ابن ماجة  بتبيين الغرائب في كتابه :

وصنيع ابن ماجة  في هذا الموضع يشبه صنيع الترمذي  ، الذي حكم على أحاديث خرجها في جامعه ، بالغرابة والضعف ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

ما رواه ابن ماجة  ، في باب العفو عن القاتل ، من طريق أبي عمير عيسى بن محمد بن النحاس ، وعيسى بن يونس والحسين بن أبي السرى العسقلاني ، قالوا : حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب عن ثابت البناني  عن أنس رضي الله عنه قال : أتى رجل بقاتل وليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اعف ، … الحديث ، فقد علق ابن ماجة  ، بقوله : هذا حديث الرمليين ليس إلا عندهم ، فهو ينبه على تفرد الرمليين بهذا الحديث ، وفي هذا إشعار بضعف الحديث ولا شك .

ما رواه ابن ماجة  ، في باب كل مسكر حرام ، من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن خريج بن أيوب بن هاني عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : كل مسكر حرام ، فقد علق ابن ماجة  على هذا الحديث بقوله : هذا حديث المصريين ، في إشارة منه لتفرد المصريين بهذا الحديث ، بل إنه رواه من طريق علي بن ميمون الرقي عن خالد بن حيان عن سليمان بن عبد الله الزبرقان عن يعلى بن شداد بن أوس عن معاوية رضي الله عنه مرفوعا ، وأشار إلى غرابة هذا الطريق أيضا بقوله : هذا حديث الرقيين .

 

مسألة : رغم نزول سنن ابن ماجة  عن بقية الكتب الستة ، من حيث درجة الصحة ، إلا أنه وجد بالإستقراء ، أحاديث في سنن ابن ماجة  ، في أعلى درجات الصحة ، بل إنها تفوق بعض أحاديث صحيح البخاري  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

ما رواه ابن ماجة  ، في باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، من طريق أبي مروان محمد بن عثمان العثماني عن إبراهيم عن سعد عن أبيه عن حفص بن عاصم عن عبد الله ابن مالك بن بحينة رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقد أقيمت صلاة الصبح وهو يصلي فكلمه بشيء لا أدري ما هو ، فلما انصرف أحطنا به نقول : ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، قال : قال لي : يوشك أحدكم أن يصلي الفجر أربعا ، فهذا الحديث مروي في صحيح البخاري  من طريق عبد الرحمن عن بهز بن أسد عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن حفص بن عاصم قال : سمعت رجلا من الأزد يقال له مالك بن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الحديث ، وإسناد البخاري  ، كما يقول الدكتور عبد العزيز عزت ، فيه خطآن :

الخطأ الأول : أن بحينة ، اسم والدة عبد الله وليست والدة مالك .

الخطأ الثاني : أن هذه الرواية عن عبد الله بن مالك رضي الله عنه الصحابي المشهور ومالك ليس والده فإنه لم يتشرف بالإسلام ، ولا يعني هذا أن حديث البخاري غير صحيح ، ولكنه ليس في أعلى درجات الصحة .

 

ما رواه البخاري  ، في باب إحداد المرأة على زوجها ، من طريق الحميدي  عن سفيان عن أيوب بن موسى عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها قالت : لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت : إني كنت عن هذه لغنية لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ، فهذه الرواية وإن كانت صحيحة ولكن ما ذكر فيها من أنه لما وصل خبر موت أبي سفيان رضي الله عنه من الشام عند أم المؤمنين حبيبة رضي الله عنها ، هذا خطأ ، لأن أبا سفيان رضي الله عنه توفي في مكة المكرمة ، وليس الشام ، سنة 32 أو سنة 33 هـ ، ولهذا علق الحافظ  على هذا الحديث في الفتح بقوله : ولم أر في شيء من طرق الحديث تقيده بذلك إلا في رواية سفيان بن عيينة  هذه وأظنها وهما اهـ ، بينما سنن ابن ماجة  على عكس ذلك فليس في مروياتها ما هو قابل للإعتراض عليه على نحو ما ورد عند البخاري  .

 

ما رواه البخاري  ، في باب مناقب عثمان رضي الله عنه ، في سلسلة إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة رضي الله عنه : ثم دعا عليا فأمره أن يجلد فجلده ثمانين جلدة ، والثابت من الروايات أن الوليد رضي الله عنه جلد أربعين وليس ثمانين ، كما ذكر ذلك الحافظ  في الفتح ، ولم يذكر ابن ماجة  في روايته للحديث عدد الجلدات التي جلد بها الوليد رضي الله عنه وبذلك لم ترد على روايته ما ورد على رواية البخاري  .

 

مسألة : نموذج من شدة تحري ابن ماجة  :

في باب وقت صلاة المغرب ، روى ابن ماجة  من طريق عياد بن العوام عن عمر بن ابراهيم عن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزال أمتي على الفطرة …) الحديث ، وكتب بعده يقول : إنني سمعت هذا الحديث من محمد بن يحيى ، وكان أهل بغداد في قلق إزاء هذا الحديث ، ولهذا ذهبت ومعي محمد بن يحيى عند ابن عياد بن العوام فأخرج لنا أصل النسخة الموجودة عند والده فوجدنا فيها هذا الحديث ، وجدير بالذكر أن الأحنف بن قيس  لم يثبت له سماع من العباس رضي الله عنه ، كما ذكر ذلك البخاري  .

 

مسألة : قلة إعتناء العلماء بضبط سنن ابن ماجة :

وممن نبه على ذلك الحافظ المزي ، حيث قال في لفظة ابن ماجة في حديث سليك رضي الله عنه : (قبل أن تجيء) : هذا تصحيف من الرواة . إنما هو : "أصليت قبل أن تجلس" ، فغلط فيه الناسخ ، وقال رحمه الله أيضا : وكتاب ابن ماجة إنما تداولته الشيوخ ، لم يعتنوا به ، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم ، فإن الحفاظ تداولوهما ، واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما ، ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف . زاد المعاد (1/435) ، بواسطة القول المبين في أخطاء المصلين ص357 .    

 

مسند أحمد  :

بداية ، لابد من عرض منهج أصحاب المسانيد في تصنيفهم وهي أن يسرد المصنف أحاديث كل صحابي على حدة ، وأما ترتيب أسماء الصحابة رضي الله عنهم داخل المسانيد  ، فقد يكون على حروف المعجم ، أو بحسب السبق إلى الإسلام ، أو بحسب البلدان والقبائل ، ونحو ذلك ، وقد بدأ أحمد  بذكر أحاديث العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ، ثم جاء بمسند 3 من الصحابة ، حاول العلماء معرفة سر تقديمه لهم وذكرهم بعد العشرة مباشرة ، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك ، وقد أشار إلى هذه النقطة ، الشيخ سعد الحميد حفظه الله ، في محاضراته عن طرق تخريج حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأثار سؤالا مهما ، وهو : هل لأحمد رحمه الله ، شبهة ترتيب في كتابه ؟ وأجاب حفظه الله بقوله ، أنه بشكل عام ، لا يوجد لأحمد  في مسنده ترتيب واضح ، فلم يرتب الصحابة رضي الله عنهم على الحروف ، ولم يرتب الطرق عنهم ، كما فعل المزي  في تحفة الأشراف ، ومع ذلك فإن أحمد  ، راعى بعض الأمور ، ومن أبرزها :

الأفضلية : حيث بدأ كتابه بذكر الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، ثم بقية العشرة رضي الله عنهم ، ثم أورد أحاديث 3 من الصحابة ، منهم أسامة بن زيد رضي الله عنه ، كما سبق بيان ذلك قريبا ، ثم جاء بمسند بني هاشم رضي الله عنهم ، ثم جاء بمسانيد بعض مشاهير الصحابة مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

البلدان : حيث أفرد رواة كل بلد بمسند خاص بهم ، فجاء بمسند للمكيين ، وآخر للمدنيين ، وثالث للكوفيين ، ورابع للبصريين ، وخامس للمصريين ، وسادس للشاميين ، وهكذا .

القبائل : حيث أفرد الأنصار رضي الله عنهم بمسند خاص بهم .

النوع : حيث بدأ بمسانيد رجال الصحابة رضي الله عنهم أولا ، ثم أتبعها بمسانيد نساء الصحابة رضي الله عنهن ، وأورد بعد مسانيدهن مسانيد بعض رجال الصحابة رضي الله عنهم ، كمسند أبي ذر رضي الله عنه ، ولكن عددها قليل .

ولكن العلماء  ، لم يرتضوا هذا الترتيب ، خاصة مع وجود ثغرات كبيرة فيه ، من أبرزها وجود بعض الأسانيد المقسمة ، فمسند الصحابي ، قد يرد جزء منه في موضع ، ويرد الجزء الآخر في موضع آخر ، وقد ترد أحاديث صحابي ، في مسند صحابي آخر ، كما سيأتي قريبا ، من كلام الشيخ أحمد شاكر  ، ولذا فإن الذهبي  ، قال بأنه كان يجدر بعبد الله بن أحمد  ، أن يصرف همه لترتيب المسند .    

    

 

وقد تفرد مسند أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد  بأنه أجمع الكتب ، وبأنه المصنف الوحيد الذي جمع بين طريقتي السنن والمسانيد في التصنيف ، وهذا ما أكد عليه ابن حزم  بقوله : مسند بقي  روى فيه عن 1300 صاحب ونيف ، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه ، فهو مسند ومصنف ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث .

وأما بالنسبة لمسند أحمد  ، فهو من أجل كتب السنة ، وأحد المصادر الأساسية للحديث الشريف ، ويبلغ عدد أحاديثه بالمكرر نحو 40000 حديث وبحذف المكرر 30000 حديث ، وقد انتقى أحمد  أحاديثه من 750000 حديث ، وجاء هذا في رواية حنبل بن أحمد  حيث قال : جمعنا أبي أنا وصالح وعبد الله فقرأ علينا المسند وما سمعه غيرنا وقال : هذا الكتاب جمعته من أكثر من 750000 حديثا ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه فليس بحجة . وهذا يثير سؤالين في غاية الأهمية :

هل استوعب مسند أحمد  السنة بأكملها ؟ وهل أحاديثه كلها صحيحة ؟

ونبدأ إن شاء الله بإجابة السؤال الأول :

فبالرغم من كم الأحاديث الكبير في المسند حيث خرج فيه أحمد _كما سبق_40000 حديث لـ 904 من الصحابة رضي الله عنهم ، إلا أنه قد فاته أحاديث كثيرة ومن أبرزها ، حديث عائشة رضي الله عنها في قصة أم زرع ، فقد ذكر الحافظ العراقي  أنه في الصحيح وليس في المسند ، وقد نقل ابن الصلاح  القول بأن المسند لم يقع فيه رواية جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من مائتين ، ولكن الشيخ أحمد شاكر  يعترض على هذا القول في الباعث الحثيث ويصفه بالغلو الشديد ، ويقول  : بل نرى أن الذي فات المسند من الأحاديث شيء قليل ، وأكثر ما يفوته من حديث صحابي معين يكون مرويا عنده من حديث صحابي آخر . وقد أجاب الذهبي  عن قول حنبل  بقوله : (هذا القول منه على غالب الأمر ، وإلا فلنا أحاديث قوية في الصحيحين والسنن والأجزاء ، ما هي في المسند) .

وإجابة السؤال الثاني :

اختلف العلماء  في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

أن جمبع ما في المسند صحيح وهو قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني والحافظ مغلطاي والسيوطي  ، وقال السيوطي  بأن الأحاديث الضعيفة ، في المسند ، تقترب من درجة الحسن ، وعلى هذا فهي لا تخرج عن دائرة القبول . 

 

فقد ذهب بعض العلماء  إلى أن في المسند أحاديث ضعيفة بل وموضوعة وقد زعم ابن الجوزي  أن في المسند 29 حديثا موضوعا (مع ملاحظة أن ابن الجوزي  متسرع في الحكم بالوضع ، لدرجة أنه حكم على حديث في صحيح مسلم  بالوضع) ، من أبرزها ، حديث دخول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الجنة حبوا ، لأن ماله حبسه ، فقد تكلم ابن الجوزي  على نكارة متن هذا الحديث ، (وهذه عادته  في كتابه الموضوعات ، كما سيأتي عند الكلام عنه) ، وقال بأن هذا المتن ، قد يفرح به الصوفية وجهلة المتعبدين ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصبغ بالسواد ، وسيأتي الكلام عليه بالتفصيل ، وزاد عليها العراقي  9 أحاديث وجمعها في جزء ، وقال العراقي  في شرحه لكتاب ابن الصلاح   : وأما وجود الضعيف فيه (أي المسند) فهو محقق ، بل فيه أحاديث موضوعة ، وقد جمعتها في جزء ، وقد ضعف الإمام أحمد  نفسه أحاديث فيه وذكر  بعض الأمثلة لهذه الموضوعات كأحاديث فضائل مرو وعسقلان والبرث الأحمر عند حمص ، وجدير بالذكر أن ابن حجر  ألف رسالة في الرد على ما زعمه ابن الجوزي  من موضوعات في المسند وسماها (القول المسدد في الذب عن المسند) ، ولكن بعض الباحثين قال بأن في رد ابن حجر  تكلف ، وقد تكلم الشيخ سعد الحميد حفظه الله ، عن صنيع الحافظ  في القول المسدد ، بتفصيل جيد ، حيث قسم دفاع الحافظ  عن أحاديث المسند المتكلم فيها إلى 3 أقسام :

قسم يكون دفاع الحافظ  فيه ، في غاية الجودة ، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصبغ بالسواد ، ويأتي قريبا .

قسم يكون دفاع الحافظ  فيه ، محتملا ، كما في حديث دخول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الجنة حبوا ، فلو سلمنا بصحة دفاع الحافظ  عن هذا الحديث ، لكي يرفعه ، من مرتبة الموضوع ، رغم الخلاف في ذلك ، فهل يمكن إلحاقه بالمقبول ؟ . لأنه لا يكفي أن يخرج الحديث من دائرة الوضع ، حتى يحتج به ، كما هو معلوم .

قسم يكون دفاع الحافظ  فيه متكلفا ، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، في قصة هاروت وماروت ، فهذا الحديث من حيث ظاهر السند ، يمكن أن تختلف فيه وجهات النظر ، ولا يحكم عليه بالوضع قطعا ، ولكن هل يمكن أن يحكم عليه بالضعف ، فهذا هو محل الخلاف ، وقد أسهب ابن كثير  في الكلام عن هذا الحديث في البداية والنهاية ، وفي تفسيره ، وقال بأنه من الأحاديث المأخوذة عن بني إسرائيل ، فنسبة هذا الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غلط ، وعليه فهو موضوع من هذه الجهة ، ولكنه من جهة وقفه على ابن عمر رضي الله عنهما ، حديث صحيح الإسناد ، رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن كعب الأحبار  ، وهذ ما يؤيد رأي شيخ الإسلام  الآتي .                    

وذهب شيخ الإسلام  في رسالة التوسل إلا أنه إن كان المقصود بالموضوع ما في سنده متهم بالكذب فليس في المسند شيء من ذلك ولإن كان المقصود به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقله لغلط راويه أو سوء حفظه ففي المسند والسنن من ذلك شيء كثير ، (وذلك كأن يغلط الراوي فيرفع الموقوف ، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق) ، وأما بالنسبة لوجود الضعيف في المسند فإنه يرد عليه بعدة أجوبة منها :

أن المقصود بالضعيف هنا هو الضعيف الذي يقرب من الحسن (بل وربما كان هذا الضعيف عند أحمد هو الحسن عند غيره لأنه  كان يقسم الحديث إلى صحيح أو ضعيف) ، فضعفه ليس شديدا ، وهو الذي صرح أحمد  بأنه يقدمه على آراء الرجال إن لم يجد في الباب غيره ، ويظهر هذا بوضوح من صنيعه تجاه أحاديث سلسلة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حيث كان يرد حديث عمرو بن شعيب  إذا عارضه ما هو أقوى منه وقال لإبنه عبد الله  : ربما قبلت حديث عمرو بن شعيب وربما وجدت في القلب منه وفي رواية : وربما رددته ، وقد قال البخاري  : (رأيت أحمد وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده ، ما تركه أحد من المسلمين)  ، فخرج  من عهدة هذا الضعيف بشرطه السابق وعليه فلا إشكال في إيراده هذا الضعيف ، بل وفي الإحتجاج به إن لم يجد غيره .

 

إننا إن سلمنا أن في المسند أحاديث ضعيفة جدا ، فقد ثبت أن أحمد  أوصى ابنه بأن يضرب على هذه الأحاديث ووافته المنية قبل هذا الأمر ، بل وربما أكمل الضرب عليها بالفعل ولكن الوراق وهم وكتب هذه الأحاديث من تحت الضرب وفي كلتا الحالتين خرج أحمد  من عهدة هذه الأحاديث .

 

أنه ينبغي أن نلاحظ زوائد ابنه عبد الله  وزوائد أبي بكر القطيعي  على المسند ، فربما جاءت هذه الموضوعات أو المنكرات من هذه الزوائد ، خاصة أن منها بعض مسموعات عبد الله عن غير أبيه كما نبه إلى ذلك د/ حسين شواط في حجية السنة ص201 ، وهنا يبرز سؤال مهم ، وهو كيف تعرف هذه الزوائد ؟ ، وللإجابة على هذا السؤال لابد من ملاحظة سياق الرواية ، فإن قال : حدثنا  عبد الله  قال : حدثنا أبي ، فهو من المسند ، وأما إذا قال حدثنا عبد الله قال : حدثنا وسمى شيخا غير أبيه فهو من زوائده ، وجدير بالذكر أن أغلب زيادات المسند هي من رواية عبد الله بن أحمد  ، وأما زيادات أبي بكر القطيعي  فهي طفيفة ، وينبغي أيضا ملاحظة وجادات عبد الله بن أحمد  ، وهي الأحاديث التي وجدها عبد الله  بخط أبيه ، وليست من أصل المسند الذي سمعه من أبيه . 

 

وقد جمع الشيخ ابن عثيمين  في رسالة مصطلح الحديث ص43 بين الأقوال الثلاثة بقوله : فمن قال : إن فيه الصحيح والضعيف لا ينافي القول بأن جميع ما فيه حجة لأن الضعيف إذا صار حسنا لغيره يكون حجة ، ومن قال بأن فيه الموضوع فيحمل قوله على ما في زيادات عبد الله وأبي بكر القطيعي  .

 

أنواع الأحاديث في مسند أحمد  :

رغم أن أحمد  لم يشترط الصحة في كل ما يورده في مسنده إلا أن فيه كثيرا من الأحاديث الصحيحة على شرط الشيخين ، وفيه أحاديث صحيحة دون درجة أحاديث الصحيحين ، وفيه أحاديث حسنة ، وفيه أحاديث ضعيفة لم يشتد ضعفها ، وفيه عدد قليل جدا من الأحاديث الضعيفة جدا كما سبق بيان ذلك .

 

شرط أحمد  في مسنده :

شرط أحمد  في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده ، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف . نقله الشيخ ابن عثيمين  عن شيخ الإسلام في ذكرة مصطلح الحديث ص43 .

 

بعض الملاحظات على مسند أحمد  :   

أنه  أنكر أحاديث رغم أنها في المسند ومن الأمثلة على ذلك كما ذكر شيخنا عبد الرحمن الفقيه حفظه الله :

حديث (( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان )) فقد خرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا قال أحمد : هو حديث منكر ، ودراج له مناكير ، وهذا الحديث في مسند أحمد (3/68) ، ابن رجب  في فتح الباري (1/132) .

حديث (( لايصلى في شعرنا)) وقد أنكره الإمام أحمد إنكارا شديدا وهذا الحديث في المسند(6/101) ، ابن رجب في (2/87) .  

حديث ابن عمر مرفوعا (( من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة ما دام عليه)) ، وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي طالب وقال هذا ليس بشيء ليس له إسناد (أي ليس له إسناد تقوم به الحجة) ، وهذا الحديث في المسند (2/98) ، قاله ابن رجب في الفتح (2/433) .

 

أن أحمد  يذكر أحادبث كثيرة في غير مسند الصحابي الذي رواها ، وبعضها يكون مرويا عن اثنين أو أكثر من الصحابة ، فتارة يذكر الحديث في مسند كل واحد منهما ، وتارة يذكره في مسند أحدهما دون الآخر ، ويقول الشيخ أحمد شاكر  بأنه وجد في المسند أحاديث لبعض الصحابة ذكرها أثناء مسند لغير راويها ، ولم يذكرها في مسند راويها أصلا (الباعث الحثيث ص266) ، وعليه فإنه يلزم الناظر أن يستقرأ المسند بأكمله إذا أراد عد أحاديث كل صحابي .

مسألة : ثلاثيات أحمد  :

مسند أحمد  من الكتب التي امتازت بالإكثار من ايراد الثلاثيات ، وقد قال الشيخ السعد حفظه الله بأنها تصل إلى نحو 300 حديث ، وقد جمعها وشرحها السفاريني في مصنف مستقل .

مسألة : هناك أحاديث من أصل المسند ، أمر أحمد  بإبعادها من المسند ، رغم صحتها ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث : يهلك أمتي هذا الحي من قريش ، قالوا : فما تأمرنا يارسول الله ، قال : لو أن الناس اعتزلوهم ، فقد أمر أحمد  بإبعاده ، رغم صحته ، لأنه خشي أن يتأوله البعض بما يوافق مذهب الخوارج والمعتزلة من الخروج على أئمة الجور .

 

مسألة : قول أحمد  : هذا الحديث ليس له إسناد :

ذكر الشيخ عبد الرحمن الفقيه حفظه الله أن الحافظ ابن رجب  تكلم عن هذه المسألة في فتح الباري بشرح البخاري ، حيث قال  : وقد قال أحمد : ليس له إسناد - يعني أن في أسانيده ضعفا . انتهى ، ثم أورد الشيخ عبد الرحمن حفظه الله ، بعض النقولات التي تؤيد هذا الرأي ومنها :

ما نقله من نصب الراية ج: 2 ص: 325 ، ونصه : الطريق الثاني أخرجه احمد رضي الله عنه في مسنده عن بقية عن عثمان بن زفر عن هاشم عن بن عمر نحوه سواء قال ابن الجوزي  في التحقيق : وهاشم مجهول إلا أن يكون بن زيد الدمشقي فذاك يروى عن نافع وقد ضعفه أبو حاتم وذكر الخلال قال : قال أبو طالب سألت أبا عبد الله عن هذا الحديث فقال ليس بشيء ((ليس له إسناد)) انتهى .

 

ما نقله من المغني لابن قدامة ج: 7 ص : 139 ونصه :
وأما حديث ذي الرقعتين فقال أحمد ليس له إسناد يعني أن ابن سيرين لم يذكر إسناده إلى عمر  .

 

ما نقله من المغني ج: 8 ص: 218 ونصه :
وحديثهم ليس له إسناد قاله أحمد وقال الدارقطني يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل .  

 

مسألة : قول أحمد  : هذا الحديث منكر :

والمشهور من اقوال أهل العلم أن هذا اللفظ إذا أطلقه أحمد أو النسائي  ، فإنه لا يستفاد منه التضعيف ، ولكن يستفاد منه مطلق التفرد ، سواءا كان الحديث مقبولا أو مردودا ، ولكن الشيخ طارق عوض الله حفظه الله يعترض على هذا الرأي ويقول بأنه ليس صحيحا أنه يقول بالنكارة و يقصد بها التفرد ، فهذا فيه من التكلف ما فيه علاوة على أن أحمد بن حنبل يكثر من استخدام هذا اللفظ ، فلو حملناه على حكاية التفرد و ليس الحكم على الحديث لضاع الكثير من أحكام هذا الإمام الجليل على الأحاديث ، وأنقل هنا ، كلاما لأخي يحيى القطان حفظه الله ، أحد أعضاء منتدى أهل الحديث ، من مشاركة قيمة له تتعلق بهذه المسألة ، حيث نقل قول أحمد رحمه الله : ((الحديث عن الضعفاء قد يُحْتاج إليه في وقتٍ، والمنكر أبدًا منكر)) ، [علل المروذي وغيره (رقم/287)، ومسائل ابن هانئ (1925 ـ 1926) ونقله ابن رجب في شرح العلل (1/385) عن ابن هانئ] ، وهذا نص من أحمد ، في محل النزاع ، ولو فرضنا جدلاً أن المنكر يطلق عند أحمد على الفرد الذي لا متابع له : لكفانا قول مسلم في مقدمة صحيحه عن المنكر وحده ، فهو كافٍ شافٍ في بيان الخلل في التفرد، والشك والريب المحيط بالحديث الفرد ، فكلام مسلم رحمه الله ، يدل على أن الحديث الفرد مظنة الوهم والخطأ ، فهو على كل حال ليس مقبولاً بإطلاق كما جرى عليه البعض ، فكيف وقد انضم إلى ذلك تصريح أحمد رحمه الله ، الذي يزيل كل إشكال ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

عبد الرحمن بن أبي الموال الذي روى حديث الاستخارة ، حيث قال الإمام أحمد رحمه الله: ((عبد الرحمن لا بأس به)) هذا حال الرجل عند الإمام أحمد رحمه الله ، لكن ماذا عن حديث الاستخارة الذي يرويه عبد الرحمن ، قال أحمد : ((يروي حديثًا لابن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ليس يرويه أحدٌ غيره، هو منكر)) فسأله أبو طالب: هو منكر؟ قال: ((نعم؛ ليس يرويه غيره ، لا بأس به، وأهل المدينة إذا كان حديثٌ غلط يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما)) ، (أي أنهم يسلكون الجادة ، وهذا أحد علامات الغلط) ، [الكامل لابن عدي (4/307، ترجمة ابن أبي الموال].
فهذا صريح في مرادفة المنكر للخطأ عند الإمام أحمد رحمه الله فهو مردود إذن ، وليست القضية عند الإمام أحمد في تفرد الراوي أو حاله ، فقد اعترف سلفًا بأنه لا بأس به ، فلم يعد ملتبسًا بعد ذلك.    

 

ما نقله المزي رحمه الله في التهذيب (23/220، ترجمة الفضل بن دلهم) عن أبي بكر الأثرم قال: ((سألتُ أبا عبد الله عن الفضل بن دلهم؟ فقال: ليس به بأس إلا أن له أحاديث)).
وقال الأثرم: ((سمعت أبا عبد الله ذكر حديث الفضلَ بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا).
فقال: هذا حديث منكر . يعني: خطأ.
قال أبو بكر الأثرم: وقد رواه قتادة ومنصور بن زاذان فقالا: عن الحسن عن حطان عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم)) أهـ
فانظر إلى قوله: ((حديث منكر. يعني: خطأ)) والمعنى ظاهر أيًا ما كان التفسير من الإمام أو الأثرم في قوله: ((يعني)).
والرواية التي ذكرها الأثرم عن عبادة ذكرها البخاري رحمه الله في كلامه على الروايات وقال: ((وهذا أصح)) [التاريخ الكبير 7/116 ـ ترجمة الفضل].
فظهر المراد من المنكر هنا أيضًا، فليس مقصودًا به التفرد كما ترى، والفضل عند الإمام أحمد : لا بأس به، وحديثه المنكر هنا يعني الخطأ.

أبرز الخدمات لمسند أحمد  :

قام ابن المحب  بترتيب المسند على الأبواب الفقهية .

قام  ابن عروة الحنبلي  ، بشرحه شرحا مسهبا ، أسماه الكواكب الدراري .

صنف ابن كثير  بتصنيف جامع المسانيد ، حيث جعل مسند أحمد أصلا ، ثم أورد الزوائد عليه من المسانيد الأخرى ، ورتب مسانيد الصحابة فيه على حروف المعجم ، ولم يكمله  .

صنف الهيثمي  ، مجمع الزوائد ، حيث جمع فيه زوائد ستة كتب ، هي : مسند أحمد وأبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة ، على الكتب الستة ، ورتب  زوائده على الأبواب الفقهية ، وقد أشار الشيخ أحمد شاكر  ، إلى أن المتتبع له يجد أن الصحيح من أحاديث المجمع يزيد على النصف ، وأكثرها من مسند أحمد  ، وقام الهيثمي  بإفراد زوائد أحمد  على الكتب الستة بمصنف مستقل .

الفتح الرباني للساعاتي  ، وقد رتبه على أبواب الفقه ترتيبا جيدا ، وهو لا يورد الحديث بسنده ، وإنما يذكر السند في الحاشية ، وربما علق عليه ، وخاصة أنه ينقل كلام الهيثمي  ، إن كان الحديث في الزوائد ، ويشرح أحيانا غريب الحديث ، ويتكلم عليه بكلام طفيف .

فهارس مسند أحمد  :

وضع ابن عساكر  فهرسا للصحابة الذين خرج أحمد  أحاديثهم في المسند ، وقد أفاد هذا الفهرس في معرفة أن بعض الصحابة قد سقطت مسانيدهم من المسند المتداول في هذه الأيام ، بل إن هناك أحاديث سقطت من مسند بعض الصحابة ، مثل جابر رضي الله عنه ، حيث أبرزت رسالة علمية معاصرة ، كما يقول الشيخ الحميد حفظه الله ، سقوط 12 حديثا من مسنده .

قام البسيوني زغلول ، كما رجح الشيخ الحميد حفظه الله ، بترتيب أحاديث المسند على حروف المعجم ، في مصنف من مجلد واحد .

فهرس مرشد المحتار للشيخ حمدي السلفي حفظه الله ، ويتميز عن فهرس البسيوني زغلول ، بأنه يربط طالب الحديث ، بجميع ألفاظه ، لأنه يوضح المواضع التي ورد فيها هذا الحديث بغير هذا اللفظ ، أو يحيل عليها .

أطراف المسند لإبن حجر  ، حيث رتب فيه الأحاديث على الأطراف ، كما فعل المزي  في تحفة الأشراف .

   

 

 

وأما الموطأت فمن أبرز الموطأت التي تندرج تحت هذا القسم موطأ مالك  ، وجدير بالذكر أن أحاديث الموطأ تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

المتصل : وكل المرفوع المتصل عند مالك  صحيح ، بل هو في الصحة كأحاديث الصحيحين ، كما ذكر ذلك السيوطي  في شرح الموطأ .

المرسل : حيث أن مالك  يحتج بالمرسل ، وقد رجح بعض العلماء مراسيله على مراسيل التابعين ، رغم أنه من طبقة تابعي التابعين ، لأنه كان شديد التحري في الرجال ، وهو من أعلم الناس برواة المدينة .

البلاغات : حيث أن مالك  من طبقة تابعي التابعين ، كما تقدم ، وعلى ذلك فقد يقول  : بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون بلاغه إلى صحابي ، وهذا يعني أنه أسقط من السند رجلين أو أكثر وهذا يمنع الحكم بإتصال الحديث ، ومن الأمثلة على ذلك :

ما رواه الحاكم رحمه الله في معرفة علوم الحديث ، بسنده إلى القعنبي عن مالك أنه بلغه أن أبا هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ، قال الحاكم رحمه الله : هذا معضل عن مالك ، أعضله هكذا في الموطأ ، لأنه أسقط منه رجلين ، محمد بن عجلان وأباه ، وعرف ذلك من رواية الحديث خارج الموطأ . 

وجدير بالذكر أن المقطوعات والمراسيل والبلاغات في موطأ مالك  كلها مسندة من طرق أخرى ، حيث قام بوصلها الحافظ ابن عبد البر  في كتابه (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) ، عدا أربعة أحاديث لم يجد لها سندا ، فوصلها الحافظ ابن الصلاح  في رسالة سماها : (وصل البلاغات الأربعة في الموطأ) . (حجية السنة ص199) .

مسألة : علو الإسناد عند مالك  :

الإمام مالك  من طبقة أتباع التابعين ، وعليه فإن سنده بلا شك أعلى من سند أصحاب الكتب الستة لأنه متقدم عليهم بطبقتين ، فلم يلقه أي منهم ، وإنما روى عنه بعضهم بواسطة واحدة ، حيث أخرج له البخاري  من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي  وطريق إسماعيل بن أبي أويس  ، وروى له مسلم  من طريق يحيى بن يحيى الليثي (والصحيح ، والله أعلم ، أنه يحيى بن يحيى النيسابوري)  ، وأعلى الأسانيد عند مالك  هي الأسانيد الثنائية ، كروايته عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنهما .

 

مسألة : روايات الموطأ :

للموطأ روايات عديدة ، لأن مالكا رحمه الله كان يجيب من أراد قراءة موطأه عليه من الطلاب ولكن أشهرها ، رواية يحيى بن يحيى الليثي ، وهي المشهورة عند المغاربة والمشارقة ، وينبغي التنبيه إلى التفاوت في عدد أحاديث كل رواية ، لأن مالكا كان دائم النظر في موطأه ، فيخرج منه أحاديث ويدخل أخرى ، حتى أن رواية محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله ، على الثلث تقريبا من رواية يحيى بن يحيى الليثي .

 

المستخرجات :

وقد عرفها الحافظ العراقي  بقوله : موضوع المستخرجات أن يأتي المصنف إلى الكتاب فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه ، من غير طريق صاحب الكتاب ، فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه ، وأضاف الحافظ ابن حجر شرطا آخر وهو أن لا يصل إلى شيخ أبعد ، حتى يفقد سندا يوصله إلى الأقرب ، إلا لعذر ، من علو أو زيادة مهمة ، وذكر  في موضع آخر أن المستخرج ربما أسقط أحاديث لم يجد له بها سندا يرتضيه ، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب ، ومن أهم الأمثلة على المستخرجات : المستخرج لأبي بكر الإسماعيلي  على البخاري  والمستخرج لأبي عوانة الإسفراييني  على مسلم  والمستخرج لأبي نعيم الأصبهاني  على كل منهما . 

ومن أهم فوائد المستخرجات :

الزيادات المهمة في الأسانيد والمتون .

العلو في السند .

تقوية الحديث ، لأن هذه الطرق التي يذكرها المستخرج تعمل عمل المتابعات للحديث الأصلي كما أكد على ذلك ابن الصلاح  .

تقوية الحديث المعنعن لأنه قد يوجد في سند الحديث مدلس ، وقد روى بالعنعنة ، وهذا يمنع الحكم بصحة الحديث حتى يأتي ما يعضده ، (بإستثناء أحاديث الصحيحين فرواية المدلس فيها بالعنعنة مقبولة) ، فيأتي المستخرج برواية فيها تصريح بالسماع ، فيزول الإشكال .

تقوية رواية المختلط لأنه قد يوجد في سند الحديث مختلط ، وقد روى الحديث ولا ندري هل رواه قبل اختلاطه أم بعده ، وهذا يمنع الحكم بصحة الحديث حتى يأتي ما يعضده ، (بإستثناء أحاديث الصحيحين فرواية المختلط فيه مقبولة ، لأنها محمولة على روايته قبل اختلاطه) ، فيأتي المستخرج برواية الشيخ قبل اختلاطه ، فيزول الإشكال .

معرفة عين المبهم ، لأنه قد يرد التصريح بإسمه في المستخرجات ، وكثيرا ما يلجأ الحافظ  إلى المستخرجات لمعرفة أعيان المبهمين . 

ومما يجدر التنبيه إليه في المستخرجات :

أن المستخرجين لم يلتزموا موافقة الصحيحين في الألفاظ ، لأنهم إنما يروون الألفاظ التي وصلتهم من طريق شيوخهم ، لذلك فقد حصل فيها تفاوت قليل في بعض الألفاظ . وبناءا عليه فلا يجوز لشخص أن ينقل من المستخرجات حديثا ويقول رواه البخاري أو مسلم إلا في حالتين :

أن يقابل الحديث بروايتهما ، فإن اتحدا جاز له ذلك .

أو يقول صاحب المستخرج "أخرجاه بلفظه" ، وعليه فلا إشكال لأن المستخرج قد تكفل لنا بتطابق اللفظين .

هل المستخرجات كلها صحيحة ؟

الغالب عليها الصحة ، (وليست كلها صحيحة رغم أن أصولها صحيحة ) ، لأن زياداتها قد تأتي من طرق ضعيفة لأن جل هم المستخرج هو العلو بالسند ، ولذا فإننا نجد أصحاب المستخرجات يخرجون أحيانا للضعفاء والمتهمين ، فعلى سبيل المثال : خرج الإسماعيلي  لإبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف وخرج أبو نعيم  لمحمد بن الحسن بن زبالة وقد قال فيه الحافظ  : كذبوه .

وجدير بالذكر أن طريقة المتقدمين في التصنيف كانت الإستخراج على أحاديث شيوخهم ، وهذا ما فسر به الشيخ سعد الحميد حفظه الله عدم إخراج مسلم  لأي حديث في صحيحه من طريق شيخه البخاري  وذكر أن هذا هو تعليل الدارقطني  لصنيع مسلم  . 

وقد مال الشيخ السعد حفظه الله إلى جعل المستخرجات من القسم الأول .

 

القسم الثالث : الكتب التي يكثر فيها الضعيف مع وجود الصحيح :

ومن أهم الأمثلة على هذا القسم :

مسند البزار  :

وقد سبق الحديث عن طريقة المصنف في المسانيد ، ومن أهم سمات مسند الحافظ أبي بكر البزار  :

 

أنه يعتبر مصدرا مهما للأحاديث الغريبة  ، وإن كان البزار  لا يحكم على الحديث بالغرابة مطلقا وإنما يقول  : (لا أعرفه إلا من طريق فلان عن فلان) ، فكأنه ينبه على أن هذا الحديث غريب عنده ، ولكن هذا لايعني الحكم المطلق عليه بالغرابة ، فقد يكون للحديث إسناد آخر لم يطلع عليه .

 

أنه يعتبر من كتب العلل ، ففيه من التعاليل ما لا يوجد في غيره من المسانيد كما نبه إلى ذلك ابن الصلاح والخطيب البغدادي  .

 

وأما بالنسبة للبزار  ، فقد وثقه أئمة الحديث  ، ولكن الدارقطني  تكلم في حفظه ، فقال  : ثقة يخطيء ويتكل على حفظه ، وقال : يخطيء في الإسناد والمتن ، حدث بالمسند بمصر حفظا ينظر في كتب الناس ويحدث من حفظه ، ولم تكن معه كتب فأخطأ في أحاديث كثيرة ، فالدارقطني  قيد كلامه في عبارته الثانية بحديث البزار في مصر فقط ، وهذا الأمر ليس مقصورا على البزار  فقط ، فقد سبقه إليه جمع من المحدثين الثقات ، ومن أشهرهم معمر بن راشد  لما حدث بالبصرة ولم تكن معه كتبه ، وجرير بن حازم  لما نزل مصر ، ولم يحط هذا من شأنهم ، رغم رد ما وهموا فيه .  

منزلة البزار رحمه الله بين أئمة الجرح والتعديل :

للبزار رحمه الله منهج في توثيق الرواة ، ذكره السخاوي -رحمه الله تعالى- في "فتح المغيث" (ج2 ص12) حيث قال بأن : البزار في "مسنده" وابن القطان في "الوهم والإيهام" ذهبا أن العدالة تثبت برواية جماعة من المشاهير عن الراوي

وقد علق الشيخ مقبل رحمه الله على هذا بقوله : إذا رأينا حديثًا في كتابيهما أو في كتبهما من طريق راو روى عنه جماعة ، لم يوثقه معتبر ، وليس مشهورًا بالطلب ، أو رأيناهما صححا هذا الحديث فيتوقف فيه ، ثم إنه قد علم تساهل البزار في التوثيق وكذا في التصحيح .

 

معاجم الطبراني  الثلاثة  :

وبداية لابد من توضيح الفارق بين المعاجم والمسانيد ، حيث أن الناظر فيهما ، قد لا يتضح له الفارق بينهما للوهلة الأولى ، وممن نبه على ذلك الشيخ سعد الحميد حفظه الله فقال بأن المقصود من المسانيد ، هو سرد أحاديث كل صحابي على حدة سردا كاملا ما أمكن ذلك دون ذكر ترجمة لهذا الصحابي ، وأما المعاجم فإنها تعنى بذكر ترجمة الصحابي أولا ، ثم إيراد بعض أو كل أحاديث هذا الصحابي ، وعلى هذا يمكن اعتبار كتب المعاجم قسما من كتب التراجم والرجال ، ويغلب أن ترتب على حروف المعجم ، بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم ، أو بالنسبة لشيوخ المصنف .

ويحسن بنا أن نقدم نبذة مختصرة عن معاجم الطبراني  ، فهي أشهر المعاجم على الإطلاق :

 

المعجم الكبير :

وهو مرتب على مسانيد الصحابة بحسب حروف المعجم ، عدا مسند أبي هريرة فإنه أفرده في مصنف مستقل لكثرة أحاديثه ، وهو أكبر معاجم الدنيا ، ويقال بأن فيه ستين ألف حديث ، وقيل ثمانين ألفا ، ولكننا ، كما يقول الشيخ السعد حفظه الله ، لا نستطيع أن نحدد عدد أحاديثه بالضبط ، لأن هناك جزءا مفقودا منه .

ورغم ذلك فإن عدد المرفوعات عند أحمد  أكبر من عددها عند الطبراني  ، فالمسند ، هو أكبر كتاب في المرفوعات ، وأما إذا ضم إلى هذه المرفوعات ، الآثار عن الصحابة وما قيل في أوصافهم ووفياتهم وما إلى ذلك ، فإن عدد أحاديث معجم الطبراني الكبير أكبر .

المعجم الأوسط :

وهو مرتب على أسماء شيوخ الطبراني  ، وهم حوالي ألفين ، ويقال بأن فيه ثلاثين ألف حديث ، وهو من مظان الغريب ، وقد أثر عن الطبراني  أنه قال : هذا الكتاب روحي (أي المعجم الأوسط) .

المعجم الصغير :

وقد خرج فيه عن ألف من شيوخه ، مقتصرا غالبا على حديث واحد لكل منهم . حجية السنة ص203و 204 .

 

ومن أبرز معالم منهج الطبراني  :

أنه قسم الصحابة إلى قسمين :

قسم له رواية .

قسم ليس له رواية ، فهو معجم صحابة ، كما تقدم ذكر ذلك .

فما كان فيه من صحابة ليس لهم رواية ، فإن الطبراني  يعرف بهم من خلال كتب السير والمغازي .

وأما من لهم رواية ، فهم إما :

مكثرون من الرواية : وهؤلاء لا يخرج لهم إلا النزر اليسير وربما لا يخرج لهم أصلا ، لأنه أفردهم بمسانيد خاصة كأبي هريرة رضي الله عنه ، ومن أبرز الأمثلة على عدم استيعابه لأحاديث المكثرين ، أنه لم يخرج لأنس رضي الله عنه إلا نحو 40 حديثا فقط ، وقد يسهب أحيانا في ذكر أحاديث المكثرين كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم ، ولكن الأصل في معجمه ، عدم الإسهاب في ذكر رواية المكثرين , وجدير بالذكر أن الطبراني  ، يورد الأحاديث دون ترتيب ، إلا في الصحابة المكثرين ممن لهم تلاميذ كثر ، وهؤلاء التلاميذ بدورهم مكثرون ، فإنه يرتب أحاديث الصحابي تبعا لمن رووا عنه ، فيرتب أحاديث ابن عباس رضي الله عنهما ، على سبيل المثال ، طبقا للرواة عنه ، كعكرمة وسعيد بن جبير  .

مقلون من الرواية : وهؤلاء يحرص كل الحرص على استيفاء مروياتهم .

 

يبدأ بتعريف الصحابي وذكر اسمه كاملا ، وكنيته ، وأوصافه ، وهل يخضب أم لا ، وما إلى ذلك ، ثم يذكر فضائله ، إن ورد فيها أحاديث ، ويذكر مغازيه ، ثم يورد أحاديثه ، وما سبق ذكره من الصفات ، يورده الطبراني  مسندا ، فكل قول يرويه في ترجمة أحد الصحابة مسندا إلى قائله ، هو حديث ، ولو كان لراو متأخر ، كقول يونس بن بكير  : توفي معاذ رضي الله عنه سنة 18 هـ .

     

 

بدأ بذكر أحاديث الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم  ، ومن ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ، فلم يلتزم الترتيب الأبجدي في ذكر العشرة رضي الله عنهم ، ومن ثم أتبعهم بذكر أحاديث بقية الصحابة مبتدئا بأحاديث من عرفت أسماؤهم من رجال الصحابة رضي الله عنهم ، ثم أحاديث من عرفت كناهم ، ثم أحاديث المبهمين من رجال الصحابة ، ثم أحاديث من عرفت أسماؤهن من الصحابيات ، ثم من عرفت كناهن ، ثم المبهمات من الصحابيات .

اعتمد على الحرف الأول فقط في ترتيبه الأبجدي لأسماء من يروي عنهم ، سواءا كانوا من الصحابة ، كما في معجمه الكبير ، أو من شيوخه كما في معجمه الأوسط ، فهو قد يقدم أنس رضي الله عنه على آبي اللحم رضي الله عنه ، على سبيل المثال ، رغم أن (آب) ، مقدمة على (أن) إذا أخذنا في الإعتبار الترتيب الأبجدي كاملا .

يرتب الطبراني  أحاديث معاجمه على الأبواب الفقهية أحيانا ، وليس دائما . 

 

الكتب التي ألفت في الأحاديث الضعيفة والمعلولة والموضوعة :

ومن أبرز الأمثلة عليها كتاب الأباطيل للجوزجاني  ، وإن كان ينازع في بعضها ، وكتاب الموضوعات لإبن الجوزي   وكتب العلل مثل العلل الكبير للترمذي  والعلل لأبي حاتم  والعلل للدارقطني  .

وقد قدم الشيخ أحمد شاكر  نبذة مختصرة ولكنها غير مخلة عن كتاب الموضوعات لإبن الجوزي  باعتباره من أهم الكتب التي ألفت في الأحاديث الموضوعة ومن أهم ما جاء فيها :

أن ابن الجوزي  أخذ غالب مادته العلمية من كتاب الأباطيل للجوزجاني  .

أن ابن الجوزي  أخطأ في أحاديث ذكرها في الموضوعات ، وقد انتقدها عليه الحفاظ ، ومن أبرز من تكلم في هذا ، الحافظ ابن حجر  حيث قال : (غالب ما في كتاب ابن الجوزي  موضوع ، والذي ينتقد عليه بالنسبة إلى ما لا ينتقد قليل جدا . وفيه من الضرر أن يظن ما ليس بموضوع موضوعا ، عكس الضرر بمستدرك الحاكم  ، فإنه يظن ما ليس بصحيح صحيحا ، ويتعين الإعتناء بانتقاد الكتابين ، فإن الكتابين في تساهلهما عدم الإنتفاع بهما إلا لعالم بالفن ، لأنه ما من حديث إلا ويمكن أن يكون قد وقع فيه التساهل) .

وقد لخص السيوطي  الموضوعات في مصنف أسماه (اللآلي المصنوعة) ، وأفرد الأحاديث التي تعقبها الحفاظ   على ابن الجوزي  في مصنف آخر أسماه (ذيل اللآلي المصنوعة) ، وألف الحافظ  كتاب (القول المسدد في الذب عن المسند) ، ليرد ما ادعاه ابن الجوزي  من موضوعات في المسند ، وألف السيوطي  كتاب (القول الحسن في الذب عن السنن) ، ليرد ما ادعاه ابن الجوزي  من موضوعات في السنن الأربعة ، ومن غرائب تسرع ابن الجوزي ، أنه حكم على حديث في صحيح مسلم  بأنه موضوع وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : (إن طالت بك مدة أوشك أن ترى قوما يغدون في سخط الله ويروحون في لعنته ، في أيديهم مثل أذناب البقر) ، وقد شدد الحافظ  النكير على ابن الجوزي  لحكمه هذا .

وممن تكلم عن منهج ابن الجوزي  في الموضوعات ، الشيخ سعد الحميد حفظه الله ، حيث قال بأن ابن الجوزي  يركز أساسا على نقد المتون في حكمه بالوضع على الحديث ، فإذا وجد في المتن نكارة ، فإنه يبحث عن علة يعل بها الحديث ، حتى لو تكلف هذا الأمر ، ويقول الشيخ الحميد حفظه الله بأن هذا المنهج منهج غير جيد عموما ، وإن كان جيدا في مواطن النكارة الشديدة كأن يخالف المتن معلوما من الدين بالضرورة كحديث : (أنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله) ، الذي وضعه محمد بن سعيد المصلوب عن أنس مرفوعا ، فزيادة (إلا أن يشاء الله) ، لا شك أنها موضوعة لأنها تخالف معلوما من الدين بالضرورة ، وأما مجرد استنكار بعض ألفاظ المتن ، فليس كافيا للحكم على الحديث بالوضع ، وذكر الشيخ حفظه الله ، مثالا لحكم من أحكام ابن الجوزي  الذي تكلف فيها وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : (يكون في آخر أمتي أقوام يصبغون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة) وهذا الحديث صحيح وقد أخرجه أحمد وغيره ، وأما ابن الجوزي  فقد استنكر بعض ألفاظ المتن ، فتكلف إيجاد علة لهذا الحديث ، وأعله بوجود راو في سنده يدعى عبد الكريم فقال هو عبد الكريم بن أبي المخارق الضعيف والرد عليه من وجهين :

أن الراوي وإن كان ابن أبي المخارق ، فليس هذا كافيا للحكم على الحديث للوضع ، لأن الضعيف أحسن حالا من الكذاب أو المتهم بالكذب الذي يغلب على الظن أن حديثه موضوع .

أن عبد الكريم المذكور في سند الحديث هو عبد الكريم الجزري الثقة ، وقد عرف ذلك ، من معرفة شيوخ عبد الكريم بن أبي المخارق الضعيف ، وعبد الكريم الجزري الثقة ، وتلاميذهما ، فقد اشتركا في شيوخ رويا عنهم ، وتلاميذ يروون عنهما ، والناظر في سند هذا الحديث يتضح له أن عبد الكريم المذكور فيه ، يروي عن شيخ مشترك لهما ، ولكن الراوي عنه ، وهو عبيد الله بن عمر الرقي  ، لا يروي إلا عن عبد الكريم الجزري الثقة ، فعرف بذلك أنه الثقة ، ثم إنه قد وجد في بعض طرق الحديث ، عند أبي داود  ، وعند البيهقي  في كتاب الآداب ، وعند البغوي  في شرح السنة ، التصريح بأنه عبد الكريم الجزري الثقة ، فزال الإشكال بذلك .

             

 

وقد تكلم العلماء  عن أصح الأسانيد من وجهين :

الوجه الأول : الصحة المطلقة :

فقد حكم بعض العلماء  على بعض الأسانيد بأنها أصح الأسانيد مطلقا ومن الأمثلة على ذلك :

الزهري  عن سالم عن أبيه ، وقد روي ذلك عن إسحاق بن راهوية  وأحمد  .

ابن سيرين  عن عبيدة السلماني  عن علي رضي الله عنه ، وقد روي ذلك عن ابن المديني والفلاس .

الأعمش  عن إبراهيم  عن علقمة  عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقد روي ذلك عن ابن معين  .

الزهري  عن علي بن الحسين  عن أبيه عن علي رضي الله عنه ، وقد روي ذلك عن أبي بكر بن أبي شيبة .

مالك  عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنه ، وقد روي ذلك عن البخاري  ، (تيسيرمصطلح الحديث ص37) .

 

الوجه الثاني : الصحة المقيدة :

كأن يقال مثلا بأن أصح الأسانيد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، إسماعيل بن أبي خالد  عن قيس بن أبي حازم  عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، دون أن يحكم له بالصحة المطلقة ، وهكذا بالنسبة لكل صحابي أو جهة ، وهذا هو الأولى .

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أهمية معرفة هذه الطرق ، حيث أنها تمكن طالب العلم من حفظ عدد كبير من الأحاديث الصحيحة التي تأتي من هذه الطرق ، وتمكنه من معرفة العلل ، لأن للأحاديث طرقا مسلوكة معروفة ، فإذا جاءت الأحاديث من

من غير هذه الطرق فهي مظنة وجود العلة ، (وأحيانا تكون هذه الطرق المشهورة دليلا على العلة ، ويقال عندئذ بأن الراوي "وهم وسلك الجادة") .

 

وأما بالنسبة للأحاديث الصحيحة فإن درجة صحتها تتفاوت تبعا لتمكنها من شروط الصحة :

فأصح الأحاديث ما كان متواترا ، وهي على درجات وأكثرها تواترا حديث : (من كذب علي متعمدا …) الحديث فقد رواه أكثر من ستين صحابيا ، وأورد الشيخان  جمعا من طرق هذا الحديث عن علي والزبير وأنس والمغيرة وأبي هريرة رضي الله عنهم وغيرهم ، وللطبراني  جزء جمع فيه طرق هذا الحديث وقد ساقها ابن الجوزي  في مقدمة كتابه (الموضوعات) .

 

ويليها ما تلقته الأمة بالقبول ولم يتواتر ، (أي ما صححه جمع من الحفاظ مثل ابن المديني ومسلم والبخاري  وأقرانهم ، فلا شك أنه أصح مما انفرد به الشيخان  ، وقد جمع الصحيحان أكثر هذا الحديث .

 

ويليها ما صححه الشيخان   .

 

ويليها ما رواه البخاري 

 

ويليها ما رواه مسلم  ، (وجدير بالذكر أن هذا التقسيم من حيث الجملة وإلا فقد توجد أسانيد خارج الصحيحين هي في الدرجة العليا من الصحة ، وقد توجد أسانيد داخل الصحيحين ولكنها دون الدرجة العليا من الصحة وهذا لا يعني أنها معلولة أو غير صحيحة ، وقد توجد أسانيد عند مسلم  أصح من بعض الأسانيد عند البخاري  ، فصحيح البخاري  أعلى من صحيح مسلم  بالجملة وليس هذا في كل حديث ، بل إن مسلم  علا عن شيخه البخاري في أربعين حديثا جمعها ابن حجر  في كتيب أسماه "عوالي مسلم" ، حجية السنة ص189 .

 

ويليها الأسانيد الصحيحة المشهورة .

 

ويليها الأسانيد الحسنة (على اعتبار أن الحسن مقبول عند جماهير أهل العلم وهو في الإحتجاج كالصحيح إلا إذا عارض ما هو أصح منه) .

وختاما ، كيف يمكن معرفة الصحيح ؟

أجاب الشيخ ابن عثيمين  على هذا السؤال إجابة مختصرة وافية فقال  :

يعرف الحديث الصحيح بأمور ثلاثة :

أن يكون في مصنف التزم فيه الصحة إذا كان مصنفه ممن يعتمد قوله في التصحيح كصحيحي البخاري ومسلم . (وذلك خلاف من تساهل في الحكم على الأحاديث بالصحة كالحاكم وابن حبان  أو أورد كل ما جاء في الباب دون أن يشترط الصحة كأبي الشيخ الأصبهاني  أو حذف أسانيد الأحاديث كالديلمي ) .

أن ينص على صحته إمام يعتمد قوله في التصحيح ولم يكن معروفا بالتساهل فيه ، (كما يفعل الترمذي  حين يحكم على الأحاديث في جامعه ، وإن كان بعض العلماء قد توقف في تصحيح الترمذي  كالحافظ الذهبي  ، كما سبق بيان ذلك) .

أن ينظر الناقد المؤهل في رواة الحديث وطريقة تخريجهم له ، فإذا تمت فيه شروط الصحة حكم بصحته .

 

الحديث الحسن :

أشهر تعاريف الحسن :

تعريف الخطابي  :

هو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله ، وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء .

نقد التعريف :

لم يذكر الخطابي  انتفاء العلة أو الشذوذ ، وهذا يذكرنا بالخلاف الشهير بين المحدثين والفقهاء ، كما نبه إلى ذلك الحافظ الذهبي  بقوله : فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها ، أي الفقهاء .

قول الخطابي  (ما عرف مخرجه) ، ما معناه ؟

مخرج الحديث : هو الجزء من السند من جهة الصحابي ، لأن أول من يروي الحديث هو الصحابي ثم يرويه عنه التابعي وهكذا ، وبناءا على ذلك يوصف مخرج الحديث ، فيقال عن الحديث الذي رواه قتادة  عن أنس رضي الله عنه ، على سبيل المثال : حديث مخرجه بصري (نسبة إلى البصرة التي أقام فيها أنس رضي الله عنه ، وروى عنه قتادة  هذا الحديث فيها) ، ويعرف مخرج الحديث بإبراز رجاله ومعرفتهم ، وعليه فإن مقصود الخطابي  بقوله (ما عرف مخرجه) هو الإتصال ، وبهذا يخرج المرسل بهذا القيد (وبهذا يظهر أن الخطابي  أخرج الحسن لغيره من حد الحسن ، لأن المرسل قد يعتضد بآخر ليصل إلى درجة الحسن لغيره ، وعليه فتعريفه قاصر على الحسن لذاته فقط) . ولكن الصحيح والضعيف لا يخرجان لأنهما قد يوجدان بسند متصل .

قول الخطابي  (واشتهر رجاله) :

وبمقارنة شرط الخطابي  في رجال الحديث الحسن بشرطه في رجال الحديث الصحيح (حيث وصف رجال الحديث الصحيح بالعدالة) يتضح لنا أن الخطابي  أراد التنبيه على أن رجال الحسن أقل من رجال الصحيح (فالوصف بالشهرة أدنى من الوصف بالعدالة) .

ولكن ابن كثير  يعلق على هذه الجملة بقوله : فإن كان المعرف هو قوله : (ماعرف مخرجه واشتهر رجاله) فالحديث الصحيح كذلك ، بل والضعيف ، فالتعريف غير مانع ، فرجال الضعيف على سبيل المثال مشهورون بالضعف وسوء الحفظ .

قول الخطابي  (وعليه مدار أكثر الحديث) :

اعترض ابن كثير  على إطلاق لفظ (الحديث) في هذه الجملة ، لأن هذا يوهم أن الحسن أكثر من الصحيح والضعيف مجتمعين ، ولا شك أن هذا غير صحيح ، وعليه فلا بد من إضافة قيد (المقبول) للتعريف ، ليصبح : (وعليه مدار أكثر الحديث المقبول) ، فالمعنى هنا يستقيم ، لأن الحسن أكثر من الصحيح بلا شك .

 

قول الخطابي  (وهو الذي يقبله أكثر العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء) :

وهذا القول صحيح ، لأن أغلب الفقهاء والعلماء يحتجون بالحسن إلا إذا عارضه ما هو أقوى منه ، ولكن الإشكال في هذه الجملة ، أن فيها نوعا من الدوران (أي توقف الشيء على نفسه) ، لأن الخطابي  اشترط أن يقبله أكثر الفقهاء والعلماء حتى يكون حسنا ، ولكن الفقهاء والعلماء لن يقبلوه حتى يكون حسنا (فالدور هنا باطل بلا شك) .

 

تعريف ابن الجوزي  :

هو الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل ، ويصلح للعمل به  ، وهذا كما يقول ابن الصلاح  : مستبهم لا يشفي الغليل ، فدرجة الضعف هنا ليست محددة كما أن في قوله (ويصلح للعمل به) ، دورانا كما في تعريف الخطابي  ، وقد ذكر ابن الجوزي  تعريفه هذا في العلل المتناهية . 

 

تعريف ابن دحية  :

ما فيه ضعف قريب محتمل وهو دون الصحيح ولا يصل إلى درجة الضعيف ويكون راويه لا يصل إلى درجة العدالة ولا ينحط إلى درجة الفسق .

 

تعريف ابن القطان الفاسي  :

ما اختلف فيه بين التصحيح والتضعيف ، وقد سحب  هذا الوصف على راوي الحديث الحسن فأصل قاعدة : (إذا اختلف أهل العلم في توثيق راو أو جرحه فحديثه حسن) .

 

 

 

 

تعريف الترمذي  :

وقد سبق ذكره  في سياق التعريف بجامع الترمذي  ، ولكن ينبغي التنبيه هنا على أمرين في غاية الأهمية :

أن الترمذي  قصد تعريف الحسن لغيره فقط .

أن العلماء أثنوا على صنيع الترمذي  بتفريقه بين الشرطين الثاني والثالث في تعريفه فلا يكفي أن يرد الحديث من أكثر من وجه حتى يرتفع لدرجة الحسن لغيره فربما كانت هذه الطرق المتعددة معلولة (كأن يكون رواتها متهمين بالكذب) فهي لا تصلح للمتابعة فلا تتقوى ولا يتقوى بها ، وهذا ما يتضح أكثر عند مقارنته بتعريف ابن الصلاح  للحسن لغيره كما سيأتي إن شاء الله .

 

تعريف ابن الصلاح  :

وقد تصدى ابن الصلاح  لكلا نوعي الحسن عند تعريفه الحديث الحسن .

أولا : تعريف الحسن لغيره :

هو الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ ولا هو متهم بالكذب ، ويكون متن الحديث قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر ، فيخرج بذلك عن كونه شاذا أو منكرا .

 

نقد التعريف :

 

قول ابن الصلاح  : (مستور لم تتحقق أهليته) :

فقد ذكر ابن الصلاح  المستور كمثال لراوي الحديث الحسن لغيره ، أما الترمذي  فقد وضع حدا لراوي الحسن لغيره وهو (من لا يتهم بالكذب) ، فشمل لين الحفظ والمستور وغيرهم ممن يصل حديثهم لدرجة الحسن لغيره بتعدد الطرق ، فتعريفه شامل لكل أصناف رواة هذا النوع ، خلاف ابن الصلاح  الذي مثل بنوع واحد فقط من هؤلاء الرواة . ولكن يعتذر لإبن الصلاح  بقوله (لم تتحقق أهليته) ، فهذا القول قد يشمل كل أصناف رواة الحسن لغيره ويكون ابن الصلاح  قد ذكر الخاص ثم أتبعه بالعام ، والله أعلم .

 

قول ابن الصلاح  (غير أنه ليس مغفلا كثير الخطأ ولا هو متهم بالكذب) :

وهذا قيد حسن جدا ، لأن شديد الغفلة حديثه ضعيف جدا ، لا يرقى للحسن لغيره بتعدد الطرق (فكأن ابن الصلاح  ينبه هنا على المتروك بسبب سوء ضبطه) ، وكذا المتهم بالكذب حديثه لا يرقى للحسن لغيره بتعدد الطرق (فكأن ابن الصلاح  ينبه هنا على المتروك بسبب القدح في عدالته) .

 

قول ابن الصلاح  (ويكون متن الحديث قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر ، فيخرج بذلك عن كونه شاذا أو منكرا) :

وهنا تظهر ميزة أخرى لتعريف الترمذي  ، وهو أنه اشترط في طرق الحديث الحسن مع تعددها ، ألا تكون شاذة ففصل بين تعدد الأوجه والشذوذ ، بينما جعل ابن الصلاح  التعدد كافيا لزوال الشذوذ ، وهذا غير مسلم به ، كما سبق بيانه لأن هذه الطرق قد تكون كل واحدة منها شاذة إذا انفردت (فلا تتقوى ولا يتقوى بها) .

 

لم يشترط ابن الصلاح  اتصال السند ، وهذا حسن جدا ، لأن هذا يدخل الأحاديث المنقطعة في حد الحسن لغيره إذا تعددت طرقها الصالحة للمتابعة .

 

تعريف الحسن لذاته :

هو الحديث الذي يكون راويه من المشتهرين بالصدق والأمانة ، ولم يبلغ درجة رجال الصحيح في الحفظ والإتقان ، ولا يعد ما ينفرد به منكرا ، ولا يكون المتن شاذا ولا معللا ، وهذا التعريف هو أحسن تعريف للحسن لذاته بإشتراط الإتصال في سنده وحينئذ لا يحتاج إلى طريق أخرى ليتقوى بها .   

تعريف الحافظ الذهبي  :

الحَسَنُ ما ارتَقَى عن درجة الضعيف ، ولم يَبلغ درجةَ الصحة .

ومن التعاريف السابقة يمكن التمييز بين الحسن لذاته والحسن لغيره كالتالي :

الحسن لذاته لا يشترط فيه تعدد الطرق بينما يشترط ذلك في الحسن لغيره . فيحتج بالحسن لذاته مطلقا ، ولا يحتج بالحسن لغيره إلا إذا تعددت طرقه .

الحسن لذاته يشترط في راويه الضبط وإن كان فيه بعض الخفة ، بينما ضبط راوي الحسن لغيره أدنى من ضبط راوي الحسن لذاته ، حتى أنه يصل أحيانا لسوء الحفظ ولكن بشرط ألا يصل لوصف (سيء الحفظ جدا) لأنه في هذه الحالة يكون متروك الحديث ، وأما العدالة فهي شرط في كلا الراويين .  

ومما سبق يتضح لنا شدة الخلاف في تعريف الحسن وهذا يؤكد قول الحافظ الذهبي في الموقظة :

ثم لا تَطمَعْ بأنَّ للحسَنَ قاعدةً تندرجُ كلُ الأحاديثِ الحِسانِ فيها ، فأَنَا على إِياسٍ من ذلك ، فكم من حديث تردَّدَ فيه الحُفَّاظُ ، هل هو حسَنُ أو ضعيفُ أو صحيح ؟ بل الحافظُ الواحدُ يتغيَّرُ اجتهادُه في الحديث الواحد ، فيوماً يَصِفُه بالصحة ، ويوماً يَصِفُه بالحُسْن ، ولربما استَضعَفَه . وهذا حقٌّ ، فإنَّ الحديثَ الحَسَنَ يَستضعفه الحافظُ عن أن يُرَقِّيَه إلى مرتبةُ الصحيح ، فبهذا الاعتبارِ فيه ضَعْفٌ مَّا ، إذْ الحَسَنُ لا ينفك عن ضَعْفٍ مَّا ، ولو انفَكَّ عن ذلك لصَحَّ باتفاق ، وربما كان صنيع الذهبي رحمه الله في نقده لحديث الطير وإنكاره على الحاكم تصحيحه ، ثم توقفه بعد ذلك في الحكم على الحديث (لما هاله كثرة طرقه) ، خير مثال لتغير الإجتهاد الذي أشار إليه الذهبي آنفا .

ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن التعاريف المتقدمة هي تعاريف اصطلاحية ، وضعها المتأخرون لحد الحسن ، وأما استعمال الحسن عند المتقدمين فقد أخذ صورا تختلف عن صور المتأخرين الإصطلاحية ومن أهم الأمثلة على استخدام المتقدمين للفظ الحسن :

استخدام ابراهيم النخعي  للفظ الحسن فقال  : (كانوا إذا اجتمعوا يكرهون أن يخرج أحدهم حسان حديثه) فاستخدمه  في هذا الموطن ليعبر عن الغرائب التي هي مظنة الكذب ، وهذا معنى مختلف تماما عن المعنى الإصطلاحي للحسن .

 

استخدام شعبة  لهذا اللفظ في وصف أحاديث عبد الملك بن أبي سليمان حيث قال  : (من حسنها فررت) وهذا استخدام مقارب لإستخدام إبراهيم  السابق  

 

وممن استخدم هذا اللفظ ، الشافعي  ، فوصف حديثا لمحمد بن يحيى بن حبان  عن واسع بن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما بأنه (حديث مسند حسن) ، وظاهر هذا اللفظ يوحي أن الشافعي  يحكم على الحديث بأنه صحيح وصالح للإحتجاج ، والله أعلم .

 

استخدام هذا اللفظ بمعنى حسن الإستدلال بالحديث في مسألة ما ، وقد ورد هذا في كلام أحمد  .

 

استخدامه بمعنى الحَسَن اللغويَّ لا الاصطلاحيَّ ، وهو إقبالُ النفوسِ وإصغاءُ الأسماعِ إلى حُسنِ مَتْنِه ، وجِزَالةِ لفظِه ، وما فيه من الثوابِ والخير ، فكثيرُ من المتون النبوية بهذه المثابة ، وقد اعترض ابنُ وهب  على هذا فقال : فعلى هذا يَلزمُ إطلاقُ الحَسَنِ على بعضَ  ( الموضوعات ) ولا قائل بهذا ، لأن الموضوعات تكون أحيانا جزلة اللفظ . وقد ذكر الذهبي  هذا القول في الموقظة . وممن استخدمه بهذا المعنى أبو موسى المديني  فقال عن حديث منع الأعمال الصالحة للعذاب عن العبد في القبر عند الطبراني  _وهو حديث ضعيف_(هذا حديث حسن) .

 

وقد استخدمه بعض الشافعية  بغير معناه الإصطلاحي فوصفوا بعض الروايات الصحيحة من الناحية الإصطلاحية بأنها حسنة .

 

استخدمه أبو حاتم  في ثلاثة مواضع في العلل فقال مرة في حديث : حسن وقال في آخر : حسن صحيح ، ولما سأله ابنه : حديث كذا محفوظ ؟ فقال  : قلت لك حسن ، فهذا استخدام مقارب للمعنى الإصطلاحي ، وهو دليل على أن أبا حاتم  يحتج بالحديث الحسن ، وفي هذا رد على السخاوي  عندما قال في فتح المغيث بأن أبا حاتم  كان ينكر وجود الحسن . (ذكر ذلك الحويني حفظه الله في محاضراته في شرح الموقظة) .

 

يطلق بعض العلماء لقب حسن الحديث على من غلبت على روايته الصحة ، ورغم ذلك فهو ليس بالحافظ الثبت المتقن الذي يحتج بحديثه ، فقد سئل أحمد عن راو فقال  : هو حسن الحديث فقيل له : أفهو حجة ؟ فقال : الحجة سفيان وشعبة .

 

وممن أكثر من استخدام لفظ الحسن ، ابن المديني  كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر  ، وقد نقل الحافظ ابن كثير  في مسند الفاروق رضي الله عنه هذا المصطلح كثيرا عن ابن المديني  وأخذه عنه يعقوب بن شيبة  ، فكثيرا ما يقول عن حديث بأنه حسن الإسناد ، والبخاري ، وعن البخاري أخذه الترمذي  وشهره بعد ذلك ، وقد حكم البخاري  في العلل الكبير للترمذي على 10 أحاديث بأنها حسنة منها 3 أو 4 أحاديث ذكرها في صحيحه (وسبق ذكر أمثلة على ذلك) ، وقد ذكر الشيخ عبد الله السعد حفظه الله ، أن ابن المديني والبخاري استخدما الحسن بمعنى أن الحديث غريب وذكر أنه من خلال استقراءه لصنيعهما ، وجد  10 _ 15 حكما لهما يندرج تحت كلامه السابق ، ولكنه حفظه الله لم يجزم بهذا لأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإستقراء .

 

استخدام البغوي  : وهو استخدام خاص به في كتابيه (المصابيح وشرح السنة) :

وبداية لابد من شرح منهج البغوي  في كتابيه السابقين والحديث فيهما ينقسم إلى ثلاثة أقسام (حسب اصطلاحه) :

ما كان في الصحيحين فهو صحيح .

ما كان في السنن فهو حسن

ما كان خارج كتب الأصول (الكتب الستة) فهو ضعيف 

نقد تقسيم البغوي  :

بالنسبة للقسم الأول ، فلا إشكال فيه لأن كل أحاديث الصحيحين أحاديث صحيحة .

بالنسبة للقسم الثاني ، ففيه اشكال كبير ، لأن كتب السنن تحوي الصحيح والحسن والضعيف بل والموضوع أيضا ، وقد ذكر العراقي   أن البعض أجاب عن هذا الإشكال بقوله إن البغوي  يورد حكم كل حديث عقب ذكره ، واعترض العراقي  على هذا الرد وقال بأن البغوي  ، لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من السنن ، وإنما يسكت عليها ، وإنما يبين الغريب غالبا ، وقد يبين الضعيف ، وقد أشار البغوي  إلى ذلك في خطبة كتابه لما قال : وما كان فيها من ضعيف غريب أشرت إليه ، فخرج بذلك الضعيف ، وبقي الصحيح والحسن دون تمييز ، وكأنه كما قال الشيخ أحمد شاكر  سكت عن بيان ذلك (أي الصحيح من الحسن) لإشتراكهما في الإحتجاج بهما . الباعث الحثيث ص60 و 61 بتصرف .

بالنسبة للقسم الثالث ، ففيه إشكال أيضا لأنه ربما وجد حديث خارج الكتب الستة ، ومع ذلك فهو حديث صحيح أو حسن ، على الرغم من أن الكتب الستة قد استوعبت الكثير من الصحيح والحسن ، والله أعلم ، وقد اعتذر الحافظ ابن حجر عن البغوي ، بأن تقسيمه هذا تقسيم إجمالي ، ولكن من حيث التفصيل ، كثيرا ما يصف أحاديث ذكرها في قسم الحسن ، بأنها صحيحة أو ضعيفة .

 

ومن استخدامات الحسن ، استخدامه كرتبة من رتب الصحيح ، وهذا صنيع ابن خزيمة وتلميذه ابن حبان ، فكثير من الأحاديث التي حكما عليها بالصحة ، هي حسنة عند غيرهما .

 

وقد استخدم الحافظ لفظ الحسن في نتائج الأفكار لوصف الحديث الذي فيه مدلس لم يصرح بالتحديث .

 

وقد تكلم الشيخ السعد حفظه الله بعد ذلك على شروط تقوية الحديث لما لذلك من علاقة وثيقة بتعريف الحسن لغيره الإصطلاحي ، فذكر أنها تنقسم إلى قسمين :

أولا : الشروط التي تتعلق بالمتن :

أن يكون المتن مستقيما .

أن يكون الشاهد الذي يقوي المتن ، إما بلفظ الحديث أو بنحوه (بمعنى أكثر ألفاظه) بحيث يغلب على الظن أن كلا الراويين قد سمع هذا الحديث ، وقد أكد الشيخ السعد حفظه الله على هذا الأمر ، وذكر أن بعض العلماء قد توسع في الإستشهاد للحديث الضعيف فاستشهد له بالمعنى (ومن المعلوم أن الإستشهاد بالمعنى لا يكفي للجزم بنسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويستفاد من هذا الإستشهاد تقوية المعنى فقط لا الجزم بنسبة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد يشهد القرآن أو السنة النبوية لمعنى الحديث دون لفظه) . وممن يدل لفظه على ذلك الترمذي في جامعه ، فهو يقول في بعض أحكامه على الأحاديث (ويروى من غير وجه) ، فهو يقصد أن المعنى قد روي من غير وجه لا اللفظ .

ومن الجدير بالذكر أنه يشترط لتقوية لفظ ما ، ألا يكون له أصل صحيح حتى لايحكم عليه بالشذوذ .

وتوسع البعض الآخر في تقوية الحديث بالإستشهاد لكل لفظ من ألفاظه ، وهذا منهج السيوطي  في الرد على ابن الجوزي  في الموضوعات .

ثم ذكر الشيخ حفظه الله مثالين للتقوية المقبولة :

المثال الأول :

ما رواه الترمذي في الجامع والحاكم في المستدرك وابن عدي في الكامل وأبو نعيم في أخبار أصبهان والبيهقي في الدلائل من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن ابن المنكدر عن جابر قال : "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : مالي أراكم سكوتا ؟! للجن كانوا أحسن منكم ردا ، ما قرأت عليهم من مرة (فبأي الآء ربكما تكذبان) إلا قالوا : ولا بشيئ من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد" وهذا الحديث اختلف فيه العلماء ما بين مصحح ومضعف فقواه من المعاصرين : الشيخ عبد الله السعد حفظه الله بمجموع طريقيه (طريق الوليد بن مسلم  وطريق محمد بن مروان  "وكلاهما شامي") وقال حفظه الله بأن الطريق الثاني رغم ضعفه إلا أنه جاء بنفس ألفاظ الطريق الأول وعلى هذا فهو يصلح لتقوية الطريق الأول وذلك طبقا للقاعدة التي ذكرها الشيخ حفظه الله في شرح الموقظة وهي أنه لكي يصلح الطريق الثاني لتقوية الطريق الأول لابد أن يشتركا في كل أو أكثر ألفاظهما . وأما الشيخ مشهور بن سلمان حفظه الله فقد قال في كتابه "القول المبين في أخطاء المصلين" : "إسناده ضعيف فيه تدليس الوليد بن مسلم  ، وزهير بن محمد وإن كان صدوقا فإن أهل الشام إن رووا عنه ، تكثر المناكير في روايته ، والوليد شامي . نعم ، لم يتفرد به ، فقد تابع الوليد بن مسلم مروان بن محمد  كما عند البيهقي  في الدلائل (2/232) ، إلا أنه شامي فبقيت العلة الثانية" القول المبين ص239 دار ابن القيم ، دار ابن عفان .

 

المثال الثاني :

حديث رمية الليل حيث ورد هذا الحديث من ثلاثة طرق ، (مرسل أبي سلمة  ومرسل عطاء  وورد مسندا من طريق ضعيف) ، فهذه الطرق تكفي بلا شك لتقوية الحديث والإحتجاج به .

 

ثانيا : الشروط المتعلقة بالإسناد :

ألا يكون الإسناد شديد الضعف ، فإن كان الضعف قابلا للزوال ، كأن يكون تدليسا أو إرسالا أو انقطاعا ، أو وصفا لراو في سند الحديث بالضعف غير الشديد أو سوء الحفظ (بشرط ألا يكون سوء الحفظ شديدا) ، فلا إشكال حينئذ .

وقد ذكر الحافظ رحمه الله ضابط ذلك ، فقال : والتحرير فيه أن يقال : إنه يرجع إلى الإحتمال في طرفي القبول والرد ، فحيث يستوي الإحتمال فيهما فهو الذي يصلح لأن ينجبر ، وحيث يقوى جانب الرد فهو الذي لا ينجبر .

والجابر إما أن يكون متابعا يقوي السند ، أو شاهدا يقوي المتن ، وقد تقدم ذكره في الشروط المتعلقة بالمتن ، ويحسن بنا هنا أن نتكلم بإيجاز على المتابع :

فالمتابعة : هي أن يشارك الراوي غيره في رواية الحديث لفظا ومعنى ، أو معنى فقط مع اتحاد الصحابي ، وهي إما :

تامة : وهي : أن تحصل المشاركة للراوي من أول الإسناد .

قاصرة : وهي : أن تحصل المشاركة للراوي في أثناء السند ، وقد تكلم الحافظ رحمه الله عن درجات المتابع ، فقال بأنه لا يخلو من 3 أحوال :

إما أن يكون دونه ، وهو في هذه الحالة لا يرقيه عن درجته .

وإما أن يكون مثله .

وإما أن يكون فوقه .

وقد زاد الدكتور ماهر منصور في تحفة المستفيد الأمر وضوحا فقال بأن : الحسن يرتقي إلى الصحيح لغيره بمتابع مثله (كأن يكون المتابع صدوقا) ، أو أعلى منه (كأن يكون المتابع ثقة) ، والضعيف ضعفا محتملا يرتقي إلى الحسن لغيره ، بمتابع مثله (كأن يكون المتابع ضعيفا ضعفا محتملا) ، أو أعلى منه (كأن يكون المتابع صدوقا أو ثقة) ، فمثلا :

لو أن حديثا رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فإن إسناده يكون صحيحا ، فلو روى الترمذي رحمه الله نفس الحديث ، بإسناد حسن ، بمعنى أن يكون في الإسناد راو خف ضبطه ، فللحديث ثلاثة أحكام :

إما أن يكون صحيحا باعتبار أن البخاري رحمه الله رواه في صحيحه ، ورجاله كلهم ثقات .

وإما أن يكون حسنا ، باعتبار أن الترمذي رحمه الله رواه بإسناد فيه راو خف ضبطه .

وإما أن يحكم على الحديث بمجموع الطريقين ، فيحكم على إسناد الترمذي بأنه صحيح لغيره ، وذلك باعتبار أن طريق الترمذي الحسن قد توبع بأعلى منه ، وهو طريق البخاري .

فإن لم يكن الحديث قد روى بإسناد صحيح ، كأن يرويه أبوداود رحمه الله ، على سبيل المثال ، من طريق حسن ، غير طريق الترمذي ، فإن هذا الطريق يكون مساويا له (أي في خفة الضبط) ويرقي كل طريق الطريق الأخرى إلى الصحيح لغيره .

وكذا إذا روى الترمذي حديثا بإسناد ضعيف ، لضعف أحد رواته ، وكان هذا الضعف محتملا ، وتوبع هذا الراوي في إسناد آخر عند أبي داود ، على سبيل المثال ، فإن هذا الحديث يرتقي من درجة الضعيف إلى درجة الحسن لغيره في 3 حالات :

إذا كان الراوي المتابع ثقة (أي أعلى منه) .

إذا كان الراوي المتابع صدوقا (أي أعلى منه أيضا) .

إذا كان الراوي المتابع ضعيفا ضعفا محتملا (أي مثله) ، وأما إن كان ضعفه غير محتمل ، فإنه لا يصلح للتقوية ، كما سبق ذكر ذلك .

وأما إن كان في إسناد الحديث متهم بالكذب على سبيل المثال ، فهذا ضعف لا يزول بالمتابعة ، وممن أشار إلى ذلك ، الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث بقوله : (وبذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين ، في إطلاقهم أن الحديث الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح . فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب ، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع : ازداد ضعفا على ضعف ، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرهم : يرفع الثقة بحديثهم ، ويؤيد ضعف روايتهم . وهذا واضح) .

ويشترط أيضا ألا يكون الخبر شاذا لأن الحكم بشذوذ الحديث هو جزم بوهم اللفظ ، وعلى هذا لا يمكن أن يتقوى أو يتقوى به . وضرب الشيخ السعد حفظه الله ثلاثة أمثلة لهذا النوع من الأحاديث التي لا تتقوى بتعدد الطرق :

 

المثال الأول :

حديث البسملة في بداية الوضوء حيث جاءت من عدة طرق عن أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم ورجح الشيخ حفظه الله أن كل هذه الطرق شديدة الضعف لا تصلح للمتابعة وقد ضعفها أحمد  ، وقد ذكر ابن حجر أنه قد وردت أحاديث لا يخلو كل منها من ضعف ، لكنه قال : والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا . وقد روى حديث أبي هريرة : (لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه) أبوداود  (101) وابن ماجة (399) .

المثال الثاني :

حديث مسح الوجه بعد الإنتهاء من الدعاء لأنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد رفع يديه عند الدعاء في مواطن متعددة ولم يذكر فيها مسح الوجه وقد جاء عند أصحاب السنن وعند الطبراني  في كتاب الدعاء من طريق أبي عثمان النهدي  عن سلمان رضي الله عنه : (إن الله ليستحي من عبده إذا رفع يديه …… الحديث) ، وقد جاء مرفوعا وموقوفا والراجح الوقف ومما يزيد ضعف أحاديث المسح أن المسح لم يرد مقرونا بالرفع في الأحاديث التي ورد فيها الرفع . وقد ذكر الشيخ محمد بن عثيمين  حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند الترمذي  : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه ، وذلك في معرض تمثيله للحديث الحسن لغيره ونقل قول صاحب بلوغ المرام : وله شواهد عند أبي داود وغيره ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن . (مصطلح الحديث ص7 مكتبة العلم) .

المثال الثالث :

أحاديث تخليل اللحية ، حيث أكد الشيخ حفظه الله أن أصح ما ورد في وضوءه صلى الله عليه وسلم (أحاديث عثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم) لم يرد فيها تخليل اللحية  ، ونبه الشيخ حفظه الله إلى أن تخليل اللحية قد ورد من بعض طرق حديث عثمان رضي الله عنه ، ولكنه حكم على هذه الزيادة بأنها باطلة . وجدير بالذكر أن بعض العلماء المعاصرين قد صحح بعض الطرق المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية ومنهم الشيخ عادل بن يوسف العزازي حفظه الله حيث ذكر في كتابه (تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة) حديثين مرفوعين وهما :

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه ، فخلل به لحيته وقال : (هكذا أمرني ربي عز وجل) ، وذكر أن إسناده صحيح : رواه أبو داود   (145) حسن بشواهده (430) .

حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته . وذكر أنه حسن بشواهده : رواه ابن ماجة  (430) ، والترمذي (31) وصححه . تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة ، كتاب الطهارة ، ص74 مؤسسة قرطبة .

 

وهناك مثال رابع ذكره الشيخ السعد حفظه الله في موطن آخر (في محاضراته في الجرح والتعديل) وهو : 

حديث الترمذي من طريق زهير بن محمد  من رواية الشاميين في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم تسليمة واحدة وهذا الحديث جاء من غير وجه عن الصحابة (عائشة وأنس وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع وسمرة بن جندب رضي الله عنهم)  وكلها لا تصح وقد ضعفها العقيلي والدارقطني وابن عبد البر وابن المديني وهناك من قواها من المتأخرين بمجموع الطرق ، (تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة ، كتاب الصلاة ، (1/180)  مؤسسة قرطبة ، وقد حكم الشيخ عادل بن يوسف العزازي حفظه الله على الحديث بأنه حسن لغيره) ، وقد ثبتت هذه التسليمة موقوفة على الصحابة كعائشة وأنس ونقل ابن المنذر   اجماع أهل العلم على إجزاء التسليمة الواحدة ونقل ابن رجب  اجماع الصحابة وقد وقع الخلاف بين أهل العلم على إجزاء هذه التسليمة ولم يقع بين الصحابة هذا الخلاف .

من الجدير بالذكر أيضا في هذا الموضع أن مناهج العلماء في تقوية الحديث بالشواهد هي :

المذهب المتشدد : وهو مذهب ابن حزم  ، حيث يرى أن الحديث لا يتقوى أبدا مهما تعددت طرقه .

المذهب المتساهل : وهو مذهب السيوطي  ، حيث يرى أن الحديث يتقوى بتعدد الطرق وإن كانت واهية أو شاذة أو شديدة الضعف .

المذهب الوسط : وهو مذهب الجمهور من المتقدمين ، وهو التقوية بضوابط ، حيث يجب أن تكون هذه الطرق المقوية صالحة للإعتبار ، ومما يدل على ذلك من صنيع المتقدمين  ، قول أحمد  : (حديث أبي لهيعة  أكتبه للإعتضاد) ، فعلى سبيل المثال : حديث ابن لهيعة ضعيف ولكنه صالح للإعتبار وكذا حديث شريك بن عبد الله  فإذا جاء حديث من طريق أحدهما وعضده حديث من طريق الآخر فإنه يتقوى ويصل لدرجة الحسن لغيره ويحتج به .

 

الإحتجاج بالحسن :

الحديث الحسن يحتج به عموما ، إلا إذا عارضه ما هو أقوى منه ، والشيخ السعد حفظه الله نبه على أنه لا يحتج بالحسن إطلاقا إلا بعد التأكد من مقصود المصنف من إطلاقه لفظ الحسن (هل يعني به الحسن الإصطلاحي أم يعني به اصطلاحا خاصا به ؟) ، ويضرب المثل ببعض أحكام الترمذي في جامعه حيث يحكم على الحديث بالحسن ومع ذلك يطعن في سنده كقوله في حديث خيثمة البصري عن الحسن عن عمران رضي الله عنه : (حديث حسن وإسناده ليس بذاك) ، ولما سئل أبو حاتم  عن راو قال : هو حسن الحديث ، فقيل له : أيحتج به ؟ ، قال : لا .

فخلاصة الأمر أن الضابط هو مقصود الأئمة ، وأن الحسن الذي يحتج به هو الحسن الإصطلاحي (سواءا كان لذاته أو لغيره) ، ويلفت الشيخ حفظه الله النظر إلى أن الحسن لغيره لا يحتج به أحيانا في العقائد (لأن العقائد توقيفية لفظا ومعنى) ، خلاف أحاديث الأحكام ، فهناك معان صحيحة ولكن لا تستخدم بألفاظها ، لأن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب أو السنة ، (وأما إذا اتفق المتنان تماما في الحسن لغيره إذا كان من أحاديث العقائد فلا إشكال في الإحتجاج به) .

ثم عمد الشيخ حفظه الله إلى التعليق على الأسانيد التي ذكرها الحافظ الذهبي  كأمثلة لأسانيد الحديث الحسن وهي :

بَهْزُ بن حَكيم   ، عن أبيه ، عن جَدَّه ، وهي من أعلى أسانيد الحسن كما يظهر من صنيع الذهبي حيث جعلها المثال الأول للحسن عنده ، وعدد أحاديث هذه السلسلة في الكتب الستة ، 19 حديثا ، علق البخاري  أحدها ، ويقول الشيخ حفظه الله بأنها كلها مستقيمة .

عَمْرو بن شُعَيب   ، عن أبيه ، عن جَدَّه ، وهي سلسلة يغلب على أحاديثها الإستقامة ، وقد خرج في الكتب الستة لهذه السلسلة 170 – 180 حديثا والغالب على أحاديثها الإستقامة ، وقد اختلف العلماء في هذه السلسلة ، تبعا لإختلافهم في سماع عمرو بن شعيب  من  جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، واختلافهم في المقصود من (جده) ، هل هو جده المباشر محمد بن عبد الله بن عمرو  أم جد أبيه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وممن تكلم في هذه المسألة :

الدارقطني  : حيث فرق بين أن يفصح بجده أنه (عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما) ، فيحتج به ، أو لا يفصح فلا يحتج به وكذا إن قال (عن أبيه عن جده سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، أو نحو ذلك ، لأنه لا جدال في أن المقصود هنا هو الصحابي .

ابن حبان  : حيث اشترط استيعاب عمرو بن شعيب  ذكر آبائه في الرواية حتى يحتج بالحديث ، لكي نتأكد من أن المقصود بـ (جده) : عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وأخرج في صحيحه حديثا واحا من هذا النوع الذي التزم شرطه ، وهو حديث عمرو بن شعيب  عن أبيه عن محمد بن عبدالله  عن أبيه مرفوعا : (ألا أحدثكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا …..) الحديث ، وقد اعترض العلائي  على هذا بأن الروايات التي استوعب فيها عمرو بن شعيب  ذكر آبائه روايات نادرة ، وحجة ابن حبان  أن عمرو بن شعيب  إن أراد جده المباشر محمد ، فمحمد  لا صحبة له ، فيكون الحديث مرسلا ، وإن أراد جد أبيه ، عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، فأبوه شعيب  لم يلق جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، ويعترض الذهبي  في الميزان على هذا الرأي ، ويؤكد أن شعيبا قد لقي جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، بل وتربى في حجره بعد وفاة أبيه محمد بن عبد الله  ، بل وسمع شعيب   ممن تقدمت وفاتهم على وفاة جده عبد الله رضي الله عنه ، فدل ذلك على إتصال هذا السند .

البخاري  : أكد على صحة الإحتجاج بهذه السلسلة ، واستشهد بإحتجاج كبار الأئمة كأحمد وابن المديني وإسحاق وأبي عبيد القاسم بن سلام  بها ، حتى شبهها إسحاق  بسلسلة أيوب  عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا صح السند إليها ، وهذا اختيار شيخ الإسلام  ، ولعل هذا ما جعل الشيخ أحمد شاكر  يرجح هذه السلسلة على سلسلة بهز  ، لأن البخاري  نص عل صحتها ، ولم يفعل ذلك مع سلسلة بهز ، واستشهد البخاري بكليهما تعليقا ، فرجحت سلسلة عمرو بن شعيب  بالنص على صحتها ، الباعث الحثيث ص285_287 ، وجدير بالذكر أن الحاكم والترمذي وابن خزيمة  يصححون أحاديث هذه السلسلة .

ابن معين  : نقل الحافظ رأيه في هذه السلسلة في ترجمة عمرو بن شعيب في تهذيب التهذيب ، حيث قال  : هو ثقة في نفسه وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه وليس بمتصل وهو ضعيف من قبيل أنه مرسل ، وجد شعيب  كتبا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فكان يرويها عن جده أرسالا وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، غير أنه لم يسمعها ، وقد رد الحافظ الذهبي  هذا الرأي ، كما تقدم ، وأثبت سماع شعيب  من جده ، وعلى افتراض عدم سماعه كل ما يرويه عن جده ، فلا إشكال في روايته عن جده ، كما أكد على ذلك الحافظ  في تعليقه على رأي ابن معين  ، حيث قال : فإذا شهد له ابن معين  أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها وصح سماعه لبعضها ، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة وهو أحد وجوه التحمل . اهـ ، فكأن هذه الوجادة قد رفعت هذا المرسل إلى مرتبة الإحتجاج ، كما كان الشافعي وأحمد  يقويان المرسل بأمور ذكراها ، منها فتوى الصحابي ومرسل تابعي كبير ، إذا اختلف المخرجان ، … الخ ، كما نبه إلى ذلك الألباني  .

الترمذي  : تكلم الترمذي  في جامعه على هذه السلسلة ، فقال  : ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب  إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده ، كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده ولكن أكثر المحدثين يحتجون بأحاديث عمرو بن شعيب  ، ونقل الترمذي  عن البخاري  ، احتجاج عامة أهل العلم بحديث عمرو بن شعيب  .               

 

محمد بن عَمْرو    ، عن أبي سَلَمة   ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، ويقول الشيخ حفظه الله بأن هذه السلسلة أقوى من السلسلة السابقة ، وقد علق البخاري  حديثين من أحاديث هذه السلسلة ، وأخرج مسلم  حديثا منها ، وصحح الترمذي  أحاديث منها ، ولها 123 حديثا في الكتب الستة . وقد ساق الحافظ  آراء النقاد في محمد بن عمرو  في ترجمته في التهذيب فتبين من كلام النقاد كحيى القطان و يحيى بن معين و الجوزجاني و ابن عدي وابن حبان وابن سعد والعقيلي  أن سبب نزول هذه السلسلة عن درجة الصحيح هو خفة ضبط محمد بن عمرو  وقد روى عنه مالك في الموطأ ، وروى له البخاري مقرونا بغيره ومسلم في المتابعات ، وممن أيد ذلك من المتأخرين ابن الصلاح  (راجع ص5 ) ، وقد علق البخاري  حديثين من طريق هذه السلسلة وأخرج مسلم حديثا من طريقها وصحح الترمذي  أحاديث لهذه السلسلة .

ابنُ إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي ، عن شيوخ إبراهيم  ، كأبي سلمة بن عبد الرحمن وزيد بن خالد الجهني  ، وابن اسحاق  ، وقد قال عنه الحافظ  في طبقات المدلسين : صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما ، وخلاصة القول فيه أنه  ، حسن الحديث إن صرح بالسماع ، وقد اختلفت فيه عبارة الذهبي  فقال مرة : إنه (صالح الحديث) ، وقال مرة : (حسن الحديث) ، وقال أخرى : (صالح الحال) ، وقال: (صدوق ، وما انفرد به ففيه نكارة) ، ثم ذكره مرةً أخرى في ترجمة هشام بن حسان فقال: والجمهور على أنه لا يحتج به ، ويرى الشيخ مقبل  أن ابن إسحاق   إذا صرح بالتحديث ولم يكن حديثه منكرًا ، فيقبل ويحسّن حديثه ، وإذا تفرّد بحديث ظاهره النكارة مثل: إثبات صفة الأطيط للعرش ، فهذا من طريق ابن إسحاق ، والحافظ البيهقي والحافظ الذهبي كلاهما يقدح في الحديث ويقولون: إن ابن إسحاق ليس بعمدة في أحاديث الأحكام ، فضلاً عن أحاديث الأسماء ، وأما محمد بن ابراهيم التيمي  ، فالشيخ حفظه الله رجح أنه ثقة ثبت ، وجدير بالذكر أن العقيلي  قد ذكره في الضعفاء (1574) .  

ثم ذكر الحافظ الذهبي   بعدِ ذلك أمثلةُ كثيرة يُتَنازَعُ فيها ، بعضُهم يُحسَّنونها ، وآخَرُون يُضعِّفونها ، كحديث الحارثِ بن عبدالله ، وعاصم بن ضَمْرة ، وحَجَّاج بن أَرْطَاة ، وخُصَيْف ، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح ، وخلقٍ سِواهم .  

 

 

وعلق الشيخ حفظه الله على هذه الأمثلة كالتالي :

الحارث الأعور : هناك من يحسن حديثه والصحيح أنه ضعيف لا يحتج به و قد روى منكرات عن علي رضي الله عنه  كحديث صفة القرآن . وقد ذكره العقيلي  في الضعفاء (257) .

 

عاصم بن ضمرة : صدوق ونقل الشيخ حفظه الله أن العجلي وابن المديني وابن سعد  قد حسنوا من شأنه ، وقال النسائي  : ليس به بأس ونقل العقيلي  في ترجمة الحارث الأعور في الضعفاء (257) قول يحيى بن سعيد القطان   عن سفيان  : كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث ، بينما تكلم فيه الجوزجاني وابن عدي وابن حبان  ، وقد استنكرت عليه أحاديث ، منها أنه صلى الله عليه وسلم جعل في 25 من الإبل 5 من الغنم .

 

حجاج بن أرطأة : فيه ضعف يزول بالمتابعة فقد تكلم فيه النسائي  ووصفه بالتدليس عن الضعفاء ، وتكلم في حفظه ، و قد أخرج له مسلم مقرونا ، فضعفه على سبيل المثال يزول بمتابعة ابن لهيعة  وأمثاله ممن يصلح حديثهم للإعتبار ، وكثيرا ما يخالف فيصل المرسل ، وقد قواه البعض .

خصيف : الراجح أن فيه ضعف ، وممن ضعفه ، أحمد  حيث قال عنه : (ليس بحجة ، ولا قوي الحديث) وقال عنه : (خصيف شديد الاضطراب في المسند) ، وقال عنه أبو حاتم  : (صالح ، يخلط ، وتكلم في سوء حفظه)  ونقل العقيلي  في الضعفاء في ترجمة خصيف (453) أنه  كان متمكنا في الإرجاء ، وقد وثقه جماعة كابن معين ، وأبي زرعة  ، ومما استنكر عليه ، حديث سعيد بن جبير  عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد صلاة الفريضة ، والصحيح ما رواه البخاري  أنه صلى الله عليه وسلم لبى بالحج عندما وضع رجله في الغرز وقامت به دابته .

دَرَّاجٍ أبي السَّمْح : يرجح الشيخ حفظه الله أن دراج لا يحتج به ، سواءا عن أبي الهيثم أو غيره ، وقد قال عنه الحافظ  في التقريب : صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف ، وقال الذهبي  : دراج كثير المناكير ، وقد ساق له ابن عدي  جملة من الأحاديث ، وفيها ما يستنكر (في مسند أبي يعلى في مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ) ومنها حديث : (أكثروا من ذكر الله حتى يقال مجنون)  ،  وحديث : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ، فاشهدوا له بالإيمان) ، فالخلاصة أن حديثه لا يحتج به ويكتب للمتابعة .

 

مظان الحديث الحسن :

جامع الترمذي  ، وقد سبق الكلام عليه بالتفصيل .

سنن أبي داود  ، وقد سبق الكلام عليها بالتفصيل ، وقد نبه الشيخ طارق عوض الله حفظه الله إلى أن بعض العلماء فسر قول أبي داود   في رسالته لأهل مكة : ذكرت الصحيح وما يقاربه وما يشابهه ، بأن (ما يشابهه هو الحسن) .

سنن الدارقطني  : وقد نبه الشيخ طارق عوض الله حفظه الله في شرحه لألفية السيوطي  إلى أن الحسن يعرف مقصود أهل العلم بإطلاقه بمعرفة مقصود المؤلف من كتابه ، فإن كان مقصود المؤلف تخريج الأحاديث المعمول بها (كما هو حال الترمذي ) ، فإن الحسن فيه هو الحسن الإصطلاحي الذي يحتج به ، وأما إن كان مقصوده تخريج الغرائب والمنكرات ، فإن الحسن فيه هو الغريب أو المنكر ، كما هو حال الدارقطني  في سننه ، فأصل موضوعها الغرائب ، لأنه يعمد إلى الأحاديث المرتبة على الأبواب الفقهية في كتب الأصول ، فيرويها من طرق غريبة لم تشتهر ، وهذا يشبه صنيع ابن ماجة  ، كما نبه إلى ذلك أبو الحسن السندي  بقوله : وكأن المصنف  (أي ابن ماجة) ، تبع معاذا (أي معاذ بن جبل رضي الله عنه) في ذلك ، (حيث أن معاذ رضي الله عنه كان يتحدث بما لم يسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسكت عما سمعوا) ، حيث أخرج من المتون في كثير من الأبواب ما ليس في الكتب الخمسة المشهورة ، وإن كانت ضعيفة ، وفي الباب أحاديث صحيحة أخرجها أصحاب تلك الكتب في كتبهم ، ونبه حفظه الله أيضا إلى أن الحسن في كتب الرجال ، كالكامل لإبن عدي  ، وكتب العلل والتواريخ يقصد به غالبا الغريب .

 

مسألة : بعد الإنتهاء من بيان الحديث المقبول بنوع من التفصيل ، ولله الحمد ، بقيت مسألة مهمة جدا ، وهي حكم حديث الآحاد من حيث العلم والعمل ؟

قرر الحافظ ابن حجر  في شرح النخبة ، مذهب متأخري أهل الحديث والفقهاء ، من أن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت ، وقد أشار الشيخ مقبل رحمه الله إلى أن تقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر تقسيم مبتدع ، وأول من قال به هو عبدالرحمن بن كيسان الأصم ، وتبعه على ذلك تلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم الشهير بابن علية ، وهو الإبن لا الأب ، وأما ما جاء عن الشافعي أنه استعمل في "الرسالة" متواترًا فلعله أخذها عن أهل الكلام ، وفصل الشيخ عمرو بن عبد المنعم حفظه الله في تعليقه على شرح النخبة ، مذهب متقدمي أهل الحديث ، وأهل السنة والجماعة ، من أن حديث الواحد الصحيح الإسناد بنقل العدل الضابط عن مثله ، إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة يفيد العلم والعمل جميعا ، أي أنه قطعي الثبوت مثله مثل الحديث المتواتر .

ونقل ابن عبد البر  في التمهيد (1/8) هذا القول عن قوم كثير من أهل الأثر ، وبعض أهل النظر ، منهم الحسين الكرابيسي  وغيره ، وذكر ابن خويز منداد  أن هذا القول يخرج (من التخريج) على مذهب مالك  ، وهذا أمر بدهي ، فمالك  يحتج بالمرسل ، فكيف بالمتصل إذا صح سنده ؟ ، وإليه ذهب ابن حزم  ، وبه أخذ ، حيث قال  : إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا ، واستدل لذلك بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ، وقوله تعالى : {إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا} ، وعلى هذا يكون الظن مذموما ، وقد علق الصنعاني على هذا بقوله : إنه يفيد الظن ، واستدل بحديث ((لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ)) وليس كل الظن ممقوتًا ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ((إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب)) ، أي: مبناها على التحري (أي على غالب الظن) ، وهي من أشرف العبادات ، ويقول أيضًا في شأن بيان العمل بالظن: ((إنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئًا ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)) ، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يحكم بغير العلم ، ويحكم بالظن ، ويجوز أن يكون في حكمه مصيبًا وأن يكون مخطئًا ، وأضاف الشيخ مقبل رحمه الله قيدا مهما لرأي ابن حزم ، فقال : الصحيح أن الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب قبوله ، ونقول يجب قبوله ولا نقول : يجب العمل به ، لأن العمل قد يكون واجبًا ، وقد يكون محرمًا وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًّا، وقد يكون مباحًا ، ونقل ابن حزم هذا الرأي عن داود الظاهري والحارث بن أسد المحاسبي ، كما في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) ، ويعلق الشيخ الدكتور أبو الفضل عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم حفظه الله ، على رأي ابن حزم ، في بحثه "التجديد والمجددون في أصول الفقه" ، هامش ص122 ، بقوله : من يراجع أدلة ابن حزم في أن خبر الآحاد يفيد القطع واليقين يجد أنه لا يخالف في إثبات أنه من حيث الواقع ظني في نفسه ، ولكنه يرى أنه قطعي باعتبار أن الله قد ضمن حفظ دينه ، فالخطأ منفي بقدر الله عن الأخبار الشرعية بخاصة ، وإن كان واردا فيما سواها ، (راجع الإحكام ، 1/121) . ونقل الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث ، اختيار ابن الصلاح  للقطع بصحة ما أخرجه الشيخان  في صحيحيهما أو خرجه أحدهما ، والعلم اليقيني النظري واقع به ، لأن الأمة تلقت أحاديث الكتابين بالقبول ، فلو افترضنا ظنية أحاديث الكتابين ، فإن ظن الأمة بكاملها المتمثل في قبول أحاديثهما ظن معصوم ، لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، وعليه فإن هذا الإجماع يرفع منزلة أحاديثهما من الظنية إلى القطعية ، لأن هذه الآراء التي تلقتهما بالقبول ، إذا فصلت عن بعضها البعض ، فهي ظنية بلا شك ، ولكن حصل لها من القوة بإجتماعها ما ليس لها حال الإفتراق ، ويؤكد الشاطبي رحمه الله في "الموافقات" على هذا المعنى بقوله : "لأنها "أي الجزئيات الظنية" تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع ، فإن للإجتماع من القوة ما ليس للإفتراق ، ولأجله أفاد التواتر القطع" ، الموافقات (1/37) نقلا عن التجديد والمجددون في أصول الفقه ص256 ، وقال في موضع آخر : "وإذا تكاثرت الأدلة على الناظر عضد بعضها ببعض فصارت بمجموعها مفيدة للقطع" ، الموافقات (1/37) نقلا عن التجديد والمجددون في أصول الفقه ص257 . 

واستثنى من ذلك أحاديث قليلة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ ، كالدارقطني  وغيره ، وهي معروفة عند أهل عذا الشأن ، وليس معنى ذلك أنها غير صحيحة ، وإنما غاية ما هنالك أن اجماع الحفاظ قد فاتها ، ثم نقل الشيخ أحمد  ، عن العراقي ، هذا القول عن عدد من فقهاء المذاهب ، وأكثر أهل الكلام من الأشاعرة ، وابن كثير ، والحافظ ابن حجر  ، ولكن يبدو ، والله أعلم ، أن هذا يخالف ما سبق نقله من شرح النخبة آنفا ، وبعد ذكر هذه الأقوال ، رجح الشيخ أحمد  ، ما ذهب إليه أصحاب هذا القول (أي قطعية الثبوت) .   

ومن أبرز من تكلم في هذه المسألة :

البخاري  ، حيث أفرد لهذه المسألة بابا من أبواب صحيحه ، فقال : باب : ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الآذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام ، وأورد في هذا الباب أخبارا تدل على ما ترجم له .

والشافعي  في الرسالة ، حيث قال  : الحجة في تثبيت خبر الواحد ، ثم ساق الأدلة على ذلك ، فلا حجة بعد ذلك فيما نقله ابن عبد البر  من أن الشافعي  يذهب إلى إثبات العلم دون العمل بأحاديث الآحاد ، (ويبدو أن الأصوب هو إثبات العمل دون العلم ، ولا أدري أوهمت في نقل قول ابن عبد البر رحمه الله أم نقلته صحيحا) .

وأشار أبو المظفر السمعاني  إلى أن القول بأن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم أو العمل قول محدث لا أصل له ، فهو من بدع الجهمية والمعتزلة لرد أحاديث الصفات التي تخالف مذهبهم المنحرف في نفي صفات الباري عز وجل ، ومعظمها أخبار آحاد  ، فقال  : وهذا رأس شغب المبتدعة في رد الأخبار ، وطلب الدليل من النظر والإعتبار ، وقال في موضع آخر : وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ، ولا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به ، شيء اخترعته القدرية والمعتزلة ، وكان قصدهم منه رد الأخبار ، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم علم في العلم وقدم ثابت ، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول ، ولو أنصف الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم ، فإنهم تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد ، ونبه  إلى خطورة هذا القول ، لأنه في النهاية يؤدي إلى جرح الصحابة رضي الله عنهم ، الذين هم نقلة هذه الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما حدث فعلا من بعض رؤوس البدع ، كعمرو بن عبيد الذي كان يشتم الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قال  : فإذا قلنا : أن خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم ، حملنا أمر الأمة في نقل الأخبار على الخطأ ، وجعلناهم لاغين ، مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ، ولا ينفعه ، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور ما لا يجوز الرجوع إليه والإعتماد عليه ، وربما يرتقي هذا القول إلى أمر أعظم من هذا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه ، ليؤدوه إلى الأمة ، ونقلوا عنه ، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد ، رجع هذا العيب إلى المؤدي ، نعوذ بالله من هذا القول الشنيع ، والإعتقاد القبيح .

 

مسألة : ما الفرق بين وسم الحديث بالصحة ووسمه بأنه صحيح في نفس الأمر (أي الجزم بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) :

وهذه المسألة ذات تعلق كبير بمسألة إفادة خبر الآحاد العلم (القطعي) ، إذا احتفت بها القرائن ، كأحاديث الصحيحين ، والفرق هو :

أن وسم الحديث بالصحة ، يعني تحقق شروط الصحة الخمسة (الإصطلاحية) فيه ، دون الجزم بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان يفيد الظن الراجح الموجب للعمل ، كما قرر الأصوليون ذلك ، أما وسم الحديث بأنه صحيح في نفس الأمر ، فإنه يعني القطع بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في هذه الحالة يفيد العلم القطعي .

وقد خالف النووي والعز بن عبد السلام رحمهما الله ، الجمهور في هذه المسألة ، وقالا بأن إجماع الأمة في هذه المسالة ، إنما هو إجماع على العمل بالحديث ، والرد على هذا :

أولا : أن هذا الرأي مخالف لرأي الجمهور من المحدثين والأصوليين .

ثانيا : أننا إذا قلنا بأن الإجماع إنما هو إجماع على العمل ، فأي فضل لأحاديث الصحيحين ، وقد تقرر لدى العلماء ، وجوب العمل بكل حديث تحققت فيه شروط الصحة الإصطلاحية .

بل وذهب النووي ، رحمه الله ، إلى أن القرائن المحتفة بحديث الآحاد ، كالإجماع على صحتها ، أو تسلسلها برواية الأئمة الثقات ، أو تقدم صاحبي الصحيحين في معرفة الصحيح ، لا تغني عن العدد الكثير لإثبات قطعية النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

وقد ناقش الشيخ الدكتور حاتم الشريف حفظه الله ، إمام الحرمين ، أبو المعالي الجويني رحمه الله ، في هذه المسألة ، في بحثه  "المنهج المقترح" ، وأنقل هنا ، بمشيئة الله ، المناقشة كاملة :

يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في ( البرهان ) : ((ذهبت الحشوية من الحنابلة ، وكتبة الحديث : إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم . وهذا خزي ، لا يخفى مدركه على ذي لب .

فنقول لهؤلاء : أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطىء ؟

فإن قالوا : لا ، كان ذلك بهتاً ، وهتكاً وخرقاً لحجاب الهيبة ، ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه . والقول القريب فيه : أنه قد

زل من الرواة الإثبات جمع لا يعدون كثرةً . ولو لم يكن الغلط متصوراً ، لما رجع راوٍ عن روايته ، والأمر بخلاف ما تخيلوه ،  فإذا تبين إمكان الخطأ ، فالقطع بالصدق مع ذلك محال . ثم هذا في العدل في علم الله تعالى ، ونحن لا نقطع بعدالة واحد ،   بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر . ولا متعلق إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل ، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع )) . هذا كلام الجويني كاملاً بنصه . ويكفي كلامه هذا ضعفاً ، أن مثلي "أي الشيخ حاتم حفظه الله" ( في ضعفه ) يرد على مثله (في إمامته وجلالته في الفقه وأصوله )‍‍‍ ، أما نبزه للحنابلة بـ( الحشوية ) ، فـ ( شنشنة نعرفها من أخزم ) ، وما كان لمثله أن نعرفه بها . لكنه تاب ( رحمه الله ) ، ومن تاب تاب الله عليه، وأما قوله : (( إن خبر الواحد العدل يوجب العلم )) نقلاً عن المحدثين ، فليس هذا قولهم مطلقاً ، ومن هنا أتي ودخل عليه الداخل فالمحدثون يستفيدون ( العلم ) مما صح عندهم من ( خبر الواحد العدل ) ، كما تقدم . والصحيح عندهم : ما اجتمع فيه أمران : الأول : غلبة الظن بصدق الخبر ، بثقة الناقلين واتصال السند بالخبر ؛ والثاني : قرائن مفيدة العلم ، وهي انتفاء الشذوذ وجميع العلل الخفية القادحة . وقد سبق ذكر ذلك ، وأنه أحد خصائص من فقه في علمهم ، ووفقه الله تعالى للتقوى والعمل ، وقد سبق عن محققي الأصوليين ، ومنهم إمام الحرمين : أن خبر الواحد يمكن أن يفيد العلم بالقرائن الشاهدة على صدقه ، فماذا ينكر إمام الحرمين من استفادة المحدثين للعلم من خبر الواحد المحتف بما يقويه ؟‍‍

 

ثم تكلم الذهبي  عن (الضعيف والمطروح والموضوع) وبين هذه الأنواع تداخل ، فيصح أن تسمى كلها ضعيفة أو مطروحة ، خلاف الموضوع ، فلا يطلق إلا على ما في سنده متهم بالكذب ، ولا يطلق على ما في سنده ضعيف أو سيء الحفظ ، وقد نبه الشيخ الحميد حفظه الله على هذا في معرض نقده لمنهج ابن الجوزي ، حيث لا يكفي أن يكون في سند الحديث راو ضعيف حتى يوصف بالوضع .      

ومن أمثلة الألفاظ التي أطلقها المتقدمون  على المردود : كذب ، لايصح ، باطل ، وهم ، موضوع . 

ونبه الشيخ حفظه الله إلى أن الترمذي  قسم الحديث إلى صحيح وحسن وغريب (وقصد بالغريب الضعيف ، سواءا كان شديد الضعف أو أرفع من هذه الدرجة ، وإن كان لا يخرج من حيز الضعف ، فكأنه يقصد بالغريب ، ما ضعفه منجبر وما ضعفه غير منجبر) .

وقد قسم ابن حبان  الحديث الضعيف إلى 49 قسما . وفي هذا تنبيه على أن الضعف له مراتب كثيرة ، حتى أن الحسن قد يوصف بأن فيه ضعفا نسبيا حطه عن درجة الصحيح ، وإن كان هذا لايخرجه عن دائرة الإحتجاج .

 

الحديث الضعيف :

ما قصر عن رتبة الحسن ، وقيل هو ما فقد شرطا من شروط الحسن أو القبول .

أسباب الضعف :

في المتن ، ويتمثل هذا في عدم استقامة المتن ، كأن يكون المتن شديد النكارة .

في السند ، عدم استقامة الإسناد ويتمثل هذا في أمرين :

في سلسلة الإسناد ، كالإنقطاع ، وعنعنة المدلس ، والشذوذ ، والنكارة .

ضعف الرواة .

وقد تعرض الشيخ حفظه الله في معرض كلامه عن الحديث الضعيف إلى صنيع الحاكم  في المدخل ، حيث جعل كتابه على قسمين ، الأحاديث الصحيحة (وهي عشرة أقسام ، 5 متفق عليها ، و5 مختلف عليها) ، والأحاديث الضعيفة (وهي عشرة أقسام ، جعلها كلها متعلقة بأحوال الرواة لا بسياق السند) .

أنواع الضعف :

الضعف المنجبر : وهذا يرتقي إلى درجة الحسن لغيره ، إذا جاء من أكثر من وجه ، ومن الأمثلة على ذلك ، ما رواه الترمذي  وحسنه من طريق شعبة   عن عاصم بن عبيد الله   عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين ، فقال صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم ، فأجاز ، ثم عقبه بقوله : (وفي الباب عن عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد رضي الله عنهم) ، فعاصم بن عبيد الله ضعيف لسوء حفظه ، وممن نص على ذلك يحيى بن معين  ، الضعفاء للعقيلي  (ترجمة عاصم بن عبيد الله  ، 1355) ، وقد حسن له الترمذي  هذا الحديث لمجيئه من غير وجه . (تيسير مصطلح الحديث ص53) .

الضعف غير المنجبر : وله درجات ، كأن يكون في سند الحديث متهم بالكذب ، أو يكون المتن شديد النكارة ، وما شابه ذلك  .

وينبه الشيخ حفظه الله على أنه ينبغي على الناقد أن يحدد درجة صحة أو حسن أو ضعف الحديث ، ولا يكتفي بمجرد تحديد مرتبته .

أقسام الضعيف عند الذهبي  :

مضعف : أي أنه مختلف فيه ، فقد ضعفه جماعة وقوا جماعة .

ضعيف : وهو المتفق على ضعفه .

ويلفت الشيخ حفظه الله النظر إلى أن المغايرة في الألفاظ التي يحكم بها على الحديث ، تظهر في صنيع المتقدمين ، كابن المديني  ، فنجد في كلامه ألفاظ (صحيح) ، (إسناده صحيح) ، (إسناده جيد) ، ويقول في الإسناد الذي فيه أمثال ابن لهيعة  (ممن يكتب حديثهم) ، (اسناده صالح) أي فيه ضعف ، وينبه أيضا على مخارج الحديث فيقول  : (حديث شامي ، كوفي ، بصري) ، فهو  كما وصفه الشيخ حفظه الله ، دقيق العبارة .

 

وفي معرض كلام الشيخ حفظه الله على الضعيف ، ينبه على خطأ البعض في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد وجود راو مختلف فيه ، وإنما ينبغي التوقف في مثل هذا الحديث .

 

وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين  في مذكرة مصطلح الحديث ص7 بعض مظان الحديث الضعيف ومنها : ما انفرد به العقيلي أو ابن عدي أو الخطيب البغدادي أو ابن عساكر في تاريخه أو الديلمي في مسند الفردوس ، (وممن أكد على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله ، في أكثر من موضع) ، أو الترمذي الحكيم في نوادر الأصول (وهو غير الترمذي صاحب الجامع) أو الحاكم أو ابن الجارود في تاريخيهما .

 

موقف العلماء من رواية أبي الزبير  عن جابر بالعنعنة :

رواية أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه  ، انفرد بها مسلم  عن البخاري  ، وقد روى له مسلم  أحاديث معنعنة .

هل أبو الزبير مدلس ؟

الظاهر من قصة الليث بن سعد  مع أبي الزبير  أنه مدلس ، حيث أنه سأل أبا الزبير  عن أحاديث كتابه عن جابر رضي الله عنه ، هل سمعها كلها عن جابر أم لا ؟ ، فأجابه بالنفي ، فقال له الليث  : (أعلملي على الذي سمعت) ، فهذه الحكاية صريحة في الإستدلال على تدليسه ، وهي التي اعتمدها النسائي وابن حجر والذهبي  . وعلى هذا فموقف العلماء  تجاه روايته عن جابر رضي الله عنه  اختلف فمنهم من بالغ فرد أحاديث أبي الزبير  المعنعنة عن جابر رضي الله عنه ، حتى ما ورد منها في صحيح مسلم   ومنهم من ردها إلا إذا جاءت من طريق الليث  لأنه كفانا عنعنته عن جابر في الأحاديث التي يرويها عنه ، ولكن هل يعمم هذا على ما في صحيح مسلم   من روايات معنعنة من غير طريق الليث   ؟ ، عمم البعض الحكم ، كابن حزم وابن القطان الفاسي  ، وتوسط البعض ، فقال بأن هذا الحكم يسري على غير صحيح مسلم  أما على الصحيح فلا وذلك للأسباب التالية :

أن مسلم  انتقى من أحاديث أبي الزبير المعنعنة ، فلم يخرج إلا ما ثبت سماع أبي الزبير  فيه عن جابر رضي الله عنه ، كما انتقى من أحاديث بعض مشايخه المتكلم فيهم كقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري وأسباط بن نصر ، ما صح من حديثهم ليعلو بسنده .

أن مسلم  عرض كتابه على مشايخه كابن وارة وأبي زرعة  ، وأخرج من صحيحه أحاديث انتقدوها عليه ، ولم يكن من ضمنها أحاديث أبي الزبير المعنعنة عن جابر رضي الله عنه .

أن جمعا من العلماء الذين تتبعوا مسلم  في صنيعه في الصحيح ، كابن عمار الشهيد وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الجياني والدارقطني  ، لم يتعرضوا لعنعنة أبي الزبير ، وإنما اعتمدوا في نقدهم على العلل بمعناها الإصطلاحي (كتعارض الرفع مع الوقف والوصل مع الإرسال أو زيادة راو في السند أو إسقاط راو منه وما شابه ذلك) ، حتى أن الدارقطني  لما انتقد حديثا معنعنا لأبي الزبير  في الصحيح ، لم يكن سبب نقده عنعنة أبي الزبير ، وإنما انتقده لأن أبا الزبير  شك في رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : (أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) . اهـ ، من محاضرات الشيخ سعد الحميد حفظه الله في دراسة منهج الأئمة .

 

الحديث المطرح :

وهو بمعنى الحديث المردود ، وهو اصطلاح غير مشهور وقد استخدمه العلماء  لـ :

وصف الحديث الشاذ ، ومن الأمثلة على ذلك ، حديث أحمد  من طريق محمد بن طلحة  (وهو لا بأس به ، وقد تكلم فيه) عن عبد الله بن شداد  عن أسماء رضي الله عنها مرفوعا : البسي ثياب الحداد ثلاثة أيام ، ثم افعلي ما شئت) ، فقد قال عنه أحمد  : (شاذ مطرح) ، لأنه يخالف النصوص الشرعية في عدة المتوفى عنها زوجها .

ضعف الإسناد ، وقد يكون شديدا .

بطلان المتن .

وقد يستخدم هذا اللفظ في وصف الحديث الموضوع ، ومن أمثلة ذلك ، وصف ابن أبي حاتم  لأصحاب الطبقة الخامسة من الرواة بقوله : (هم رواة تبين لأهل العلم كذبهم فحديثهم يطرح) .

ومن هذا العرض السريع لمعنى الحديث المطرح يتضح أن هذا اللفظ يستعمل لوصف الضعيف والموضوع وما بينهما .

 

الحديث الموضوع :

وقد تكلم الذهبي  عن كيفية معرفة الموضوع باختصار شديد فقال  : ويُعرَفُ ذلك بإقرار واضعِه ، وبتجربةِ الكذبِ منه ، ونحوِ ذلك ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن هذا الإصطلاح اشتهر بين المتأخرين ، ولم يكن مشهورا عند المتقدمين في أحكامهم ، لأنهم كانوا يصفون الموضوع بعدة أوصاف مثل (باطل ، منكر ، كذب) ، وإن كانوا يصفون راويه بالوضع فيقولون : وضاع .

أسباب وضع الحديث : 

الزندقة : ومن أبرز من وضع الحديث لإفساد عقائد المسلمين ، محمد بن سعيد المصلوب ، وقد وضع حديث عن أنس مرفوعا : (أنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله) ، وعبد الكريم بن أبي العوجاء .

التزلف إلى الحكام : ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، غياث بن إبراهيم ، لما دخل على المهدي العباسي  وهو يلعب بالحمام ، فحدث بحديث : (لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر أو جناح) ، فزاد (ولا جناح) من عنده لما رأى شغف المهدي  باللعب بالحمام ، فثاب المهدي  إلى رشده وأمر بذبح الحمام .

التزلف إلى العامة بذكر غرائب القصص .

الحماس للدين : وهذا من أخطر مزالق الشيطان ، وعليه استجاز الكرامية لأنفسهم وضع الحديث ، وشبهة زعمهم الباطل : أنه جاء في رواية : (من كذب علي متعمدا ليضل به فليتبوأ مقعده من النار) ، وقالوا : إنما نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا عليه ، وقد أجاب العلماء  على هذا الزعم الباطل بجوابين نقلهما النووي  في شرحه لصحيح مسلم  ، (1/108) طبعة قرطبة :

الجواب الأول : أن زيادة (ليضل الناس) ، زيادة باطلة ، كما اتفق على ذلك الحفاظ .

الجواب الثاني : وهو جواب الطحاوي  ، بأنها لو صحت لكانت للتأكيد كقول الله تعالى : (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس) .

ومن أبرز من اشتهر بذلك ، أبو عصمة نوح بن أبي مريم قاضي مرو ، وغلام الخليل الذي سئل عما يحدث به من الرقائق فقال : (وضعناها لنرقق بها قلوب العامة) .

التعصب المذهبي والسياسي : ومن أمثلته ، ما فعله ميسرة بن عبد ربه ، لما وضع سبعين حديثا في فضل علي رضي الله عنه ، وجدير بالذكر الشيعة كانوا أول من وضع أحاديث الفضائل لنصرة مذهبهم ، فوضعوا أحاديث في فضائل أهل البيت رضوان الله عليهم ، وقد عارضهم جهلة أهل السنة ووضعوا أحاديث في فضل الشيخين ومعاوية رضي الله عنهم ، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام  ، ومن أمثلة ما وضعه الشيعة قبحهم الله حديث : (علي خير البشر ، من شك في ذلك كفر) ، وعارضهم جهلة أهل السنة فوضعوا أحاديث منها : (أبو بكر يلي أمتي بعدي) ، وأما الخوارج فكانوا من أقل الناس كذبا في الحديث ، لأنهم يرون أنه كبيرة ، وهم يكفرون مرتكب الكبيرة ، ومع ذلك لم يسلموا من وضع الحديث كما نبه إلى ذلك ابن لهيعة  .

ولعب التعصب للجنس دورا كبيرا في وضع الحديث ، كما وضع الفرس حديث : (إن الله إذا غضب أنزل الوحي بالعربية ، وإذا رضي أنزل الوحي بالفارسية) .

ولعب التعصب للأمصار والبلدان دورا في هذا الشأن ، مثل : (إذا ذهب الإيمان من الأرض وجد ببطن الأردن) ، وقد روى ابن ماجة رحمه لله حديثا في فضل قزوين ، حكم عليه العلماء بالوضع ، كما تقدم ذكر ذلك .

ولعب التعصب المذهبي دوره في هذا الشأن ، بل وكان له دور من أبرز الأدوار في هذا الشأن ، مثل حديث : (سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة النعمان هو سراج أمتي) . 

وجدير بالذكر أن بعض الآراء الفقهية ، قد شاعت بين الناس على أنها أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي لا أصل لها ، سواءا تعمد قائلها الوضع أو أخطأ في نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وممن نبه إلى ذلك أبو العباس القرطبي  ، صاحب المفهم شرح صحيح مسلم  حيث قال : (استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة قولية ) ، وذكر الشيخ مشهور حسن سلمان حفظه الله في كتابه القول المبين في أخطاء المصلين بعض الأمثلة على ذلك ، من أبرزها ، حديث : (الجمعة لمن سبق) ، وأجاب عنه بأنه ليس بحديث ، ولا أصل له من السنة ، وإنما هو رأي لبعض متأخري الشافعية  ، ظنه من لا علم عنده حديثا نبويا ، وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المطر ، وليس بين حجرته والمسجد شيء ، فهذا الحديث رواه الضياء المقدسي في (المنتقى من مسموعاته بمرو) وهو ضعيف جدا ، لأن قوله : (ليس بين حجرته …) ليس من الحديث بل من كلام الفقهاء ، بيانا للواقع .

وقد يأتي الوضع من الراوي غير مقصود ، وقد اختلف العلماء في جعله موضوعا أو مدرجا ، فذهب إلى الأول ابن الصلاح والنووي والسيوطي  ، وذهب إلى الثاني ابن حجر  ، وأيد الشيخ أحمد شاكر  صنيعه هذا ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث ابن ماجة عن إسماعيل الطلحي عن ثابت بن موسى الزاهد عن شريك بن عبد الله عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا : (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار) فهو من كلام شريك  ، لما دخل عليه ثابت ، وهو من أهل الزهد والعبادة ، فلما نظر إليه شريك  قال هذا القول فظن ثابت أنه حديث ، فحدث به وسرقه منه جماعة من الضعفاء ، وحدثوا به عن شريك  ، كما ذكر ذلك الحاكم  .

تفرد نعيم بن حماد بحديث : إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به فقد هلك وسيأتي على أمتي زمان من عمل بعشر ما أمر به فقد نجا من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا ، وقد قال نعيم هذاحديث ينكرونه وإنما كنت مع سفيان فمر شيء فأنكره ثم حدثني بهذا الحديث ، فهو صادق في سماع لفظ الخبر من سفيان ، والظاهر والله أعلم أن سفيان قاله من عنده بلا إسناد وإنما الإسناد قاله لحديث كان يريد أن يرويه فلما رأى المنكر تعجب وقال ما قال عقيب ذلك الإسناد فاعتقد نعيم أن ذاك الإسناد لهذا القول والله أعلم .

 

 

حكم الوضاع وروايته :

تشدد بعض العلماء في الحكم على واضع الحديث ، حتى أن الشيخ أبومحمد الجويني (والد إمام الحرمين) جزم بتكفير من وضع حديثا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا إلى ذلك عالما بإفترائه ، وأيد الشيخ أحمد شاكر  هذا الرأي ، ولكنه في الحقيقة رأي مرجوح ، مقاوم برأي الجمهور وإن كان فاعل ذلك مرتكبا لكبيرة ورد النص بتغليظ عقوبة فاعلها حيث قال صلى الله عليه وسلم : (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ، وأما روايته فإنها مردودة ، وحديثه السابق ساقط كما نبه إلى ذلك أبو المظفر السمعاني  ، بل وذهب بعض العلماء إلى عدم قبول روايته وإن تاب ، وهذا قول الحميدي وأحمد والصيرفي  وأيد الشيخ أحمد شاكر  هذا الرأي ، وخالف النووي  ، وقال بقبول روايته إن تاب وصحت توبته .

وقد وجه الشيخ عمرو بن عبد المنعم حفظه الله قول أبي محمد الجويني  ، فقال بأن هذا القول وإن كان مبالغا فيه ، إلا أنه يحمل على من وضع على النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يخالف به المعتقد السليم ، أو تلفيقا لبعض الصفات المتنزه عنها رب العالمين ، كتلك التي وضعها ابن الثلجي وغيره ، مثل حديث الجمل الأورق ، وعرق الخيل ، فإن القول بها كفر بواح ، والعياذ بالله .

أبرز الوضاعين :

إسحاق بن نجيح الملطي ، ومأمون بن أحمد الهروي ، ومحمد بن السائب الكلبي ، والمغيرة بن سعيد الكوفي ، ومقاتل بن أبي سليمان ، والواقدي ، وابن أبي يحيى ، وعمر بن موسى .

ومن أبرز الصحف الموضوعة ، صحيفة أبان عن أنس رضي الله عنه ، التي حفظها ابن معين  ليحترز منها ، وصحيفة عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه ، وهي نسخة موضوعة باطلة لا تنفك عن وضع عبد الله هذا أو وضع أبيه كما قال الذهبي  في الميزان ، وتبعه الحافظ  في لسان الميزان ، والسيوطي  في ذيل الأحاديث الموضوعة ، وابن عراق  في تنزيه الشريعة المرفوعة ، عن الأحاديث الشنيعة والموضوعة .

منهج العلماء في مقاومة الوضع :

اشتراط الإسناد ، وخاصة بعد انتشار الفتن وما تبعها من نشاط للوضاعين ، نصرة لمذاهبهم ، ونبه كثير من أهل العلم على هذا الأمر كعبد الله بن المبارك وهشام بن عروة وسفيان الثوري  .

استخدام التاريخ لفضح الرواة ، وذلك بمعرفة تواريخ ميلاد الرواة وتواريخ وفاة شيوخهم ، وتواريخ دخولهم بلدان شيوخهم لأخذ الحديث عنهم وما شابه ذلك ، وممن نبه عل ذلك ، سفيان الثوري  لما قال : (لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ) ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، ادعاء مأمون بن أحمد الهروي السماع من هشام بن عمار  ، فلم سأله الحافظ ابن حبان  عن تاريخ دخوله الشام ، قال : سنة خمسين ومائتين ، فقال له : فإن هشاما الذي تروي عنه مات سنة 245 ، فقال مأمون : هذا هشام بن عمار آخر !! ، وكذا تحديث عمر بن موسى عن خالد بن معدان   ، فقيل له : متى لقيته ؟ قال : سنة ثمان ومائة ، ، قيل : أين لقيته ؟ قال : في غزاة أرمينية ، فقيل له : اتق الله يا شيخ ، ولا تكذب ، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة ، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين ، ثم إنه لم يغز أرمينية قط ، كان يغزو الروم .

تتبع الكذابين والتحذير منهم ، ومن أشهر من استخدم هذه الوسيلة شعبة بن الحجاج  ، ومن أمثلة ذلك ، تحذيره الناس من الجلوس إلى جعفر بن الزبير لما رأى إقبال الناس على مجلسه ، حتى انصرفوا عنه .   

بيان أحوال الرواة ، وقد اعتنى العلماء  بتصنيف كتب الجرح والتعديل ، لبيان أحوال الرواة ، ومن أبرز ما ألف لبيان أحوال الضعفاء ، الضعفاء للعقيلي ، والكامل لإبن عدي ، والكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث لإبراهيم بن محمد بن سبط ابن العجمي  ، وميزان الإعتدال للحافظ الذهبي  ، ولسان الميزان للحافظ ابن حجر  .

 

علامات الحديث الموضوع :

علامات الوضع في السند :

إقرار الراوي على نفسه بالوضع ، ومن أمثلة ذلك ، إقرار نوح بن أبي مريم بوضع حديث فضائل القرآن ، وإقرار عمر بن صبح بن عمران التميمي بوضع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما جاء عند البخاري  في التاريخ الأوسط ، وإقرار ميسرة بن عبد ربه الفارسي بوضع أحاديث في فضائل القرآن وفضائل علي رضي الله عنه .

عرض أحاديث الراوي المتهم على أحاديث الثقات الذين رووا عن شيخه ، وجدير بالذكر أن هذه هي طريقة النقاد  في الحكم على الراوي جرحا أو تعديلا ، وفي الحكم على الروايات بالشذوذ أو الخطأ أو الوهم ، وإن لم يكن راويها متهما .

استخدام التاريخ لفضح الرواة ، كما سبق بيانه .

وقد نبه الشيخ عمرو عبد المنعم حفظه الله ، إلى أنه قد تروى بعض الأحاديث بأسانيد ظاهرها الجودة أو الصحة ، لكن متونها منكرة ، لا يحتمل أن يصدر مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحكم عليها أهل العلم بالوضع آنذاك ، ومثال ذلك : حديث صلاة حفظ القرآن ، وحديث هذه الصلاة أخرجه الترمذي  (3570) ، وابن أبي عاصم  في الدعاء ، وابن مردويه  في تفسيره ، والحاكم  (1/316) ، من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن عطاء ابن أبي رباح ، وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والحديث متنه منكر جدا ، ورجال إسناده ثقات ، مما حير أهل العلم في الحكم عليه ، فقال الذهبي  ، في التلخيص : هذا حديث منكر شاذ ، أخاف ألا يكون موضوعا ، وقد حيرني والله جودة سنده ، وقال  في الميزان : مع نظافة سنده ، حديث منكر جدا ، في نفسي منه شيء . 

علامات الوضع في المتن :

ركاكة اللفظ : ومن أبرز من تكلم في هذه المسألة ، ابن الجوزي  ، حيث نقل عنه السيوطي  في التدريب قوله : (ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع . قال : ومعنى مناقضته للأصول ان يكون خارجا عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة ) ، وقال  في موضع آخر : (الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم وينفر منه قلبه في الغالب) ، ولكن ينبغي علينا عدم التسرع في الحكم على الحديث بالوضع ، لمجرد غرابة بعض ألفاظه ، كما وقع ذلك من ابن الجوزي  ، حيث جعل نقد المتن أساسا للحكم على الحديث بالوضع ، وهذا كما تقدم منهج غير دقيق ، إلا في حالات النكارة الشديدة ، ومن الأمثلة على ذلك : (من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر وهو سكران وبعث من قبره سكران ، وأمر به إلى النار سكران إلى جبل يقال له : سكران) ، فهذا متن شديد النكارة ، لا يتردد الناقد في الحكم عليه بالوضع ، وينبه د/ حسين شواط ، على أن هذا النوع يشمل أيضا ما كان فيه خطأ لغوي مثل : (لا تسيدوني في الصلاة) ، فهذا لفظ ملحون ، واللفظ الصحيح في هذا الوضع هو :(لا تسودوني) ، والحديث لا أصل له كما قال السخاوي  في الأسرار المرفوعة (585) .

فساد معنى الحديث : كحديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده : إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا ، وصلت عند المقام ركعتين .

أن يعرف هذا بالإستقراء لجميع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس منها ، وهذا هو أسلوب النقاد المتقدمين ، وقد نبه إلى هذا الحافظ العلائي  حيث قال : (وهذا إنما يقوم به الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو معظمه كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين  ، ومن بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة  ، ومن دونهم كالنسائي  ثم الدارقطني  وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث أنه موضوع ) ، ويعلق ابن عراق  بقوله : (فاستفدنا من هذا أن الحفاظ الذين ذكرهم العلائي  وأضرابهم إذا قال أحدهم في حديث لا أعرفه أو لا أصل له كفى ذلك في الحكم عليه بالوضع والله أعلم ) ، بل إن بعضهم كان يحفظ الصحائف المكذوبة احترازا منها ، كما فعل ذلك ابن معين  مع صحيفة أبان عن أنس رضي الله عنه ، ومثال ذلك أن يحكم إمام من الأئمة على حديث بأنه لا أصل له ، كقول القاري  في حديث : (إن الله لا يقبل دعاء ملحونا) : (لا يعرف له أصل) ، ومن هذا النوع أن يقوم الحفاظ باستقراء الأبواب والموضوعات ، ثم يجزموا بأن ما ورد فيها موضوع ، كقولهم : أحاديث ذم الأولاد كلها كذب وأحاديث مدح العزوبة كلها باطلة وهكذا .

أن يخالف صريح القرآن ، مثل حديث : (ولد الزنى لا يدخل الجنة) ، فإنه مخالف لقوله تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) .

مخالفته لصحيح السنة : مثل حديث : (إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث) ، فهو مناقض للحديث المتواتر : (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) .

مخالفته للإجماع ، كحديث النص على إمامة أبي بكر رضي الله عنه أو علي رضي الله عنه ، وهذا مخالف لإجماع المسلمين على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن ينص على خليفته .

مخالفته للمعلوم من الدين بالضرورة ، كحديث محمد بن سعيد المصلوب الذي تقدم ذكره ، فهو مخالف لمعلوم من الدين بالضرورة ، وهو أنه لانبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم .

مخالفته لحقائق التاريخ المعروفة ومن أبرز أمثلته ، ماحدث في سنة (447هـ=1055م) حيث أظهر بعض اليهود كتابًا ادعوا فيه أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة ، وذكروا أن خط علي فيه، فلما أُرسل الكتاب إلى وزير الخليفة القائم بأمر الله عرضه على الخطيب البغدادي، فتأمله ثم قال: هذا مزوَّر؛ فلما قيل له : كيف عرفت ذلك؟ قال: من شهادة معاوية ، فهو أسلم عام الفتح سنة (8 هـ= 629م)، وفُتحت خيبر في سنة (7هـ= 628م)، وفيه شهادة سعد بن معاذ ، وقد مات يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين، فاستحسن الوزير ذلك من الخطيب، ولم يُجزهم الوزير على ما جاء في الكتاب، وأخذ منهم الجزية .

ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، ما ذكره الشيخ محمد زياد بن عمر التكلة حفظه الله ، في مسودة بحثه القيم "من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه دراسة حديثية" ، في معرض نقده للأحاديث الموضوعة في ذم معاوية رضي الله عنه ، حيث أورد مثالين ، يندرجان تحت هذا العنصر وهما :

أولا :

ما وضعه ابن المُطَهِّر الرافضي (منهاج الكرامة ص64) وهو: "يطلع عليكم رجل يموت على غير سنَّتي"، فطلع معاوية، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج، ولم يسمع الخطبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله القائد والمقود، أيُّ يومٍ يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة"!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليه (منهاج السنة 4/444): "هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف".

ومما يدل على أن واضِعَ الحديث رافضيٌ على غير السُنَّة والعقل: أن يَزيد وُلد سنة سبع وعشرين في خلافة عثمان! ومعاوية لم يتزوج إلا في خلافة عمر، رضي الله عن الجميع!

 

ثانيا :

زعم بعضهم أن معاوية أوعز للأشعث بن قيس إلى ابنته (وكانت تحت الحسن بن علي رضي الله عنهما) أن تضع السم لزوجها، وأنه مات بسبب ذلك !

وهذا باطل ، فالأشعث توفي قبل الحسن بنحو عشر سنين ، ثم إن بقاء الحسن كان فيه مصلحة لمعاوية ، بخلاف أهل الفتنة من شيعة الكوفة ، وعلق ابن العربي على الخبر بقوله :    إنه محال (العواصم 214)، وقال ابن تيمية : إن تسميم معاوية للحسن لم يثبت ببينةٍ شرعية ، أو إقرارٍ معتبر، ولا نَقْلٍ يُجزَم به . (منهاج السنة 4/469)، وقال الذهبي: هذا شيء لم يصح، فمن الذي اطلع عليه؟ (تاريخ الإسلام حوادث سنة 41-60 ص40)، وقال ابن كثير: ليس بصحيح. (البداية والنهاية)، وجعله ابن خلدون مما وضعه الشيعة . وانظر: مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأستاذ محمد بن عبد الهادي الشيباني ص120-125 وعنه الأخ الشيخ سليمان الخَراشي في كتابه: اتهامات لا تثبت ص165-174 .

 

 

الإفراط في الوعد والوعيد : مثل حديث : (من صلى الضحى أعطي ثواب سبعين نبيا) ، وابن القيم  يعلق على مثل هذه الأخبار في المنار المنيف بقوله : (وأمثال هذه المجازفات الباردة لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين : إما أن يكون في غاية الجهل والحمق ، وإما أن يكون زنديقا قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه) .

اشتماله على سخافات وسماجات يصان عنها سائر العقلاء فكيف به صلى الله عليه وسلم ، مثل حديث : (لو كان الأرز رجلا لكان حليما ما أكله جائع إلا أشبعه) .

 

المصنفات في الحديث الموضوع :

ومن أبرزها ، الموضوعات من الأحاديث المرفوعات للجوزقاني  ، والموضوعات لإبن الجوزي  ، وقد نبه ابن تيمية وابن حجر  على أنه على الرغم من كثرة ما انتقد على ابن الجوزي  في الموضوعات ، فإن غالب ما حكم عليه بالوضع فهو موضوع ، واللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي  ، وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة لإبن عراق  وتذكرة الموضوعات لمحمد بن طاهر الهندي   ، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني  . حجية السنة ص213_229 بتصرف .

 

الإحتجاج بالحديث الضعيف :  

ينبه الشيخ السعد حفظه الله على أن الموضوع والمطرح لا يحتج به ولا يكتب حتى للإستشهاد .

وأما الحديث الضعيف ، فهناك خلاف بين أهل العلم ، حيث ذهب جمع من العلماء إلى جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ، واشترطوا لذلك شروط وهي :

1. أن يكون الحديث في القصص أو المواعظ أو فضائل الأعمال كما سبقت الإشارة إليه ، وألا يتعلق بعقيدة أو شريعة .
2. أن يكون الضعف غير شديد ، فلا يكون الحديث منكرا أو في إسناده متهم بالكذب ، فهذا ضعف شديد ، يمنع العمل بالحديث ، وقد سبق أن الموضوع والمطرح لا يحتج به ولا يكتب حتى للإستشهاد .

3. أن يندرج تحت أصل معمول به ، فلا يكون أصلا في بابه ، وممن أكد على ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في مقدمة الترغيب والترهيب ، فيلزم أن يكون العمل الذي نص على فضيلته في هذا الحديث ثابتا من طريق آخر صحيح ، وعليه فلا إشكال في الإستئناس بالثواب المنصوص عليه .

4. أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته ، بل يعتقد الإحتياط ، وأن يبين ضعفه عند روايته .

وممن ذهب إلى جواز العمل بالحديث الضعيف ، أحمد  ، وقد نقل عنه ابن القيم  ، أنه يورد الضعيف إذا لم يكن في الباب غيره ويقدمه على آراء الرجال ، ويظهر هذا بوضوح ، من صنيعه في ايراد حديث عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده ، فأحيانا يقبل حديثه ، إذا لم يجد في الباب غيره ، وأحيانا يرده ، كما قال لإبنه عبد الله  : (ربما قبلت حديث عمرو بن شعيب  وربما وجدت في القلب منه) وفي رواية : (وربما رددته) ، وقد نقل الشيخ أحمد شاكر  قول أحمد وابن مهدي وابن المبارك  : (إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا) ، ويرجح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله أن التساهل المقصود هنا ، لا يصل إلى درجة الضعيف ، وإنما مرادهم الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة ، لأن الحديث عندهم إما صحيح استوفى شروط الصحة وإما ضعيف لم تتحقق فيه شروط الصحة (فيكون شاملا للحسن والضعيف ، لأن كليهما لم تتحقق فيه شروط الصحة) ، ومما يؤكد هذا أن أحمد كان لا يحتج بحديث محمد بن إسحاق  ، ومن على شاكلته ، رغم أنه حسن الحديث ، وكان يتساهل ويقبل حديثه في السير والمغازي ، كما نص  على ذلك .

ثم شرع الشيخ حفظه الله في تفصيل الأمثلة التي ذكرها الذهبي  كأمثلة لرواة الضعيف :

ابن لهيعة  :

والعلماء اختلفوا في ابن لهيعة  على قولين :

هناك من يصحح رواية العبادلة  عن ابن لهيعة  أو يحسنها على الأقل ويرد ما عداها ، وممن ذهب إلى ذلك الشيخ أحمد شاكر رحمه الله و الشيخ الألباني رحمه الله كما في أحكام الجنائز ص247 ، مكتبة المعارف .

وهناك من يتفق مع أصحاب الرأي الأول في رد روايته بعد الإختلاط ، ولكنه لا يحتج بروايته قبل الإختلاط ، وإنما يستشهد بها ومنهم أحمد وأبوزرعة وابن معين  ، فهو عندهم ضعيف في كل أحواله ، ولكن ضعفه اشتد بعد إختلاطه ، وقد قال أحمد  : هو ضعيف قبل الإختلاط وبعده ، وقال الدارقطني  : رواية العبادلة عنه يعتبر بها ، وهذا ما رجحه الشيخ السعد حفظه الله ، وقال بأنه وجدت أحاديث منكرة لإبن لهيعة  حتى من رواية من روى عنه قبل الإختلاط ، بل حتى من رواية العبادلة عنه ، وهي أعلى الروايات عنه ، وأما قول عبد الغني المصري  : رواية العبادلة عنه صحيحة وقول أحمد  : رواية قتيبة عنه صحيحة ، (لأنه روى عن ابن المبارك  ، وهو أحد العبادلة الذين تميزت روايتهم عنه) ، فهي أقوال مجملة  ، وتحمل على أن سماعهم منه صحيح ، بغض النظر عن صحة أحاديثه .   

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  :

شديد الضعف ، بل قال الحاكم وأبو نعيم  بأنه روى أحاديث موضوعة ، ويتعجب الشيخ حفظه الله من استشهاد الذهبي  بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم  في هذا الموضع ، رغم أنه شديد الضعف ، أي متروك ، ويقول بأنه ربما أخطأ الناسخ ، فربما كان المقصود هنا هو ، عبد الله بن زيد بن أسلم  فهو أحسن حالا من أخيه ، وقد اختلف النقاد في بني زيد بن أسلم  (عبد الرحمن وعبد الله وأسامة) على النحو التالي :

هناك من ضعفهم كلهم ، كابن معين والجوزجاني  .

وهناك من فصل كإبن المديني  ، فقد قوى عبد الله  ، وذكر عن البخاري  أنه ذكر في عبد الله وأسامة  صحة ، وربما كان عبد الله بن زيد  أقوى من ابن لهيعة  .

أبو بكر بن أبي مريم  :

وحاله شبيه بابن لهيعة  ، فهو ضعيف اختلط بعد سرقة بيته ، وحديثه على قسمين :

ما حدث به قبل الإختلاط ، يكتب ولا يستشهد به .

ما حدث به بعد الإختلاط ، لا يكتب حتى للإستشهاد .

فرج بن فضالة :

وحديثه ينقسم إلى قسمين :

ما رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري  ، حيث روى عنه منكرات كما صرح بذلك أحمد  ، وقال أبو حاتم  : (روايته عن غير يحيى أحسن من روايته عن يحيى) . فحديثه عن يحيى  لا يكتب حتى في الشواهد ، ومن أمثلة منكراته ، ما رواه عن يحيى بن سعيد  عن محمد بن علي  عن ابن عمر رضي الله عنهما : (إذا فعلت أمتي 15 خصلة) وهو حديث منكر باطل .

ما رواه عن الشاميين ، وهو أحسن حالا ، وكان ينبغي على الذهبي  أن يقيد تمثيله بفرج بن فضالة في هذا الموضع بهذا القيد .

رشدين :

وهو ابن سعد وهناك رشدين آخر وهو رشدين بن كريب ، وكلاهما ضعيف يكتب حديثهما على ضعفه الواضح .

 

ويقول الشيخ السعد حفظه الله ، بأنه كان على الذهبي  أن يمثل بشريك بن عبد الله وحجاج بن أرطأة ومن على شاكلتهما في هذا الموضع ، لأن كثيرا ممن استشهد بهم في هذا الموضع هم من المتروكين .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى الأمثلة التي ساقها الحافظ الذهبي  لرواة الحديث المطرح كالتالي :

عَمْرِو بن شَمِر ، عن جابر الجُعفي ، عن الحَارِث ، عن عليّ ، فجابر الجعفي متروك متهم بالوضع ، وقد كذبه أبوحنيفة فقال: ما رأيت أكذب منه ، فروايته لا تصلح حتى في الشواهد والمتابعات ، وإن وثقه بعضهم ، وكذبه غير أبي حنيفة ، والحارث ضعيف ، ويقول الشيخ حفظه الله ، بأن هذا الإسناد باطل وكان من الأولى أن يدخل ضمن أمثلة أسانيد الموضوع .

وصَدَقَة الدَّقِيقي ، عن فَرْقَدٍ السَّبَخي ، عن مُرَّةَ الطَّيَب ، عن أبي بكْر ، فصدقة بن موسى الدقيقي وفرقد (ضعيفان واضحي الضعف) ، ومرة هو مرة بن عبد الله الهمداني  ، وهو ثقة من كبار التابعين .

وجُوَيْبِر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، فجُوَيْبِر متروك متهم بالكذب والضحاك بن مزاحم  صدوق له أوهام لم يسمع من ابن عباس ، وقد رجح الشيخ أحمد شاكر  سماعه من ابن عباس رضي الله عنهما في المسند .

وحفص بن عُمَر العَدَني ، عن الحكَم بن أبان ، عن عكرمة ، فحفص بن عمر ، متروك بين الضعف ، والحكم بن أبان ، مختلف في حاله والأقرب أن نتوقف في حديثه فإذا استقام قبل ، ولا يقبل ما تفرد به .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى الأمثلة التي ساقها الحافظ الذهبي  لرواة الحديث الموضوع كالتالي :

الأربعين الودعانية ، نسبة إلى الودعاني .

نسخةِ عليّ الرِّضَا المكذوبةِ عليه ، وعلي الرضا هو علي بن موسى ، وهو من المشهورين بالزهد والعبادة ، ولم يصح عنه شيء في باب الرواية كما قال الذهبي  ، وراوي هذه الصحيفة المكذوبة هو أبو الصلت الهروي وهو كذاب .

ثم تكلم الشيخ حفظه الله على بعض مصطلحات الأسانيد ومنها :

الأسانيد المظلمة : وهي الأسانيد التي فيها الكذابون أو المجاهيل .

الأسانيد المركبة : كأن يركب ابن زبالة (وهو متهم بالكذب) على السلسلة الذهبية (مالك  عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنهما) .

وتكلم الشيخ حفظه الله في نهاية هذا المبحث على حديث دعاء السوق ، وقال حفظه الله ، بأن إسناد هذا الحديث يدور على عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير ، وقد تكلم العلماء في حفظه ، وقال البخاري  فيه نظر (وهذا جرح شديد من البخاري  ) ، وقال يحيى بن معين  ليس بشيء وذكره العقيلي  في الضعفاء ، وقد اتفق أحمد والبخاري والعقيلي وابن عدي  على رد هذا الحديث .

 

الحديث المرسل :

تعريف المرسل اللغوي :

مأخوذ من الإطلاق وعدم التقييد ، ومن ذلك قوله تعالى : (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين …) الآية .

مأخوذ من التفرق ، أي الإنقطاع ، ومنه قولك : جاء القوم أرسالا ، أي متفرقين .

مأخوذ من السرعة ، ومنه قولك : ناقة مرسال ، أي سريعة ، فكأن راوي الحديث ، أسرع في روايته ، فأسقط أحد الرواة من سنده .

مأخوذ من الإسترسال ، أي الإطمئنان للشيء ، لأن المرسل يدعوك إلى الإطمئنان إلى سنده ، حتى لو أسقط منه أحد رواته ، وعلى هذا المعنى ، اعتمد من احتج بالمرسل مطلقا ، فقالوا بأن المرسل ، قد تكفل لك برجال سنده ، أما من أسند ، فقد أحالك إلى كتب العلل والرجال ، لتبحث أحوال الرواية وأحوال رجال سندها ، ومثلوا بإبراهيم النخعي  الذي كان يقول لأصحابه ، بأنه إن أرسل الحديث إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، فهذا يعني أن عنده أكثر من سند لهذا الحديث إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، وأما إذا أسنده ، فإن هذا يعني أن له سندا واحدا فقط إليه ، وعلى هذا تكون روايته المرسلة أقوى من روايته المسندة .

 

تعريف المرسل الإصطلاحي :

رواية التابعي الكبير الذي أدرك جماعة من الصحابة كعبيد الله بن عدي بن الخيار وسعيد بن المسيب   عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا تعريف ابن الصلاح وابن عبد البر  . ومن الأمثلة على ذلك : ما أخرجه مسلم  من طريق محمد بن رافع  عن حجين  عن الليث  عن عقيل  عن ابن شهاب  عن سعيد بن المسيب  مرفوعا : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ، فسعيد  تابعي كبير ، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فربما كان الساقط من السند صحابيا (وهذا هو الإحتمال الأكبر لأن معظم شيوخه من الصحابة) وربما كان الساقط تابعيا مثله .

رواية التابعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، سواءا كان كبيرا أو صغيرا وهذا هو تعريف الحاكم  .

وقد شرط البعض أن يكون التابعي ممن لم يلتق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأن بعض التابعين رأو الرسول صلى الله عليه وسلم  وهم كفار وتحملوا عنه حديثه ، ولكنهم أسلموا بعد وفاته ، فهم تابعيون من الناحية الإصطلاحية ، وفي مسند أحمد  حديث من هذا النوع ، وهو نادر الوجود ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك التنوخي رحمه الله ، فهو تابعي اصطلاحا ، وإن كانت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلة ، لأنه رآه وسمع منه .

رواية من دون من دون الصحابي ، وهذا تعريف الأصوليين ، وممن نص على ذلك من الأصوليين ، ابن الحاجب  في مختصره في أصول الفقه ، حيث نقل عنه الحافظ ابن كثير  في اختصار علوم الحديث قوله : المرسل قول غير الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هو كل ما لايتصل إسناده (وهذا هو المعنى العام للإنقطاع والإرسال) ، غير أن المرسل أكثر ما يطلق على ما رواه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نقل ذلك ابن الصلاح  في علوم الحديث ، وهذا قول أحمد وأبي داود والخطيب  ، ويحسن بنا في هذا الموضع أن ننقل كلام الخطيب  في الكفاية لأنه يزيد هذا المعنى وضوحا حيث قال  : (والمنقطع مثل المرسل ، إلا أن هذه العبارة تستعمل غالبا في رواية من دون التابعي عن الصحابة ، مثل أن يروي مالك بن أنس   عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما  ، أو سفيان الثوري  عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أو شعبة بن الحجاج  عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، وما أشبه ذلك) ، وأما تعريف أبي داود  في المراسيل فقد شمل كل أنواع الإنقطاع بما في ذلك التدليس فقال  بأن المرسل هو كل ما لم يتصل وكذا التدليس .       

ومن الأمثلة على ذلك :

ما رواه عراك  عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند احتضاره : (حولوا مقعدتي إلى القبلة)       حيث أرسله عراك   عن عائشة رضي الله عنها .

ما يرويه سليمان بن موسى الشامي  عن كعب بن عمرو بن عدي رضي الله عنه ، حيث لم يسمع سليمان  من كعب رضي الله عنه .

حديث أبي قلابة  عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا : (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله) ، حيث أخرجه الترمذي  في الإيمان (10/82 ، 83) ، وقال : هذا حديث صحيح ، ولا نعرف لأبي قلابة  سماعا من عائشة رضي الله عنها .

حديث العوام بن حوشب  عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه مرفوعا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال بلال : قد قامت الصلاة ، نهض وكبر ، قال الإمام أحمد  : لم يلق العوام  ابن أبي أوفى رضي الله عنه ، وقد أورد ابن الصلاح  هذا المثال ، تحت النوع الثامن والثلاثين من علوم الحديث : في معرفة الخفي من المراسيل لأن العوام   عاصر ابن أبي أوفى رضي الله عنه . وسيأتي الكلام عن هذا النوع إن شاء الله .

 

مرسل الصحابي :

بداية لابد من ذكر حد الصحابي حتى يتبين لنا من تدخل روايته في  حد مرسل الصحابي ومن لا تدخل روايته ، وأجمع تعريف للصحابي هو تعريف الحافظ ابن حجر  في الإصابة : (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن لم يره لعارض العمى) . فمرسل الصحابي  هو ما أرسله الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ادعى بعضهم الإجماع على قبول مرسل الصحابي ، كما حكى ابن كثير  في اختصار علوم الحديث وحكاه الحافظ عن أهل الحديث ، لأن مراسيل الصحابة في حكم الموصول ، لأنهم إنما يروون عن الصحابة  وكلهم عدول ، فجهالتهم لا تضر والله أعلم ، ولكن ابن الأثير  حكى الخلاف في ذلك عن أبي إسحاق الإسفراييني  ، لإحتمال تلقيهم عن بعض التابعين ، كما وقع في رواية الأكابر عن الأصاغر والآباء عن الأبناء ، وقد رد السيوطي  في التدريب على هذا الرأي بقوله : (وفي الصحيحين من ذلك ما لا يحصى (يعني من مراسيل الصحابة) ، لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة ، وكلهم عدول ، ورواياتهم عن غيرهم نادرة ، وإذا رووها بينوها ، ومن الأمثلة على ذلك :

حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن مالك بن يخامر   عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وزاد البخاري  (وهم بالشام) ، فمعاوية رضي الله عنه صحابي ، ومالك بن يخامر  ، تابعي كبير (وقد اختلف في صحبته ولم تثبت) .

حديث السائب بن يزيد عن عبد الرحمن بن عبد القاري  عن عمر رضي الله عنه مرفوعا : (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) ، فالسائب رضي الله عنه صحابي ، وعبد الرحمن بن عبد القاري  تابعي .

حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن مروان بن الحكم  عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى : (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ، فسهل رضي الله عنه صحابي ، ومروان بن الحكم  تابعي مختلف في صحبته .

ويؤكد السيوطي  على أن أكثر روايات الصحابة عن التابعين ليست مرفوعات وإنما هي إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات على التابعين . بتصرف من الباعث الحثيث ص69 و ص275 _276 .

مسألة : ضابط الصحابي الذي يحكم على إرساله بالوصل :

ضابط الصحابي الذي يقبل إرساله ، أن يصل إلى سن التمييز والتحمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يشترط أن يصل إلى سن البلوغ ، خلافا لمن اشترط البلوغ ، كرواية عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، والحسن والحسين رضي الله عنهما ، وأما من قيل فيه ، بأن له رؤية أو إدراك كمحمد بن أبي بكر وعبد الله بن أبي طلحة رضي الله عنهما فيثبت له شرف الصحبة ولكن روايته تعامل معاملة مرسل التابعي ، وقد فرق الشيخ الألباني  بين من قيل بأن له رؤية أو إدراك وبين من قيل بأنه صحابي صغير حيث قال بأن الإدراك والرؤية أقل إفادة من القول بأن له صحبة  فمن وصفوا بأن لهم رؤية أو إدراك ربما رأوا  الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لا ينسحب عليهم معنى الصحبة ولو ضيق فروايتهم مرسلة خلاف الصحابي الصغير فروايته موصولة ومرسله مقبول مطلقا . ولكن الشيخ  ذكر في كتاب أحكام الجنائز وبدعها ص73 ، مكتبة المعارف ، رواية لعبد الله بن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه أخرجها أحمد  ، ثم عقب بقوله : وله (أي عبد الله بن ثعلبة) رؤية ، ولم يثبت له سماع ، فهو مرسل صحابي فهو حجة ، فاحتج به  رغم أنه من القسم الذي جعل الشيخ  روايته مرسلة (من قيل فيهم بأن لهم رؤية أو إدراك ولم يثبت لهم سماع) ، وجدير بالذكر أن سن التمييز الذي يعتمد في هذه المسألة غير محدد ، فهو مسألة نسبية تختلف من إنسان لإنسان ، فقد عقل محمود بن الربيع رضي الله عنه مجة مجها الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وكان عمره خمس سنوات ، كما جاء عند البخاري  ، ولا يلزم من ذلك أن يعقل غيره في نفس هذه السن ما يحصل له ، ولا يلزم أن يدرك من في هذه السن كل ما يحصل له .

 

مسألة ، إذا قررنا أن مرسل الصحابي حجة ، فكيف تثبت الصحبة له حتى نقبل روايته ؟

تثبت الصحبة بعدة طرق من أهمها :

التواتر الذي يقطع به لكثرة الناقلين كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبقية العشرة .

الإستفاضة أو الإشتهار ، أن فلانا من الصحابة ، كعكاشة بن محصن وضمام بن ثعلبة رضي الله عنهما .

شهادة من صاحب معلوم الصحبة بالتصريح ، كما شهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لحممة الدوسي رضي الله عنه بالصحبة .

ويعرف بقول التابعي الثقة أن فلانا صحابي .

أن يخبر عن نفسه بأنه صحابي بشرط أن يكون معلوم العدالة كما جزم به الآمدي وآخرون بشرط أن يكون معاصرا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد انتهى معاصروا النبي صلى الله عليه وسلم بمضي مائة وعشر سنين من هجرته صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا  : (أريتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد) ، وزاد مسلم  من حديث جابر رضي الله عنه : (أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر) ، وعليه فإن من ادعى الصحبة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بمائة سنة فهو دجال كما وصف الذهبي  في الميزان (رتن الهندي) الذي ادعى الصحبة بعد الستمائة للهجرة .

 

مسألة : تسمية الحافظ البيهقي  لما رواه التابعي عن رجل من الصحابة (مرسلا) ، كما قرر ذلك في السنن الكبير :

ألزم ابن كثير  في اختصار علوم الحديث البيهقي ، إن قال بذلك ، أن يقول بأن مرسل الصحابي أيضا ليس بحجة ، وقد يعتذر للبيهقي  ، بأنه إنما أطلق هذه التسيمة على حديث نهي الرجل أن يتوضأ من فضل طهور المرأة ، لأن لفظه مستنكر يخالف كثيرا من النصوص الشرعية ، ولم يكن إطلاقه هذا عاما . 

 

المرسل الخفي :   

وهو رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه مطلقا ، وإن لقيه .

شرح التعريف:

فهو مرسل لأنه يروي عن شيخه بواسطة ، لأنه لم يسمع منه مطلقا .

وهو خفي ، لأنه معاصر له ، فظاهر السند الإتصال لإمكان اللقاء بينهما .

أن اللقاء غير كاف لإثبات السماع والحكم على الرواية بالإتصال ، وعليه ربما وقع التعاصر ولم يقع اللقاء ، وربما وقع اللقاء ولم يقع السماع ، بل ربما وقع السماع إلا في مروية بعينها .       

أمثلة :

حديث العوام بن حوشب  عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه ، وقد تقدم .

رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إن ثبت عدم سماع ابن المسيب  من عمر رضي الله عنه ، فهما متعاصران .

حديث عمر بن عبد العزيز  عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : (رحم الله حارس الحرس) ، فإن عمر  لم يلق عقبة رضي الله عنه ، كما قال المزي  في الأطراف ، وقد نبه ابن كثير  إلى تمكن المزي  من هذا الأمر في اختصار علوم الحديث .

رواية عطاء   عن ابن عمر رضي الله عنهما ، حيث أن عطاء  رأى ابن عمر رضي الله عنهما ، ولم يسمع منه ، كما نبه إلى ذلك العلائي  في جامع التحصيل . 

حديث أبي قلابة  عن عائشة رضي الله عنها ، وقد تقدم ، ويؤيده قول أبي حاتم  في ابي قلابة  : (كان يرسل عمن عاصره ولا يعرف عنه تدليس) ، فمقولة أبي حاتم  في غاية الأهمية ، لأنها توضح الفارق بين الإرسال الخفي والتدليس ، فلا يكون الإرسال الخفي تدليسا إلا بقيد الإيهام (كأن تكون الرواية بلفظ قال أو نحوه من الصيغ المحتملة ويكون الراوي مدلسا) ، وقد سبق التنبيه على ذلك عند في المقارنة بين شرطي الشيخين  ، وجدير بالذكر أن المرسل الخفي يقابله نوع يسمى المزيد في متصل الأسانيد ، ففي الإرسال الخفي نلاحظ نقص راو في أثناء سند ظاهره الإتصال ، أما في المزيد في متصل الأسانيد فنلاحظ زيادة راو في أثناء سند ظاهره الإتصال ، ومن أهم الأمثلة على هذا النوع :

حديث ابن المبارك  عن سفيان  عن عبد الرحمن بن يزيد  عن بسر بن عبيد الله  عن أبي ادريس  عن واثلة رضي الله عنه عن أبي مرثد رضي الله عنه مرفوعا : (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) ، فقد وقعت الزيادة في هذا السند في موضعين :

زيادة سفيان  ، وهي وهم ممن دون ابن المبارك  ، لأن عددا من الثقات رووا الحديث عن ابن المبارك  عن عبد الرحمن بن يزيد  مباشرة ، ومنهم من صرح فيه بالإخبار  ، وهذا شرط في غاية الأهمية لتمييز المزيد في متصل الأسانيد .

زيادة أبي ادريس  ، وهي وهم من ابن المبارك  ، لأن عددا من الثقات رووا الحديث عن عبد الرحمن بن يزيد  ، فلم يذكروا أبا ادريس  ، ومنهم من صرح بسماع بسر من واثلة رضي الله عنه مباشرة . وقد نبه إلى هذه الزيادة أبو حاتم  في العلل حيث قال : وهم ابن المبارك  في زيادة أبي ادريس  لأن بسر بن عبيد الله  روى عن واثلة رضي الله عنه وأهل الشام أحفظ لحديثهم من الغرباء ، وقال  : كثيرا ما يحدث بسر  عن أبي ادريس  ، فغلط ابن المبارك  وظن أن هذا مما روى عن أبي ادريس عن واثلة رضي الله عنه ، وقد سمع بسر  هذا من واثلة نفسه ، العلل (1/349) ، (فسلك ابن المبارك رحمه الله الجادة في الرواية ، وهذا أحد القرائن الدالة على وهم الراوي) ، فإذا نظرنا إلى هذا السند مقارنة مع أمثلة المرسل الخفي يتضح لنا أنه في حالة المرسل الخفي ترجحت زيادة راو ساقط بين المرسل ومن يروي عنه ، أما في هذا السند فقد ترجح نقص راويين منه ، وهذا ضابط مهم للتفريق بين النوعين ، وقد قرره الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث ، وقال  بأنه إذا ورد الحديث من طريقين في أحدهما نقص وفي الآخر زيادة ، ولم يترجح لنا أحدهما ، فيحمل هذا على أن الراوي سمعه من شيخه ، وسمعه من شيخ شيخه ، فرواه مرة هكذا ، ومرة هكذا . الباعث الحثيث ص253 .

 

حكم الإحتجاج بالمرسل :

عدم الإحتجاج به مطلقا ، وهذا ما قرره مسلم  في مقدمة صحيحه ، حيث قال   : (إن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) ، وحكاه ابن عبد البر  عن جماعة أهل الحديث ، وأيده ابن الصلاح  في علوم الحديث ، وممن ذهب إلى ذلك أبو اسحاق الإسفراييني  (حتى حكي عنه عدم الإحتجاج بمراسيل الصحابة) ، وأبو بكر الباقلاني  .

الإحتجاج به مطلقا ، وهذا مذهب الأحناف  ومذهب المالكية  ، ويظهر هذا جليا من صنيع مالك  في موطأه ، حيث احتج بالمرسل وجعله من أصول كتابه ، وهذا ما جعل علماء الحديث يخرجونه من كتب الصحاح ، كما تقدم ذلك .

الإحتجاج بمرسل الصحابي فقط ، وهذا قول أهل الحديث ، وقد سبق بيان أن البعض ادعى الإجماع على ذلك ، وأن ابن الأثير  نقل الخلاف عن أبي اسحاق الإسفراييني  ، و إن كان رأيه رحمه الله مرجوحا .

الإحتجاج به إذا كان يرسل عن ثقة .

الإحتجاج بمرسل التابعي بالشروط التالية :

أن يكون هذا التابعي الكبير ثقة ثبتا ، لا يخالف غيره من الثقات الحفاظ ، وإذا خالفهم فإنما يخالفهم بالنقص لا الزيادة ، لأن هذا يدل على أنه جيد الحفظ ، شديد الورع في روايته ، فإذا شك في لفظة فإنه يتركها .

أن يكون ممن يحدث عن الثقات فلا يسمي مجهولا أو مرغوبا عن روايته ، فهذا يدل على أن شيوخه ثقات ، فهو مأمون السقط ، لا يسقط الإ ثقة .

ألا يكون في سند هذا المرسل طعن آخر ، فالحديث معل بالإرسال فقط ، ويشترط كذلك عدم وجود علة في المتن .

أن يتقوى هذا المرسل إما بـ :

رواية مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت ضعيفة ، فهي على الأقل صالحة للإعتبار ، وعليه فالرواية المسندة الصحيحة تصلح ، من باب أولى ، لتقوية المرسل ، وإن كانت الحجة في هذه الحالة قائمة بالمسند .

أن تتقوى برواية مرسلة أخرى ، لتابعي كبير آخر ، بشرط عدم اتحاد المخرج ، وممن نبه على ذلك الشافعي  ، حيث اشترط اختلاف بلدية كلا الراويين ، بحيث يكون كل منهما من بلد مغاير لبلد الآخر ، فعليه لا تتقوى رواية الراوي المرسلة برواية شيخه المرسلة ، لإتحاد مخرجيهما ، فاتحاد المخرج يبطل تقوية الحديث بمجموع هذه الطرق المتحدة المخرج ، وممن نبه إلى ذلك الشيخ الألباني  ، ومن المواضع التي نبه فيها إلى ذلك ، رسالة تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد ، حيث اعترض فيه على تصحيح بعض العلماء لحديث : (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) لوجود طريق له عند الحاكم  غير طريق أصحاب السنن المتكلم فيها ، حيث قال  : والحديث مداره عند الحاكم  وغيره على أبي صالح (وهو باذام ، الذي أكد مسلم  على أن الناس قد اتقوا حديثه ولا يثبت له سماع من ابن عباس) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فمدار كل الطرق عند الحاكم وأصحاب السنن على أبي صالح المتروك ، فلا يصلح أي منها لتقوية الآخر .

رواية موقوفة على صحابي (وهذا من أهم فوائد الموقوفات ، وإن كان لا يحتج بها ابتداءا) .

فتوى عوام أهل العلم بما يوافق لفظ أو معنى الحديث المعضد .

وهذا رأي الشافعي  ، ومع احتجاجه به إذا استوفى هذه الشروط فإنه يقول : ومع هذا فليس في رتبة الحديث المتصل ، وهو يرى عدم إلزام أحد به ، لأن المراسيل من قبيل الغيبات ، فقد يظهر للوهلة الأولى ، على سبيل المثال ، اختلاف المخرج ، ثم يتبين بعد ذلك اتحاد المخرج في طبقة من طبقات السند ، وعليه يسقط الإحتجاج به .

ومن المهم هنا أن نعلق على الرأي المشهور القائل بأن الشافعي  يحتج مطلقا بمراسيل سعيد بن المسيب  لأنه تتبعها فوجدها مسندة ، ونص على أنها حسان ، حيث أن المتتبع لصنيع الشافعي  يرى أنه لم يحتج بمراسيل سعيد  مطلقا ، وإنما رد بعض ما انفرد به سعيد  ولم يوجد له مسدد ، وقبل مراسيل غيره من كبار التابعين لما وجد ما يسددها كما نص على ذلك البيهقي  في (مناقب الشافعي) ، والخطيب البغدادي  وتابعهما على ذلك النووي  . وأما مراسيل صغار التابعين ، فقد نص الشافعي  على أنه لا يعلم أحدا قبلها .

وبعد استعراض الآراء ، رجح الشيخ السعد حفظه الله عدم الإحتجاج بالمرسل الإ مرسل الصحابي ، وأما مرسل التابعي فلا يحتج به لسقوط شرط الإتصال ، وينبه الشيخ حفظه الله على أنه قد وجد في مراسيل كبار التابعين ما يستنكر كمرسل سعيد بن المسيب  عند أبي داود  : (من ضرب أباه فاقتلوه) ، وهذا مخالف للنصوص الشرعية ، وإن كان فاعل ذلك يعزر بما يستحقه ، ومرسل : (من خرج بعد النداء فهو منافق) ، والثابت هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع حكما : (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ، لما رأى رجلا خرج من المسجد بعد النداء . 

وقسم الشيخ حفظه الله المرسل من حيث القوة إلى :

مراسيل الصحابة ، وهي حجة .

مراسيل من كان له رؤية ولم يثبت له سماع كأبي أمامة بن سهل وعبد الله بن أبي طلحة ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم .

مراسيل كبار التابعين كسعيد بن المسيب  ومراسيله أقوى من مراسيل المخضرمين ، وقد قدم السخاوي  مراسيل المخضرمين على مراسيل كبار التابعين ، وإن كانوا متقنين ، ويرجح الشيخ حفظه الله أن مراسيل المتقنين من التابعين أقوى من مراسيل المخضرمين ، بل إن مراسيل من بعدهم ممن لا يروون إلا عن الثقات كمحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي  مقدمة على مراسيل المخضرمين ، وقد نبه الشيخ حفظه الله إلى أن مراسيل إبراهيم النخعي  كلها صحاح إلا مرسلين فقط هما : مرسل الضحك في الصلاة ومرسل تاجر البحرين والله أعلم .

مراسيل الطبقة الوسطى من التابعين ممن لم يعرف عنهم أنهم لا يرسلون إلا عن ثقات كمراسيل عطاء وأبي العالية والحسن البصري ، وهذا معارض برأي ابن سيرين رحمه الله في مراسيل الحسن وأبي العالية ، حيث قال رحمه الله : لا تأخذوابمراسيل الحسن وأبي العالية ، فإنهما لا يباليان عمن أخذا . وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حديث أبي العالية رياح .

مراسيل صغار التابعين كالأعمش والزهري وقتادة ، وهي أوهى المراسيل .

 

مظان المراسيل :

مراسيل أبي داود  ، (وقد نبه الشيخ الحميد حفظه الله إلى أن مراسيل أبي داود  هي في الحقيقة جزء من كتاب السنن ، وليست كتابا مستقلا ، كما هو شائع اليوم) .

موطأ مالك  ، حيث كان مالك  يحتج بالمرسل كأصل من أصوله ، كما تقدم .

مصنف ابن أبي شيبة  ، وهو من مظان المرسل والموقوف .

مصنف عبد الرزاق  ، وهو أيضا من مظان المرسل والموقوف .  

المراسيل لإبن أبي حاتم .

جامع التحصيل لأحكام المراسيل للحافظ العلائي .

والمصنفان الأخيران ، هما في المرسل بمعناه العام ، (أي عدم سماع الراوي ممن يروي عنه أيا كانت طبقته) .

ثم شرع الشيخ حفظه الله في التعليق على الأمثلة التي ذكرها الحافظ الذهبي  على المرسل : فتكلم على مرسَلُ سعيد بن المسيَّب ، وقد سبق ذكره بالتفصيل ، ومرسَل مسروق ، وهو مسروق بن الأجدع الهمداني  التابعي المخضرم ، ومرسَلُ الصُّنَابِحِي ، وهو عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي  ، ومرسَلُ قيس بن أبي حازم  ، وقد قال ابن خراش بأنه لم يرو عن العشرة المبشرين بالجنة من التابعين إلا قيس ، ولكن أبا بكر بن أبي داود  ، فقال بأنه لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .

مرسل مجاهد   : وقد ألحقه الشيخ حفظه الله بمراسيل الطبقة الرابعة ، وهي مراسيل الطبقة الوسطى من التابعين .

مرسل إبراهيم النخعي  : وقد ألحقه الشيخ حفظه الله بمراسيل كبار التابعين ، رغم أنه ليس من طبقتهم ، وقد تقدم سبب ذلك ، وممن نص على ذلك أحمد وابن معين  .

مرسل عامر الشعبي  : وقد ألحقه الشيخ حفظه الله بمراسيل كبار التابعين ، لأنه لا يسمي إلا ثقة ، وممن نص على ذلك يحيى بن معين  .

ويقول الحافظ الذهبي  : ومن أوهى المراسيل عندهم ، مراسيلُ الحَسَن ، وأوهى من ذلك مراسيلُ الزهري ، و قتادة ، وحُمَيد الطويل ، وقد وافق الشيخ حفظه الله الذهبي  في ذلك .

 

المعضل:

يطلق المعضل على معنيين :

 ما سقط منه اثنان فأكثر على التوالي ، ويعرف ذلك إما بـ :

ورود الحديث مسندا من طريق آخر ، فتعرف أعيان الساقطين من سنده ، ومن الأمثلة على ذلك :

ما رواه الحاكم  في معرفة علوم الحديث بسنده إلى عبد الله بن مسلمة القعنبي  عن مالك  أنه بلغه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ، قال الحاكم  ، هذا معضل عن مالك  ، أعضله هكذا في الموطأ ، فهو معضل لأنه سقط منه اثنان متواليان بين مالك وأبي هريرة رضي الله عنه ، وقد عرفنا أنه سقط منه اثنان متواليان ، من رواية الحديث خارج الموطأ ، عن مالك  عن محمد بن عجلان  عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه .

ما رواه الأعمش  عن الشعبي  قال : ويقال للرجل يوم القيامة : عملت كذا وكذا ؟ فيقول : لا ، فيختم على فيه ، الحديث ، فقد أعضله الأعمش  ، لأن الشعبي يرويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسقط منه اثنين على التوالي ، وهما أنس رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفنا أعيان الساقطين من السند ، من رواية مسلم  عن فضيل بن عمرو  عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وإما بمعرفة طبقة الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يمكن أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بواسطتين أو أكثر ، كمراسيل صغار التابعين كالزهري وقتادة رضي الله عنهما ، فإن الغالب على روايتهم ، أن تكون عن تابعي كبير عن صحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ربما كانت سلسلة الإسناد أطول من ذلك ، كما في رواية الأقران ، كأن يرويه أكثر من راو عن راو من نفس طبقته ، سواءا في طبقة الصحابة أو كبار التابعين أو صغارهم ، ومن الأمثلة على ذلك ،

رواية موسى بن عقبة  (وهو من صغار التابعين) ، عند ابن عساكر  ، بلفظ : (وجعل عند قبره مسجد) ، أي عند قبر أبي بصير رضي الله عنه ، (وهي رواية ضعيفة لأنها معضلة) ، تحذير الساجد ص81 ، طبعة المكتب الإسلامي .

وقد نبه ابن الصلاح  إلى أن المعضل يدخل فيه قول المصنفين من الفقهاء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سماه الخطيب البغدادي  في بعض مصنفاته بالمرسل ، وهو هنا يستخدم المعنى العام للإرسال ، الذي سبق التنبيه عليه ، وهو كل ما لايتصل إسناده .

وذكر د/محمود الطحان حفظه الله في كتابه تيسير مصطلح الحديث ، أن بين المعضل والمعلق عموما وخصوصا من وجه .

فيجتمع المعضل مع المعلق في صورة واحدة وهي : إذا حذف من مبدأ اسناده راويان متواليان . فهو معضل ومعلق في آن واحد .

ويفارقه في صورتين :

إذا حذف من وسط الإسناد راويان متواليان ، فهو معضل وليس بمعلق .

إذا حذف من مبدأ الإسناد راو فقط ، فهو معلق وليس بمعضل .

بمعنى البطلان :

ومثاله : حديث رواه الذهلي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا ، وقال عنه : هذا حديث معضل وإنما هو من كلام عائشة رضي الله عنها ، فأعله بالوقف ووصفه بالإعضال ، وكثيرا ما يقول النقاد : فلان يروي المعضلات (أي المنكرات) .

 

حكم الحديث المعضل :

المعضل حديث ضعيف ، وهو أسوأ حالا من المرسل والمنقطع ، لكثرة المحذوفين من الإسناد ، ففي حالة المنقطع على سبيل المثال ، (وهو ما سقط من سنده رجل دون الصحابي ، كما سيأتي إن شاء الله) ، يمكن معرفة عين الساقط من السند ، بمعرفة شيوخ الراوي وتلاميذ من يروي عنه ، ومحاولة إيجاد المشترك بينهما ، وهذا متعذر في حالة المعضل لكثرة الساقطين من السند .

 

من مظان المعضل :

سنن سعيد بن منصور .

مؤلفات ابن أبي الدنيا . 

 

الحديث المنقطع :

ماسقط من اسناده رجل دون الصحابي ، لأن جهالة الصحابي أو سقوطه غير ضار لعدالة الصحابة رضي الله عنهم كلهم ، وقد عرفه د/محمود الطحان حفظه الله في كتابه تيسير مصطلح الحديث بقوله : ما لم يتصل اسناده ، على أي وجه كان انقطاعه . ويشرح د/محمود حفظه الله التعريف بقوله : يعني كل اسناد انقطع من أي مكان كان ، سواء كان الإنقطاع من أول السند أو من آخره أو من وسطه ، فيدخل فيه_على هذا_المرسل (وهذا ما أكد عليه ابن الصلاح  ، غير أن المرسل أكثر ما يطلق على ما رواه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمعلق والمعضل ، لكن علماء المصطلح المتأخرين خصوا المنقطع بما لم تنطبق عليه صورة المرسل أو المعلق أو المعضل ، وكذلك كان استعمال المتقدمين في الغالب ، ولذلك قال النووي  : وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعي عن الصحابي ، كمالك عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ثم إنه قد يكون الإنقطاع في مكان واحد من الإسناد ، وقد يكون في أكثر من مكان واحد ، كأن يكون الإنقطاع في مكانين أو ثلاثة مثلا ، ومن الأمثلة على ذلك :

ما رواه عبد الرزاق  عن الثوري  عن أبي إسحاق  عن زيد بن يثيغ  عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا : (إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين) ، الحديث ، ففيه انقطاع في موضعين ، أحدهما ، أن عبد الرزاق   لم يسمعه من الثوري  ، إنما رواه عن النعمان بن أبي شيبة الجندي  عنه ، والثاني ، أن الثوري   لم يسمعه من أبي إسحاق  ، إنما رواه عن شريك  عنه .

وقد نقل ابن كثير  في اختصار علوم الحديث قول بعض العلماء بأن المنقطع هو من يذكر فيه رجل مبهم (ولو كان الإسناد متصلا) ، وذكر مثالا لذلك ، وهو ما رواه العلاء بن عبد الله الشخير  عن رجلين عن شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعا : (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر) ، والأدق أن يقال بأنه متصل الإسناد فيه من لم يسم ، أو فيه مبهم .  

وقال بعض أهل العلم بالحديث : الحديث المنقطع ما روي عن التابعي ومن دونه موقوفا عليه ، من قوله أو فعله ، (وهذا هو تعريف المقطوع على التابعي اصطلاحا) ، وقد ذكر الشيخ السعد حفظه الله ، أن هذا هو صنيع البرديجي  في جزء له كما ذكر ذلك ابن حجر .    

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن بلاغات مالك  ، يطلق عليها أيضا وصف الإنقطاع (بمعناه العام ، أي بمعنى أي سقط في السند) ، ونبه حفظه الله إلى أن كثيرا منها متصل بأسانيد صحيحة وبعضها بلا إسناد .

 

الحديث الموقوف :

ما أسند إلى الصحابي من قوله أو فعله ، ولا يقال إقراره لأن إقراره ليس بحجة ، وقد نبه ابن الصلاح  إلى أن الموقوف قد يكون متصلا وقد يكون غير متصل (وكذا المرفوع والمقطوع) ، لأن هذه المباحث ، من مباحث المتن ولا علاقة لها بالإسناد ، ومن الأمثلة عليه :

مثال الموقوف القولي : ما رواه البخاري  عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) .

مثال الموقوف الفعلي : قول البخاري  : (وأم ابن عباس رضي الله عنهما وهو متيمم) .

وقد سبق التنبيه إلى أن الموقوفات عند البخاري  أكثر منها عند مسلم  ، وسبق التنبيه إلى أن كتب السنن غالبا ما تقتصر على الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون الموقوف والمقطوع .

وقد يستعمل اسم الموقوف فيما جاء عن غير الصحابة لكن مقيدا ، فقال مثلا ، هذا حديث وقفه فلان على الزهري أو على عطاء ، ونحو ذلك . وللفقهاء الخرسانيين اصطلاح خاص بهم : فهم يطلقون على المرفوع لفظ الخبر وعلى الموقوف لفظ الأثر ، لأنه مأخوذ من (أثرت الشيء) أي رويته .

الإحتجاج بالموقوف :

الموقوف قد يكون صحيحا أو حسنا أو ضعيفا ، ولكن حتى لو ثبتت صحته ، فإنه لايحتج به ، لأنه أقوال وأفعال صحابة ، لكنه إن ثبت فإنه يقوي الحديث الضعيف أو المرسل ، كما سبق في مبحث المرسل ، لأن حال الصحابة رضي الله عنهم كان العمل بالسنة ، وهذا إذا لم يكن له حكم المرفوع ، أما إذا كان من القسم الذي له حكم المرفوع فهو حجة كالمرفوع ، وقد سبق من كلام الشيخ طارق عوض الله حفظه الله أن من احتج بقول الصحابي (أي الموقوف عليه) لم يقصد بقوله هذا مطلق الإحتجاج ، وإنما قصد الإستشهاد والتقوية ، وهذا ما يطلق عليه في كتب الأصول ، جزء حجة ، فلا ينهض للإحتجاج بمفرده كالحديث الصحيح المرفوع .

 

مظان الموقوف :

مصنف عبد الرزاق  :

ومصنفه هو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم، اليماني، أبو بكر الصنعاني ، ولابد لنا من ذكر بعض أقوال الأئمة في عبد الرزاق  ، لتقييم أحاديث مصنفه ، ولا سيما أحاديث الفضائل ، ومن أبرز من تكلم في عبد الرزاق  : 

أبو أحمد بن عدي  ، حيث قال : لعبد الرزاق أصناف وحديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم، وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأسا ، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع ، وقد روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليه أحد من الثقات ، فهذا أعظم ما ذموه من روايته لهذه الأحاديث .

وقال يحيى بن معين : سمعت من عبد الرزاق كلاما يوما فاستدللت به على ما ذكر عنه من المذهب ، فقلت له: إن أستاذيك اللذين أخذت عنهم ثقات كلهم أصحاب سنة ، معمر ، ومالك بن أنس ، وابن جريج ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، فعمن أخذت هذا المذهب ؟ فقال : قدم علينا جعفر بن سليمان الضبعي فرأيته فاضلا حسن الهدي ، فأخذت هذا عنه ، وأكد على ذلك محمد بن أبي بكر المقدمي ، وقد نفى أحمد رحمه الله في سؤالات ابنه عبد الله إفراط عبد الرزاق في التشيع .

ومما يجدر التنبيه عليه ، أن عبد الرزاق  ، عمي في آخر حياته ، فكان يلقن قيتلقن ، كما نص على ذلك أحمد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

قول الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث النار جبار فقال هذا باطل من يحدث به عن عبد الرزاق ؟ قلت : حدثني أحمد بن شبوية ، قال : هؤلاء سمعوا منه بعد ما عمى كان يلقن فلقنه وليس هو في كتبه وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعد ما عمي .

ونبه النسائي رحمه الله إلى هذا ، فقال في ترجمة عبد الرزاق : فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة روي عنه أحاديث مناكير .

وقد نبه البخاري وابن معين ، إلى صحة كتاب عبد الرزاق ، حيث قال ابن معين : ما كتبت عن عبد الرزاق حديثا واحدا إلا من كتابه ، وقال البخاري : ما حدث من كتابه فهو أصح ، وهو من أثبت الناس في معمر بن راشد ، وقد قدمه أحمد في حديث معمر على البصريين .

وقد تشدد أبو حاتم رحمه الله ، فقال عن عبد الرزاق : لايحتج به ، وذكره العقيلي رحمه الله في الضعفاء .

ولعل أحاديث الفضائل التي أخذت عليه ، كانت من هذا الذي لقنه ، فخلاصة القول في مصنف عبد الرزاق  ، أنه كتاب جيد في بابه ، ولكن ينبغي التدقيق في  أحاديث الفضائل فيه ، فقد حدث لعبد الرزاق  ، ما حدث للحاكم  ، من التساهل في ايراد أحاديث الفضائل .

ومَنْ نظر في مصنف عبد الرزاق ، كما يقول الأخ يحيى القطان حفظه الله ، أحد أعضاء ملتقى أهل الحديث ، وجد عِلْمًا جمًّا في الفقه والرواية ، لا في النقد والكلام على الأحاديث ، ويشهد لهذا تراجم أبواب المصنف ، ثم اختيارات عبد الرزاق الصنعاني الفقهية، وغالبًا ما يقول فيها عبد الرزاق: ((وبهذا نأخذ)) ، وقد تكرر هذا في مواضع من المصنف . 


مصنف ابن أبي شيبة  :

ومصنفه هو عبد الله بن محمد ابن القاضي أبي شيبة  ، ويحسن بنا أن نورد بعض آراء الأئمة فيه بشكل موجز :

حيث قال عنه أحمد  : أبو بكر صدوق ، هو أحب إلي  من أخيه عثمان ، وهذا أمر بالغ الأهمية لأن لعبد الله ، صاحب المسند  ، أخوان ، الأول عثمان  ، صاحب التفسير ، وقد تكلم فيه من جهة تصحيف قراءة القرآن ، ولعل هذا من الأسباب التي دعت أحمد  لتفضيل أبي بكر  عليه ، وإن كان ابن الصلاح  قد أنكر هذه الدعوى بشدة ، كما نقل عنه ابن كثير  في اختصار علوم الحديث ، وجدير بالذكر أن رواية مسلم  عن أبي بكر  أكثر من روايته عن عثمان ، وهذا مما يرجحه على أخيه بلا شك ، وأما الثاني فهو القاسم  ، وهو ضعيف لا رواية له في الصحيح ، لذا وجب التنبيه على ذلك ، لإختلاف نظرة النقاد في أولاد ابن أبي شيبة  .    
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: كان أبو بكر ثقة حافظا للحديث.

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام  : انتهى الحديث إلى أربعة؛ فأبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه ، ويحيى بن معين أجمعهم له ، وعلي بن المديني أعلمهم به .

وممن تكلم على مصنف ابن أبي شيبة  ، الحافظ ابن كثير  حيث قال : وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده .اهـ  ، ولذا فإن الشيخ عبد الرحمن السديس حفظه الله يقول في معرض ترجيحه بين مصنف عبد الرزاق  ومصنف ابن أبي شيبة  بأن عبد الرزاق أعلى إسنادا ، لكن ابن أبي شيبة مصنفه أكثر آثارا ففيه زيادة على مصنف عبد الرزاق قرابة السبعة عشر ألفا .

ونبه الشيخ عبد الرحمن الفقيه حفظه الله ، إلى مسألة تصرف ابن أبي شيبة رحمه الله ، في بعض أحاديث مصنفه ، ونقل كلام ابن رجب رحمه الله في هذه المسألة ، حيث قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى فى فتح البارى (2/103-105) فى اثناء شرحه للحديث (317) فى أمر النبى صلى الله عليه وسلم عائشة عندما حاضت فى الحج بنقض العمرة ونقض راسها وامتشاطها :
وقد ذكر ابن ماجه فى كتابه باب الحائض كيف تغتسل قال حدثنا ابو بكر بن ابى شيبة وعلي بن محمد قالا ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضا (انقضي شعرك واغتسلي) قال علي فى حديثه (انقضي رأسك) ، وهذا أيضا يوهم أنه قال لها ذلك فى غسلها من الحيض وهذا مختصر من حديث عائشة الذى خرجه البخارى ، وقد ذكر هذا الحديث المختصر للإمام أحمد عن وكيع فأنكره ، فقيل له : كأنه اختصره من حديث الحج ، قال : ويحل له ان يختصره ؟ ، نقله عنه المروذى ونقل عنه اسحاق بن هانى أنه قال هذا باطل .

وقال أبوبكر الخلال : (إنما أنكر احمد مثل هذا الاختصار الذى يخل بالمعنى لا أصل اختصار الحديث ، وقال : وابن أبي شيبة فى مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى) .

الحديث المرفوع :

ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة ، سواء كان متصلا أو منقطعا أو مرسلا ، فهو كما سبق من مباحث المتن فلا علاقة له بسند الحديث ، وإن كان الخطيب البغدادي  قد نفى أي يكون المرفوع مرسلا ، فقال  : هو ما أخبر فيه الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الغالب على المرفوعات ، فكأن الخطيب رحمه الله ، يقصد التنبيه على ذلك من خلال تعريفه .

أقسام المرفوع :

المرفوع صراحة : وينقسم ، كما سبق من التعريف ، إلى أربعة أقسام :

المرفوع القولي ، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) .

المرفوع الفعلي ، ومثاله أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل إلى بيته بدأ بالسواك .

المرفوع التقريري ، ومثاله تقريره صلى الله عليه وسلم الجارية حين سألها (أين الله) ، قالت : في السماء فأقرها على ذلك .

المرفوع الوصفي ، وهو إما صفة خلقية ، ومثاله : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأشجع الناس … الحديث ، أو صفة خلقية ومثاله : كان النبي صلى الله عليه وسلم ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير… الحديث .

المرفوع حكما :   

ما كان له حكم المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أنواع :

الأول : قول الصحابي إذا لم يمكن أن يكون من قبيل الرأي ولم يكن تفسيرا ولا معروفا بالأخذ عن الإسرائيليات ، مثل أي يكون خبرا عن أشراط الساعة أو أحوال القيامة أو الجزاء ، وهنا يبرز سؤال مهم : ما حكم التفسير المنقول عن الصحابي ؟

يناقش الشيخ أحمد شاكر  الرأي القائل بأن قول الصحابي مما لا مجال فيه للرأي له حكم الرفع ، بقوله : إنه إطلاق غير جيد ، لأن الصحابة اجتهدوا كثيرا في تفسير القرآن ، فاختلفوا ، وأفتوا بما يرونه من عمومات الشريعة تطبيقا على الفروع والمسائل ، ويظن كثير من الناس أن هذا مما لا مجال للرأي فيه  .

ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى قوله تعالى : (ويسئلونك عن المحيض … ) الآية ، فقال لمولاه نافع  تدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا ، قال : أنزلت في كذا وكذا ثم مضى ، أي أنزلت في إتيان النساء في أدبارهن ، ومضى ، أي استأنف القراءة ، فظاهر هذا الحديث يوحي أن له حكم الرفع (لأن صيغته قد توحي بأنه سبب نزول هذه الآية) ، ولكنه في الحقيقة اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما ، في استنباط حكم إتيان النساء في أدبارهن من هذه الآية .   

حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين بفؤاده ، فهذا الحديث للوهلة الأولى يوحي أن له حكم الرفع ، ولكنه في الحقيقة موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما ، لأنه استنبطه من قوله تعالى : (ما كذب الفؤاد ما رأى) وقوله تعالى : (ولقد رآه نزلة أخرى) ، ولكن المقصود في الآية الثانية هو جبريل صلى الله عليه وسلم ، كما ورد عن عائشة رضي الله عنها ، حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم في موطنين ، في أجياد وفي رحلة المعراج .

ويواصل الشيخ أحمد شاكر  بقوله : وأما ما يحكيه بعض الصحابة من أخبار الأمم السابقة ، فإنه لا يعطى حكم المرفوع أيضا ، لأن كثيرا منهم رضي الله عنهم كان يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب ، على سبيل الذكرى والموعظة ، لا بمعنى أنهم يعتقدون صحتها ، أو يستجيزون نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . الباعث الحثيث ص66 ، 67 .

وقد ناقش الحافظ  هذه المسألة في النكت ، فقال بأن تفسير الصحابي إن كان مما لا مجال للإجتهاد فيه ولا مجال للنقل عن لسان العرب فيه (أي التفسير اللغوي المنقول عن لسان العرب) ، فهو من قبيل المرفوع حكما .

ويقول الشيخ ابن عثيمين  بأن قول الصحابي إن كان معروفا بالأخذ عن الإسرائيليات فهو متردد بين أن يكون خبرا إسرائيليا أو حديثا مرفوعا ، فلا يحكم فيه بأنه حديث للشك فيه ، وقد ذكروا أن العبادلة وهم : عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخذوا عن أخبار بني إسرائيل من كعب الأحبار أو غيره .

الثاني :

فعل الصحابي إذا لم يمكن أن يكون من قبيل الرأي ، ومثلوا لذلك بصلاة علي رضي الله عنه في الكسوف أكثر من ركوعين في كل ركعة ، وجدير بالذكر أن صلاة الكسوف قد ورد في صفتها أكثر من رواية ، فرواية النعمان بن بشير وقبيصة الهلالي رضي الله عنهما ، فيها الصلاة بركوع واحد ، كهيئة الصلاة المعتادة ، ورواية عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم ، فيها الصلاة بركوعين (وهي الأرجح) ، وأكثر ما ورد خمسة ركوعات في كل ركعة .

 

الثالث :

أن يضيف الصحابي شيئا إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنه علم به (وهذا مذهب الجمهور ، وخالف الإسماعيلي  وقال بأن هذا له حكم الموقوف ولا يصح رفعه) ، كقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها : ذبحنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرسا ونحن في المدينة فأكلناه ، وأما إذا لم يضفه إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كحديث : (كنا نسافر فإذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا) ، فهذا الحديث لم يسنده راويه لزمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا اختلفت آراء العلماء فيه ، فنقل أبوبكر البرقاني  عن شيخه أبي بكر الإسماعيلي  ، أن له حكم الوقف ولا يصح رفعه ، وذهب النيسابوري والحاكم والرازي والآمدي والنووي في المجموع والعراقي وابن حجر  ، إلى الحكم برفعه ، وظاهر صنيع البخاري  يؤيد هذا الرأي ، (وهو الراجح) .

 

الرابع :

أن يقول الصحابي عن شيء بأنه من السنة ، كقول ابن مسعود رضي الله عنه : من السنة أن يخفي التشهد ، يعني في الصلاة ، فالجمهور على أن هذه الرواية لها حكم الرفع ، وخالف البعض بحجة أن السنة قد تطلق على فعل غير النبي صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم : (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين …) ، الحديث ، والرد على هذا الرأي هو أن لفظ السنة إذا أطلق ، كرواية ابن مسعود رضي الله عنه السابقة ، فيراد به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا غير ، وإذا قيد بغيره فهو تابع لهذا الغير ، وإن قاله تابعي ، فقيل : مرفوع ، وقيل موقوف (أي موقوف على هذا التابعي) ، كقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود  : السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس ، وكرواية الأثرم  عن أبي سلمة بن عبد الرحمن  : (السنة في اليوم المطير الجمع بين المغرب والعشاء) وقد علق الألباني  على هذا الأثر بقوله : لم أقف على إسناده وإن صح فإن له حكم الوقف عليه (أي على أبي سلمة  ) .

 

الخامس :

قول الصحابي : أمرنا ونهينا أو أمر الناس ونحوه ، كقول أم عطية رضي الله عنها : أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق ، وقول أنس رضي الله عنه : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، وقول ابن عباس رضي الله عنهما : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت طوافا ، وقول أنس رضي الله عنه : وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك فوق أربعين ليلة ، وأقوى منه ، كما يقول الشيخ أحمد شاكر  ، قول الصحابي : أحل لنا كذا أو حرم علينا كذا ، فإنه ظاهر في الرفع حكما ، لا يحتمل غيره ، وهذا مذهب الجمهور  ، وخالف الإسماعيلي  ، وقال بأنه لا يلزم منه الحكم برفع الحديث ، وحجة المخالف ، أن الصحابة رضي الله عنهم ، تأمر عليهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفاؤه الأربعة ، فربما كان هذا الأمر أو النهي صادرا منهم ، والرد على هذا بأنه فيما يتعلق ببيان الشريعة ، يكون قول الصحابي : أمرنا أو نهينا ، في حكم المرفوع لا محالة ، لأن الأمر أو النهي التشريعي لا يصدر إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم .

مسألة : فرع المخالفون مسألة ، إذا قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : أمرنا أو نهينا ، وقالوا بأن هذا له حكم الرفع خاصة ، لأنه لم يتأمر عليهما أحد من الصحابة ، والرد على هذا الرأي ، بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، وإن كانا مقدمين على كل الصحابة ، إلا أنه قد تأمر عليهم غيرهم من الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، تأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه عليهما في غزوة ذات السلاسل .

 

السادس :

أن يحكم الصحابي على شيء بأنه معصية كقول أبي هريرة رضي الله عنه فيمن خرج من المسجد بعد الأذان : أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، وكذا لو حكم الصحابي على شيء بأنه طاعة إذ لا يكون الشيء معصية أو طاعة إلا بنص من الشارع ولا يجزم الصحابي بذلك إلا وعنده علم منه .

 

السابع :

قولهم عن الصحابي ، رفع الحديث أو رواية أو ينميه أو يبلغ به أو يأثره ، كقول سعيد بن جبير  عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الشفاء في ثلاث : شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنهى أمتي عن الكي ، رفع الحديث ، وقول سعيد بن المسيب  عن أبي هريرة رضي الله عنه رواية : الفطرة خمس _أو خمس من الفطرة : الختان والإستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب ، وحديث الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه رواية : تقاتلون قوما صغار الأعين .

 

الثامن :

أن يفسر الصحابي تفسيرا له تعلق بسبب نزول آية ، كقول جابر رضي الله عنه : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله تعالى : (نساؤكم حرث لكم …) الآية .

 

الحديث المتصل :

وهو ما اتصل سنده مرفوعا أو موقوفا أو مقطوعا ، ويسمى الموصول ، وهو ينفي كل أسباب الإنقطاع كالإرسال ، كما قرر ذلك ابن الصلاح  .

 

الحديث المسند :

وقد انقسم العلماء  في تعريفه إلى 3 أقسام :

القسم الأول : قالوا ، هو ما اتصل إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا تعريف الحاكم  ، ويلاحظ أن أصحاب هذا التعريف اشترطوا الإتصال والرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الرأي الأرجح .

القسم الثاني : قالوا ، هو ما اتصل سنده إلى منتهاه ، وهذا تعريف الخطيب البغدادي  ، وعليه فإن الموقوف والمقطوع المتصلي الإسناد يدخلان في حد هذا التعريف .

القسم الثالث : قالوا ، هو ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا تعريف ابن عبد البر  ، ويلاحظ أن أصحاب هذا التعريف لم يشترطوا إلا الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخل في حده كل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان منقطع الإسناد ، وإلى هذا الرأي مال الشيخ السعد حفظه الله ، وقال بأن المقصود بالمسند هنا ، أي ما له إسناد ، سواءا كان متصلا أو منقطعا ، ويؤيد هذا أن مسانيد أهل العلم  كمسند أحمد  فيها المنقطع ، ومع ذلك دخل فيها .

 

الحديث الشاذ :

تعريف الشذوذ لغة :

مطلق التفرد .

تعريفه اصطلاحا :

تعريف الشافعي  :

هو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس ، وليس من ذلك أن يروي ما لم يروه غيره .

التعليق على التعريف :

من هذا التعريف يمكننا استنتاج نوعين من الشذوذ :

الشذوذ بقيد المخالفة : وهو الذي اعتمده الشافعي  في تعريف الشاذ ، وهو مخالفة الثقة لجماعة من الثقات ، أو لمن هو أوثق منه ، كأن ينفرد هذا الثقة بحديث عن شيخ له ، لا يرويه غيره (بنفس لفظه) من تلاميذ هذا الشيخ الملازمين له ، المكثرين عنه ، فهذا من علامات الشذوذ البينة ، ومن الجدير بالذكر أن الشذوذ بقيد المخالفة يقع في المتن ويقع في الإسناد أيضا ومن الأمثلة على ذلك ، ويعترض الشيخ طارق بن عوض الله على القول بأن الشافعي حصر الشاذ في رواية الثقة فقط ، رغم أن صيغة التعريف السابق تؤيد ذلك ، لأن الشافعي لم يقل هذا القول في معرض صياغته لتعريف جامع مانع للشاذ ، وإنما قاله في مناظرة من ييقول برد حديث الثقة إذا تفرد ، فكأن الخصم يرد حديث الثقة المتفرد مطلقا ، فيرد عليه الشافعي بقوله : ليس الشاذ ما يتفرد به الثقة ، وإنما يشذ الثقة إذا روى ما لم يرو غيره ، فحديثه حينئذ مردود ، وإن كان ثقة .  

أولا : الشذوذ في المتن :

وقد قسمه الشيخ السعد حفظه الله إلى قسمين :

مع المخالفة : وهو ينقسم إلى قسمين :

أ . الشذوذ في المتن مع المخالفة في كل المتن ، ومن الأمثلة على ذلك :

حديث اضطجاع النبي صلى الله عليه وسلم بعد أذان الفجر ، فقد خالف مالك  (وهو إمام حافظ) ، جماعة من الثقات ، وقال بأن هذه الضطجعة كانت قبل الأذان ، بينما قال المخالفون بأنها كانت بعد الأذان وهو الصحيح ، وعليه فرواية مالك  شاذة بقيد المخالفة .

حديث أبي داود والترمذي  من طريق عبد الواحد بن زياد  عن الأعمش  عن أبي صالح  عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إذا اصلى أحدكم الفجر فليضطجع عن يمينه ، قال البيهقي  معلقا على هذا الحديث : خالف عبد الواحد  العدد الكثير في هذا ، فإن الناس إنما رووه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله ، وانفرد عبد الواحد  من بين ثقات أصحاب الأعمش  بهذا اللفظ .

حديث شعيب بن أبي حمزة  عن ابن المنكدر  عن جابر رضي الله عنه : (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) وهذا اللفظ غير صحيح كما أشار إلى ذلك أبو داود  حيث أن أصحاب جابر رضي الله عنه و أصحاب ابن المنكدر   رووا هذا الحديث بغير هذا اللفظ حيث رووا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم إليه طعام فأكل منه ثم توضأ وقام للظهر ثم قدم له طعام فأكل منه ثم قام للعصر ولم يتوضأ ، فلفظ شعيب  يفهم منه أن الوضوء مما مست النار منسوخ (أي أنه غير مشروع) بينما لفظ الرواية الأخرى يفيد أن الوضوء مما مست النار مستحب (أي مشروع) وهذا ما أكد عليه ابن تيمية ، (فكأن النسخ هنا وقع للوجوب دون أصل المشروعية) ، وسبب هذا الإختلاف أن شعيب أخذ كتاب ابن المنكدر عن اسحاق بن أبي فروة وهو متروك .

حديث : (لا يقل أحدكم أطعم ربك وليقل سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي) ، عند البخاري ومسلم  ، فقد جاء في رواية عند مسلم  : (لا يقل أحدكم مولاي وإنما مولاكم الله عز وجل) ، فتعارض الأمر في الرواية الأولى مع النهي في الرواية الثانية ، وكلاهما جاء من طريق واحد ، وعليه فالرواية الثانية (رواية مسلم ) شاذة ، ولا يمكن الجمع بينها وبين الرواية الأولى لإتحاد المخرج ، خلاف ما لو كانت الروايتان قد جاءتا من طريقين مختلفين ، فساعتها كان يمكن الجمع بينهما بأن نقول بأن النهي في الرواية الثانية للتنزيه ، بدليل الأمر في الرواية الأولى . 

ب . الشذوذ في المتن مع المخالفة في جزء من المتن ، ومن الأمثلة على ذلك :

حديث : (إن الله ينشيء للنار خلقا) ، فهذه رواية شاذة ، والرواية الصحيحة هي : (إن الله ينشيء للجنة خلقا) ، فالمخالفة هنا في كلمة واحدة فقط من المتن .

حديث الدعاء بعد الأذان : (اللهم رب هذه الدعوة التامة …) الحديث ، فقد جاء هذا الحديث من طريق أحمد والبخاري والذهلي  وغيرهم من الحفاظ بدون ذكر زيادة (إنك لا تخلف الميعاد) ، وجاء من طريق محمد بن عوف الحمصي  بذكر هذه الزيادة ، فقد خالف محمد بن عوف  بزيادته جزءا من المتن .

حديث عمر بن حمزة  (وفيه ضعف) عن سالم  عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : (إن الله يقبض السماوات بيمينه ويأخذ الأرض بشماله) ، فهذا الحديث بهذه الرواية رده البيهقي وابن حجر  ، ومن قبلهما ابن خزيمة  في كتاب التوحيد ، لأن ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما من الطرق الأخرى ليس فيه لفظ الشمال ، فقد خالف عمر بن حمزة  بقية الطرق الأخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ورواية الحديث من طريق أبي هريرة عند البخاري  ليس فيها لفظ الشمال ، وهذا بالإضافة إلى مخالفة هذا المتن لمتون أخرى ثابتة ، كحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه أن كلتا يديه سبحانه وتعالى يمين .    

بدون المخالفة وهو الشذوذ بقيد التفرد :

وهو أن يتفرد راو ثقة عن شيخ بما لم يتابع عليه ، وهذا القسم ، فصل فيه ابن الصلاح  القول إلى ثلاثة أقوال :

إن كان هذا المتفرد من الأئمة الحفاظ الذين يحتمل تفردهم ، فهو حديث صحيح ، غريب بقيد الصحة ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث : (إنما الأعمال بالنيات) ، فقد تفرد به علقمة  عن عمر رضي الله عنه ، وتفرد به محمد بن إبراهيم التيمي  عن علقمة  ، وتفرد به يحيى بن سعيد  عن محمد بن إبراهيم  ، ثم تواتر بعد ذلك عن يحيى  .

حديث عبد الله بن دينار   عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر .

حديث مالك  عن الزهري  عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر . وهذه الأمثلة الثلاثة ، مروية في الصحيحين من هذه الأوجه المذكورة فقط . وقد قال مسلم  : للزهري  تسعون حرفا لا يرويها غيره .

وإن كان المتفرد لا يبعد عن الحفاظ المتقنين ، ولكن ضبطه أخف منهم ، فهو حديث حسن .

وإن كان بعيدا عن الحفاظ المتقنين ، بحيث لا يحتمل تفرده فحديثه مردود .

وجدير بالذكر أن الجمهور لم يفرق بين إطلاق المنكر أو الشاذ على ، سواءا كان الراوي المخالف أو المتفرد ثقة أو ضعيفا ، وعليه يحمل قول الذهبي  : قد يكون تفرد الصدوق منكرا ، فتفرد الصدوق طبقا للتقسيم السابق هو شذوذ بقيد التفرد وليس نكارة ، ويحمل عليه أيضا قول بعض العلماء عن راو ثقة : له مناكير ، ولم يقولوا له شواذ ، فدل ذلك على أن الشذوذ والنكارة عندهم بمعنى واحد ، أما الحافظ ابن حجر  فقد فرق بين اللفظين ، فجعل الشذوذ خاصا بالثقة سواءا خالف أو تفرد ، حسب التقسيم السابق ، وجعل النكارة خاصة بالراوي الضعيف سواءا خالف أو تفرد ، وفي كلتا الحالتين حديثه مردود ، لأنه في الحالة الأولى ، خالف من هو أوثق منه ، وفي الحالة الثانية لا يحتمل تفرده لأنه ضعيف .

 

 

 

ثانيا : الشذوذ في الإسناد :

وقد قسمه الشيخ السعد حفظه الله إلى قسمين :

الشذوذ في الإسناد مع المخالفة : وهو إما أن يكون في رجل واحد أو أكثر ومن الأمثلة على ذلك :

حديث الترمذي والنسائي وابن ماجة  من طريق ابن عيينة  عن عمرو بن دينار  عن عوسجة  عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه ، فقد تابع ابن عيينة  على وصله ابن جريج  وغيره ، بينما خالف حماد بن زيد  ، فرواه عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما ، ولذا قال أبو حاتم  : المحفوظ حديث ابن عيينة  ، فحماد بن زيد  من أهل العدالة والضبط ، ومع ذلك فقد رجح أبو حاتم  رواية من هم أكثر عددا منه .

حديث يعلى بن عبيد الطنافسي  عن سفيان الثوري  عن عمرو بن دينار  عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : البيعان بالخيار الحديث ، فقد خالف يعلى بن عبيد  ، جماعة من الثقات من أصحاب سفيان  ، كأبي نعيم الفضل بن دكين ، ومحمد ابن يوسف الفريابي ، ومخلد بن يزيد  ، في تسمية عمرو بن دينار  ، والصواب أنه عبد الله بن دينار  ، ولم يتابعه عليه إلا مخلد بن يزيد  في رواية عند النسائي  ، وهذه المتابعة لا تكفي لإزالة هذا الشذوذ .

ما جاء عند الطبراني  في الأوسط وأبي نعيم في الحلية من حديث حسان بن إبراهيم الكرماني  عن عبد العزيز بن أبي رواد   عن نافع   عن ابن عمر رضي الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يأتيه بماء من مطاهر المسلمين يرجو بركة أيديهم .

حديث : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، فقد جاء هذا الحديث من طريق مالك  عن الزهري  عن علي بن الحسين  مرسلا ، وخالف قرة  فرواه عن الزهري  عن أبي سلمة بن عبد الرحمن  عن أبي هريرة رضي الله عنه موصولا ، ومالك  أرجح من قرة فروايته هي المحفوظة ورواية قرة هي الشاذة ، وقد خالف قرة  في روايته في رجلين ، وقد ذكر ابن عدي حين ترجم لقرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل 1 في كتابه (الكامل) بعض أحاديثه ليشير بها إلى أن هذه الأحاديث قد أخطأ فيها قرة، الأمر الذي دفع علماء الجرح والتعديل إلى تضعيفه ، ومنها هذا الجديث ، وتوضيح ذلك أن قرة بن عبد الرحمن قد خالف في هذا الحديث أصحاب الزهري وبسبب هذا الخلاف على هذا الشكل الذي رأيناه صدر من النقاد تعليل حديث قرة ، ولما وقع قرة في مثل هذا الخطأ ، وكثرت مخالفته  للثقات _ (لأنه ما من ثقة إلا وله زلات ، فلا يضعف الراوي إلا إذا كثرت زلاته) _ دل ذلك على حاله العام في مدى الإتقان والضبط . (بتصرف من بحث "الحديث المعلول _قواعد وضوابط " للدكتور حمزة عبدالله المليباري حفظه الله _ الطبعة الثانية ص15) .

ومن الجدير بالذكر أن هذا الشذوذ ، ربما كان غير قادح في صحة الحديث ، كما في المثالين الأول والثاني ، فإرسال حماد بن زيد  لا يضر وصل من وصل من الثقات ، لأنه نقص وليس زيادة في السند ، خلاف الصورة العكسية ، وهي أن يكون المخالف هو الذي زاد في الإسناد فهذا قادح في صحة الحديث ، ومخالفة يعلى بن عبيد  في تسمية الراوي ليست ضارة ، لأنه انتقل من ثقة (عبد الله بن دينار)إلى ثقة (عمرو بن دينار) ، خلاف ما لو انتقل من ثقة إلى ضعيف فهذا قادح في صحة الحديث ، وممن نبه إلى ذلك أبو يعلى الخليلي  في الإرشاد ، حيث قال : من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول ،  (فعلته غير قادحة) ، ومن هذا يمكن استنتاج أن الشذوذ قسم من أقسام العلة ، فكل شذوذ علة ولا عكس . ومن الجدير بالذكر أيضا في هذا الموطن أن القرائن والمرجحات تلعب دورا كبيرا في الترجيح بين الروايات المختلفة ، فقد تقدم الرواية الموصولة ، وإن كان المرسل أوثق من الواصل ، وعليه يحمل صنيع البخاري في قبوله وصل إسرائيل بن يونس  لحديث : (لا نكاح إلا بولي) _ (إن صحت الرواية عنه ، فقد أشار الشيخ طارق بن عوض الله حفظه الله في شرحه لألفية السيوطي إلى أن إسناد هذا القول للبخاري لا يصح ، وإنما هو من كلام الترمذي "إن صحت أيضا الرواية إليه ، وهو غالبا ما يؤخر رواية الرافع والواصل ، وكثيرا ما يعل الحديث بالزيادة ، كما في التاريخ الكبير ، فليست كل زيادة عنده مقبولة ، كما يوهم إطلاق العبارة السابقة) _ كما سبق بيانه .  

 

الشذوذ مع عدم المخالفة في الإسناد (وذلك عندما يتفرد راو عن شيخ غير معروف بالرواية عنه) : ومن الأمثلة على ذلك :

ما جاء من طريق قتيبة بن سعيد  عن الليث بن سعد  عن يزيد بن أبي حبيب  عن أبي الطفيل مرفوعا : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل وقت الصلاة الأولى جمع إليها الأخيرة ثم ارتحل وإذا دخل وقت الصلاة وهو مرتحل أخر الصلاة (أي جمع جمع التأخير) ، قال الحاكم  : هذا حديث موضوع ، وأنكره البخاري والنسائي  ، مع أن رجال إسناده كلهم ثقات ، لأن يزيد بن أبي حبيب  غير معروف بالرواية عن أبي الطفيل ، والتمس له البخاري رحمه الله علة ، قد لا تكون قادحة للوهلة الأولى ، وهي أن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني ، وكان خالد يدخل على الشيوخ ، وقد ذكر هذا المعلمي رحمه الله ، كمثال على الفائدة الجليلة التي أشار إليها ، وهي أن النقاد إذا استنكروا متن حديث ، مع كون رجاله ثقات ، ولم يجدوا له علة قادحة ، فإنهم يلتمسون له علة ولو كانت غير قادحة ، وقد علق الشيخ مقبل رحمه الله على هذه الفائدة بقوله : هذه فائدة تساوي الدنيا

 

ما جاء من طريق همام بن يحيى عن ابن جريج  عن الزهري  عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الحمام وضع خاتمه ، قال الحافظ : معلول ، وقال أبو داود : منكر ، رغم أن همام وابن جريج  ثقات ، لأن رواية همام عن ابن جريج  منكرة ، لأنه سمع منه في البصرة ولم يجالسه ويضبط حديثه كما ينبغي ، ولم يثبت هذا الحديث من طريق أصحاب ابن جريج  الثقات كمحمد بن بكر البرساني والوليد بن مسلم وحجاج بن محمد  ، على أن لهذا الحديث علة أخرى وهي سقوط الواسطة بين ابن جريج والزهري وهو زياد بن سعد .

 

ما جاء من طريق أبي إسحاق   عن مجاهد  عن ابن عمر رضي الله عنهما : رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ، فقد رده مسلم وأبو حاتم  لأنهما استغربا إسناده ، فقال مسلم  في التمييز بأن رواية أبي إسحاق  عن مجاهد  فيها غرابة ، وإن كان مسلم  قد ذكر أن إبراهيم النخعي  تابع أبا إسحاق  ، ولكنها متابعة غريبة لأن إبراهيم وأبا إسحاق  معروفان بالرواية عن الكوفيين لا الحجازيين ، ومن هنا تظهر فائدة قول ابن المديني  : هذا إسناد بصري ، أو كوفي أو … ، لأن هذا يفيد في كشف علل الحديث ، على أن لهذا الحديث علة أخرى في متنه ، لأنه مخالف لنصوص أخرى ثابتة ، منها رواية سالم عن أبيه : أنه (أي ابن عمر رضي الله عنهما) كان لا يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما ، الذي ذكر فيه السنن الرواتب ، وفيه : (وركعتين قبل الفجر ، حدثتني بهما حفصة) ، فابن عمر رضي الله عنهما يصرح هنا بأنه حفظ هاتين الركعتين عن أخته حفصة رضي الله عنها لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أنه لم يره وهو يصليهما ، وإلا لما احتاج إلى سؤال حفصة رضي الله عنها .

 

ما جاء من طريق سعيد بن بشير  عن قتادة  عن خالد بن دريك  عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء لما دخلت عليه في ثياب رقاق : (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض …) الحديث ، فقتادة غير معروف بالرواية عن خالد بن دريك  ، وإن كان الشيخ السعد حفظه الله يقول بأنه وقف على رواية أخرى غير هذه لقتادة  عن خالد بن دريك  ، ولكن تبقى رواية قتادة  عن خالد بن دريك  غريبة ، وللحديث علة أخرى وهي أن خالد بن دريك  شامي (وهو ليس بالمشهور وإن كان هناك من وثقه) ولا يعرف له سماع من عائشة رضي الله عنها وقد تفرد بهذا الحديث عنها ولم يتابع عليه من أصحاب عائشة رضي الله عنها الأثبات كعروة والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعمرة بنت عبد الرحمن والأسود بن يزيد "وهم رجال الطبقة الأولى عنها" ، وهذا بلا شك دليل على أهمية ملاحظة بلدية الراوي ومن يروي عنه .

 

رواية أبي سعيد مولى النهري  عن حمزة بن سفينة  عن السائب بن يزيد رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها ، فهذا إسناد لا تعرف رواية رجاله عن بعضهم البعض .

 

ما جاء من طريق محمد بن عبد الله بن الحسن  عن أبي الزناد  عن الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : لا يبرك أحدكم بروك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه ، فرواية محمد بن عبد الله بن الحسن  عن أبي الزناد  غريبة .

 

رواية الوليد بن مسلم  عن مالك  ، قال عنها أبو داود  بأنها أباطيل ومنكرات

 

تعريف أبي يعلى الخليلي القزويني  :

الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ به ثقة أو غير ثقة ، فيتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به ، ويرد ما شذ به غير الثقة .

التعليق على تعريف أبي يعلى  :

قصره الشذوذ على صورة التفرد فقط دون المخالفة ، بقوله : الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد .

شمول التعريف لرواية الثقة وغير الثقة ، خلاف الشافعي  الذي قصر الشذوذ على الثقة فقط ، فتفرد الضعيف الذي أدخله أبو يعلى في تعريفه لا يدخل في حد الشاذ ، بل هو من أقسام المنكر ، كما استقر عليه الإصطلاح منذ عهد الحافظ ابن حجر  .

توقفه في رواية الثقة إذا تفرد ، وعدم احتجاجه بحديثه ، خلاف ابن الصلاح  الذي قال بأن الثقة يحتمل تفرده بالحديث ، ويكون حديثه غريبا بقيد الصحة ، بل وحكم  على تفرد من دونه في الضبط ، إن كان ثقة ، بالحسن ، والحسن يحتج به كما هو معلوم ، ويزول الإشكال ، كما يقول الشيخ طارق عوض الله ، إذا ما عرفنا أن أبا يعلى رحمه الله ، يقصد بالثقة ، في تعريفه ، "الثقة الشيخ" ، وهو دون "الثقة الحافظ" الذي يحتج بحديثه .

تعريف الحاكم  :

الشاذ هو الذي ينفرد به الثقة ، وليس له متابع .

التعليق على تعريف الحاكم  :

قصر الحاكم الشذوذ على صورة التفرد فقط ، كما فعل أبو يعلى  .

اقتصر الحاكم  على صورة واحدة من صورتي أبي يعلى  ، وهي تفرد الثقة ولكن الشيخ حاتم الشريف حفظه الله يعارض هذا الرأي بقوله : إن الحاكم ذكر أن المتفرد بالشاذ ثقة ، وأما الخليلي فالشاذ عنده ما تفرد به ثقة أو غير ثقة . وهذا إنما ظنناه اختلافاً بين الحاكم والخليلي بتسليط معايير الحدود المنطقية على كلام الحاكم ، باعتبار أن ما ذكره من شرحه للشاذ تعريف جامع مانع . لكن لو عاملناه على غير ذلك ، وأخذنا بمنطوقه دون مفهومه ، لعرفنا أن الحاكم إنما ذكر أدق نوعي الشاذ ، وأشدهما خفاءً ، وأحوجهما إلى البيان ، والدليل القاطع على أن الحاكم لا يعارض تسمية تفرد غير الثقة بالشاذ ، هو تصرفه وتطبيقه . ففي ( المستدرك ) أخرج حديثاً من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي الكوفي  (ت 218هـ)، وهو كذاب ، يرويه هذا من طريق جميع بن عمير التيمي الكوفي وهو مختلف فيه ، قال عنه الحافظ في ( التقريب ) : صدوق يخطىء ويتشيع ، ثم قال الحاكم عقب هذا الإسناد: ((هذا حديث شاذ، والحمل فيه على جميع بن عمير ، وبعده إسحاق بن بشر )) .  فتعقبه الذهبي بقوله في ( تلخيص المستدرك ) : (( فلم يورد الموضوع هنا ؟!!)) . وهذا دليل قاطع على أن الحاكم يسمي تفرد غير الثقة شاذاً ، كما يسميه به الخليلي أيضاً .

 

توقف الحاكم  في قبول روايته ، كما فعل أبو يعلى  .

وقد وجه الحافظ  تعريفي أبي يعلى والحاكم  ، حيث أضاف قيدا لهما ، وهو أنه ينقدح في نفس الناظر أن هذا الحديث غلط ، ولكنه لا يستطيع تحديد هذا الغلط فيتوقف في الحديث ، ولا يحكم بصحته ، وليس الأمر مطردا في كل ما تفرد به الثقة ، كما يتضح للوهلة الأولى من تعريفيهما ، ومما يؤكد هذا الأمر ، أن الحاكم والخليلي  صححا أحاديث غريبة انفرد بها ثقات واحتجوا بها ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

تقسيم الحاكم  للأحاديث الصحيحة حيث قال في ( القسم الرابع من الصحيح المتفق عليه ) : هذه الأحاديث الفرائد والغرائب التي يرويها الثقات العدول ، تفرد بها ثقة من الثقات ، وليس لها طرق مخرجة في الكتب ، ثم ضرب لهذا القسم أمثلة ، منها حديث اتفق على إخراجه الشيخان ، وهو حديث عائشة رضي الله عنها في سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الحاكم : (( هذا الحديث مخرج في الصحيح ، وهو شاذ بمرة )) ، فالحاكم موافق على أنه صحيح حجة ، لكنه يصفه بالشذوذ باعتبار التفرد فقط .

ومن ذلك قوله عقب حديث في ( المستدرك ) : (( ولعل متوهماً يتوهم أن هذا متن شاذ ، فلينظر في الكتابين ( يعني صحيح البخاري ومسلم ) ، ليجد من المتون الشواذ ، التي ليس لها إلا إسناد واحد ، ما يتعجب منه ، ثم ليقس هذا عليها)).

وقال عن حديث آخر في ( المستدرك ) : (( إسناد صحيح ، رواته عن آخرهم ثقات ، إلا أنه شاذ بمرة )).

وقال عن آخر : (( هذا حديث شاذ صحيح الإسناد )).

وقال كذلك في حديث الطير : ((هذا متن شاذ ، وإن كان كذلك ، فإن إسحاق الدبري صدوق ... ـ ووثق بقية رجال إسناده قبل الدبري)) ، وإن كان الحاكم  لا يوافق على تصحيحه لهذا الحديث .

وقال الحاكم أيضاً في ( سؤالات السجزي له ) : (( بهز بن حكيم : من ثقات البصريين ، ممن يجمع حديثه. وإنما أسقطه من الصحيح : روايته عن أبيه عن جده ، لأنها شاذة لا متابع لها في الصحيح )) . ومع ذلك فقد أكثر الحاكم الإخراج في ( المستدرك ) لبهز بن حكيم ، مصححاً لحديثه عن أبيه عن جده.

قول الخليلي  في ( الإرشاد) عن العلاء بن عبد الرحمن : (( وقد أخرج مسلم في ( الصحيح ) : المشاهير من حديثه ، دون هذا والشواذ)) ، فهو يصف أفرادا للعلاء بن عبد الرحمن في صحيح مسلم بأنها شواذ‍ .

وجدير بالذكر أن ابن رجب  أجاب عن تعريف الخليلي  في ( شرح علل الترمذي ) ، حيث قال : لكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم : عبارة عمن دون الأئمة الحفاظ ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره  وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات ، وما ينفرد به إمام أو حافظ ؛ فما انفرد به إمام حافظ : قبل واحتج به ، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ وحكى ذلك عن حفاظ الحديث .

 

تعريف صالح جزرة  :

هو المنكر الذي لا يعرف .

 

الحديث المنكر :

تعريف ابن الصلاح  :

وهو كالشاذ : إن خالف راويه الثقات فمنكر مردود ، وكذا إن لم يكن عدلا ضابطا ، وإن لم يخالف فمنكر مردود ، وأما إن كان الذي تفرد به عدل ضابط حافظ قبل شرعا ، ولا يقال له منكر ، وإن قيل له ذلك لغة .

التعليق على تعريف ابن الصلاح  :

وافق ابن الصلاح  جماهير أهل العلم في أن الشاذ والمنكر بمعنى واحد ، سواءا كان الراوي المخالف أو المتفرد ثقة أو ضعيفا .

ينبه ابن الصلاح  على أن لفظ المنكر قد يطلق بغير معناه الإصطلاحي ، ويكون معناه في هذه الحالة مطلق التفرد ، وإن كان المتفرد ثقة وحديثه مقبولا ، وعلى هذا يحمل صنيع أحمد والنسائي .

 

تعريف مسلم  :

وقد ذكره في مقدمة صحيحه ، فقال : يعتبر بالراوي في موافقته للثقات ، فإن خالفهم فحديثه منكر مردود ، فمسلم  في تعريفه هذا ينبه على المنكر بقيد المخالفة ، فهو ينبه على مخالفة الثقات مع ضعف الراوي المخالف .

 

تعريف البرديجي  :

أن يروي الرجل عن الصحابي أو التابعي ولا يتابع عليه من طريق آخر ، والبرديجي ينبه في تعريفه هذا على المنكر بقيد التفرد ، وهذا ظاهر صنيع أحمد حيث اعتبر مطلق التفرد نكارة سواءا كان المتفرد ثقة أو صدوقا أو ضعيفا ، وإلى هذا نبه ابن رجب  حيث أطلق على حديث النهي عن بيع الولاء وهبته لفظ منكر ، رغم أنه مخرج في الصحيحين من طريق سفيان الثوري  عن عبد الله بن دينار  عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وأطلق نفس اللفظ على حديث لمالك  تفرد به عن الزهري   عن عروة  عن عائشة رضي الله عنها لمجرد التفرد ، وهذا خلاف ما ذهب إليه الشيخان  ، فالتفرد عندهم غير مردود مطلقا ، بل يقبل إن اجتمع في رجال الإسناد الثقة وشهرة الرواية عن بعضهم البعض ، والجمهور من المتأخرين على العمل بتعريف مسلم  فيما يتعلق بالمنكر بقيد المخالفة ، مع رأي الشيخين السابق في المنكر بقيد التفرد .

من الأمثلة على تعريف البرديجي  (المنكر بقيد التفرد) :

وهذا المثال يتطلب منا بداية ، أن نتعرف على طبقات أصحاب قتادة  فهم على 3 طبقات :

الطبقة الأولى : شعبة وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة  .

الطبقة الثانية : أبان بن يزيد وهمام وحماد بن سلمة  .

الطبقة الثالثة : سعيد بن بشير  وهو منكر الحديث عن قتادة  .

حيث قال البرديجي  بأن اتفاق رجال الطبقة الثانية (طبقة الشيوخ) ، على حديث يعني صحته ، وأما إن اختلفوا ، فيلزم التوقف في الحديث ، وإن جاء الحديث من طريق ثلاثة منهم على سبيل المثال ، فاتفق اثنان وخالف الثالث فالراجح ما ذهب إليه الإثنان .

وإن انفرد واحد منهم (أي من طبقة الشيوخ) ، فيجب أن ننظر ، هل جاء الحديث عن أنس رضي الله عنه من وجه آخر ، فإن جاء من وجه آخر قبل ، وإن جاء عن صحابي آخر غير أنس رضي الله عنه قبل وإلا رد ، فالبرديجي رحمه الله ، يرد حديث المتفرد من طبقة الشيوخ التي تلي طبقة الحفاظ ، إن لم يتابع عليه لأنه في هذه الحالة يكون منكرا بقيد التفرد .    

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله في معرض شرحه لهذا المثال بأن لفظ شيخ يطلق على :

من هو أدنى درجة من الحافظ ، وإن كان مساو له في العدالة .

المجهول ، وهذا استعمال أبي حاتم  .

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى مناهج أئمة الحديث ، فهي 4 مناهج :

منهج الأئمة المتقدمين ، على خلاف بينهم في بعض المسائل ، كما في مسألة المنكر ، حيث انقسم المتقدمون إلى قولين في هذه المسألة ، قول الشيخين  ، و قول أحمد والبرديجي  ، كما سبق تفصيله .

منهج المتأخرين .

منهج الفقهاء والأصوليين .

منهج ابن حزم  .

مسألة :

سبق تقرير أن أحمد رحمه الله يطلق المنكر على مطلق التفرد ، وإن كان الحديث صحيحا ، ولكن الشيخ طارق بن عوض الله يرد هذا الرأي في شرحه لألفية السيوطي ، مستدلا بعدة مواضع أطلق فيها أحمد لفظ المنكر على الخطأ ، كقول أحمد : "عنده مناكير" أو "عنده أخطاء" ، فقد عبر أحمد بالنكارة عن الخطأ ، ويؤكد الشيخ حفظه الله (على حسب ما فهمته من قوله) ، أن الحافظ لم يكن في حاجة إلى حمل كلام أحمد عن المنكر على (مطلق التفرد) ، لمجرد استشكاله كيف يطلق أحمد لفظ "منكر" ، مع أن الراوي ثقة ، لأن أحمد لم يكن يقصد الحكم الكلي على الراوي ، وإنما قصد أن لهذا الراوي أخطاءا تنزله عن مرتبة الثقات ، وإن لم يصل إلى درجة التضعيف المطلق ، ومما يؤيد هذا الرأي أن أحمد رحمه الله لم يطلق لفظ "منكر" ، على تفردات ثقات كسفيان وشعبة ، وطبقا للرأي الأول كان بنبغي عليه أن يطلق لفظ "منكر" ، على تفردات هؤلاء الثقات .  

أقسام المنكر :

المنكر بقيد التفرد : وهو يشمل صورتين :

الصورة الأولى : وهي الصورة التقليدية ، وهي مطلق التفرد ممن لا يحتمل تفرده ، ومثل الشيخ السعد حفظه الله برواية محمد بن عبد الله بن الحسن  عن أبي الزناد  عن الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه لحديث (لا يبرك أحدكم بروك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه) .

الصورة الثانية : لو تفرد ثقة ، لم يعرف بالرواية عن شيخه ، كرواية الوليد بن مسلم  إذا تفرد عن مالك  ، فهو ليس من أصحابه الملازمين له ، وإن كان ثقة ، فما تفرد به عنه لا يقبل ، كما ذكر ذلك أبو داود  .

المنكر بقيد المخالفة وهو ما يشمله تعريف مسلم   :

ومن الأمثلة على ذلك ، ما جاء من طريق محمد بن عبد الله بن الحسن  عن أبي الزناد  عن الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه لحديث (لا يبرك أحدكم بروك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فهذه الرواية إن نظرنا إلى طرقها المرفوعة عن أبي هريرة  ، يتضح لنا أنها منكرة بقيد التفرد ، فمحمد بن عبد الله بن الحسن  لا يحتمل تفرده بهذه الرواية ، وإن نظرنا إلى كل طرقها عن أبي هريرة رضي الله عنه ، بما فيها الطرق الموقوفة ، يتضح لنا أنها منكرة بقيد المخالفة ، فقد خالف محمد بن عبد الله  ، مع ضعفه ، رواية من هو أوثق منه ، فرفع ما أوقفه السراقسطي  من طريق محمد بن علي  عن سعيد بن منصور  عن عبد الله بن وهب  عن عمرو بن الحارث  عن بكير بن عبد الله الأشج  عن أبي مرة  عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا عليه بلفظ : (لا يبرك أحدكم بروك البعير الشارد) ، وليس فيها : وليضع يديه قبل ركبتيه .

وينبه الشيخ السعد حفظه الله بهذا المثال إلى أنه يشترط للحكم بالنكارة ضعف الراوي مع تفرده ، فإن أضيف إلى ذلك المخالفة كما في رواية السراقسطي  ، فإن هذا يؤكد النكارة .

 

الحديث الغريب :

تعريفه :

هو ما ينفرد بروايته راو واحد .

شرح التعريف :

أي الحديث الذي يستقل بروايته شخص واحد ، إما في كل طبقة من طبقات السند ، أو في بعض طبقات السند ولو في طبقة واحدة ، ولا تضر الزيادة عن واحد في باقي طبقات السند ، لأن العبرة للأقل .

تقسيمات الغريب :

أولا : الغريب إسنادا : وهو ينقسم إلى قسمين :

الغريب المطلق (وهو الغريب متنا وإسنادا) :

هو ما كانت الغرابة في أصل سنده ، أي ما ينفرد بروايته شخص واحد  في أصل سنده ، وأصل السند كما يقول الحافظ  ، هو الموضع الذي يدور الإسناد عليه ويرجع له ولو تعددت الطرق إليه ، وهو طرفه الذي فيه الصحابي ، وظاهر كلام الحافظ  أن أصل السند هو الصحابي والتابعي فقط ، وقد يستمر التفرد إلى آخر السند ، ويعبر عنه العلماء  بقولهم : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهذه مسالة مهمة جدا ، لأن الحديث ، كما يقول الشيخ عمرو بن عبد المنعم حفظه الله ، قد يرد من رواية عدد من الصحابة ، ولا تصح منها إلا رواية صحابي واحد ، ويرويه عن هذا الصحابي راو واحد ، فينفرد به عنه ، فمثل هذا الحديث غريب غرابة مطلقة ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث (إنما الأعمال بالنيات…) الحديث ، فقد تفرد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو أصل السند ، ولم يصح إلا من طريقه ، وإن كان الحديث قد روي من طرق أخرى عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما ، إلا أنها طرق غير محفوظة .

ما رواه ابن أبي شيبة  والترمذي والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن حبان والحاكم من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا : من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة ، فهذا الحديث إسناده صحيح ، وقد تفرد أبو الزبير بروايته عن جابر رضي الله عنه ، قال الترمذي  : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير ، عن جابر اهـ ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي  .

وقد ورد الحديث من رواية عبد الله بن عمرو ، ومعاذ بن أنس رضي الله عنهما ، ولا يصح عنهما :

فأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، فأخرجه ابن أبي شيبة  ، من طريق يونس بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو موقوفا ، وهذا ، كما يقول الشيخ عمرو بن عبد المنعم في شرح النخبة ، إسناد ضعيف ، فيه انقطاع واضطراب ، لأن عمرو بن شعيب  لم يسمع من عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، (وسبق تفصيل هذه المسألة) ، ويونس بن الحارث ضعيف الحديث ، وقد اضطرب في رواية هذا الحديث ، فرواه على وجه آخر عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا به ، عند البزار  في مسنده .

وأما حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه ، فأخرجه الإمام أحمد  من طريق حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه مرفوعا به ، وفيه زيادة ، وزبان بن فائد هذا واه في روايته عن سهل بن معاذ ، قال ابن حبان  : منكر الحديث جدا يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة .          

الغريب النسبي (الغريب إسنادا لا متنا) :

هو ما كانت الغرابة في أثناء سنده ، أي أن يرويه أكثر من راو في أصل سنده ، (ليخرج من حد الغرابة المطلقة) ، ثم ينفرد بروايته راو واحد عن أحد هؤلاء الرواة ، كأن يروى الحديث عن أكثر من صحابي ، وليكن منهم ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، مجموعة من الرواة وليكن منهم عكرمة ، ثم ينفرد راو بروايته عن عكرمة ، وليكن سماك ، فيقال عنه في هذه الحالة بأنه غريب من هذا الوجه ، وإن لم يكن غريبا من بقية الأوجه ، أو يقال تفرد به سماك  عن عكرمة  ، أو يقال لانعرفه عن عكرمة  إلا من طريق سماك  ، ومن الأمثلة على ذلك زيادة محمد بن عوف الحمصي  في حديث الدعاء بعد الأذان : (إنك لا تخلف الميعاد) ، فلا تعرف عن علي بن عياش  إلا من طريق محمد بن عوف الحمصي  .    

 

ثانيا : الغريب متنا :

أن تكون الغرابة في المتن بأكمله :

ومثاله حديث (إنما الأعمال بالنيات…) الحديث ، فله إسناد واحد فقط .

أن تكون الغرابة في جزء من المتن :

وفي هذه الحالة تكون الغرابة في لفظة من ألفاظ الحديث ، وقد يقبل هذا اللفظ الغريب وقد لا يقبل تبعا للقرائن والمرجحات ، ومن الأمثلة على ذلك :

مثال على غرابة اللفظ المقبولة :

زيادة مالك  في حديث زكاة الفطر لفظ : (من المسلمين) ، وقد سبق الكلام عليها .

مثال على غرابة اللفظ المردودة :

زيادة محمد بن عوف الحمصي  في حديث الدعاء بعد الأذان : (إنك لا تخلف الميعاد) ، وقد سبق الكلام عليها .

 صور أخرى من الحديث الغريب :

أن تكون غرابة الحديث نتيجة المخالفة :

ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث (إنما الأعمال بالنيات …) الحديث ، من طريق عبد العزيز بن أبي رواد  عن زيد بن أسلم  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، فقد خالف هذا الطريق ، الطريق المحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

حديث أكل الكافر في 7 أمعاء والمسلم في معي واحد ، من طريق أبي أسامة  عن بريد بن عبد الله  عن أبي بردة  عن جده أبي موسى رضي الله عنه ، فقد استغرب العلماء هذا الحديث من هذا الطريق ، والمحفوظ هو طريق أبي هريرة وطريق ابن عمر رضي الله عنهما ، وهما عند الشيخين  .

حديث : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، من طريق علي رضي الله عنه ، فهو من هذه الطريق باطل ، والمحفوظ هو طريق عثمان رضي الله عنه ، كما نبه إلى ذلك الحافظ الذهبي  في الميزان .

 

تفرد ثقة برواية الحديث :

كقولهم : لم يروه ثقة إلا فلان ، ومثاله ، حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأضحى والفطر بـ (ق) و (اقتربت الساعة) ، فقد تفرد به ضمرة بن سعيد  عن عبيد الله بن عبد الله  عن أبي واقد رضي الله عنه ، ولم يروه أحد من الثقات غيره .

 

تفرد راو معين عن راو معين :

كقولهم : تفرد به فلان عن فلان ، وإن كان مرويا من وجوه أخرى عن غيره ، ومثاله ، حديث سفيان بن عيينة  عن وائل بن داود  عن ابنه بكر بن وائل عن الزهري  عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر ، لم يروه عن بكر  إلا وائل  ولم يروه عن وائل  غير ابن عيينة  .

 

تفرد أهل بلد أو أهل جهة :

كقولهم : تفرد به أهل مكة أو أهل الشام ، ومثاله : الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي  عن همام  عن قتادة  عن أبي نضرة  عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر ، قال الحاكم  : تفرد بذكر الأمر فيه أهل البصرة من أول الإسناد إلى آخره .

 

تفرد أهل بلد أو جهة عن أهل بلد أو جهة أخرى :

كقولهم : تفرد به أهل البصرة عن أهل المدينة ، أو تفرد به أهل الشام عن أهل الحجاز .

 

أقسام التفرد :

أن يكون الحديث غريبا ومتنه وإسناده صحيحان ، كحديث : (إنما الأعمال بالنيات …) الحديث ، فرواته ثقات وقد عرفوا بالرواية عن بعضهم البعض .

أن يكون الحديث ليس له إلا إسناد واحد رجاله ثقات إلا أن فيهم من خف ضبطه ، وقد عرفوا بالرواية عن بعضهم البعض ، كتفرد محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وتفرد العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وهذا القسم بعضه صحيح وبعضه حسن .

أن يكون الحديث ليس له إلا إسناد واحد مع ضعف الرواة ، وهم معروفون بالرواية عن بعضهم البعض ، وهذا هو المنكر .

أن يكون المتن غير مستقيم مع ثقة رجال سنده ، وهذا هو الشاذ .

أن يكون لهذا المتن إسناد فيه من خف ضبطه مع عدم استقامة متنه ، وهو يسمى منكرا ويسمى أيضا شاذا .

أن يكون لهذا المتن إسناد رجاله ثقات ولكن لا تعرف رواية بعضهم عن بعض ، وهنا لا بد من ثبوت السماع ، كرواية يزيد بن أبي حبيب  عن أبي الطفيل .

أن يكون هذا الإسناد فيه من خف ضبطه ولا تعرف رواية بعضهم عن بعض في كل السند أو في جزء منه .

تفرد من خف ضبطه عن ثقة مشهور .

تفرد ضعيف عن ثقة مشهور ، وهذا وهذا هو المنكر بقيد التفرد ، كما سبق بيانه .

 

صيغ التحمل :

وهي 3 صيغ :

أولا : الصيغ الصريحة :

وأعلاها سمعت ، قال لي ، ويليها حدثني ، حدثنا ، ويليها أخبرني وأخبرنا ، ويليها : أنبأني وأنبأنا ، والأصل المساوة بين هذه الصيغ ، وهذا صنيع المتقدمين  ، ولم يظهر الفارق الإصطلاحي بين هذه الألفاظ إلا عند المتأخرين ، وهناك من قدم الإملاء على كل صور التحمل ، لأن فيه مزيدا من الإعتناء ، فالشيخ يعتني بما يمليه ، وكذا الطلاب يدققون فيما سمعوه من الشيخ إملاءا ، ويستفسرون عما يعن لهم من الإشتباه في الألفاظ ونحوه .

مسألة : الفرق بين حدثنا وأخبرنا :

حدثنا : تعني سماع الراوي من شيخه ، بينما أخبرنا : تعني قراءة الطالب على شيخه ، وقد انقسم العلماء في مسألة قراءة الطالب على شيخه إلى 4 فرق :

عدم قبول هذه الرواية ، وهو رأي متشدد ، تفرد به شذاذ لايعتد بخلافهم ، وممن قال بهذا الرأي ، أبو عاصم النبيل  كما رواه عنه الرامهرمزي  ، وقد روى الخطيب عن وكيع  قال : ما أخذت حديثا قط عرضا ، وعن محمد بن سلام  : أنه أدرك مالكا والناس يقرؤون عليه ، فلم يسمع منه لذلك ، وكذلك عبد الرحمن بن سلام  الجمحي  ، لم يكتف بهذه الصيغة من صيغ التحمل ، فقال مالك  : أخرجوه عني ، نقل ذلك السيوطي  في التدريب ، وقد قال الحافظ  في الفتح : وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزئ ، وإنما كان يقوله بعض المتشددين من أهل العراق .

قبول هذه الرواية ، ولكن بشرط أن يحدث الراوي بقوله : قرأت ، أو قرئ على فلان وأنا أسمع فأقر به ، أو أخبرنا ، أو حدثنا قراءة عليه ، أو غير ذلك من الصيغ التي تبرز قراءة الراوي على شيخه .

عدم التفريق بين أخبرنا وحدثنا في التعبير عن هذه الصيغة من صيغ التحمل ، وهذا مذهب مالك  (وكانت هذه صيغة التحمل المعروفة عنه ، فكان  لا يحدث ، وإنما يقرأ الطالب بين يديه) ، والبخاري  ، ويحيى بن سعيد القطان  ، والزهري  ، وسفيان بن عيينة  ، ومعظم الحجازيين والكوفيين  .

التفريق بين حدثنا وأخبرنا ، كما سبق بيانه في هذه المسألة ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد ومسلم والنسائي وابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي   ، وجمهور المشارقة ، بل نقل ذلك عن أكثر المحدثين ، وقد قيل : إن أول من فرق بينهما ابن وهب  ، ويعلق ابن الصلاح على ذلك في علوم الحديث بقوله : وقد سبقه إلى ذلك ابن جريج والأوزاعي  ، ثم أردف  بقوله : وهو الشائع الغالب على أهل الحديث والإحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف ، وقد نقل الشيخ أحمد شاكر  هذا القول في الباعث الحثيث ص159 ، ثم علق عليه بقوله : وخير ما يقال فيه : إنه اصطلاح منهم ، أرادوا به التمييز بين النوعين ، ثم خصص النوع الأول بقول (حدثنا) لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة .

 

مسألة : الإستدلال من السنة لجواز القراءة على الشيخ :

من أحسن ما استدل به العلماء  على جواز هذا الأمر ، حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه ، لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني سائلك فمشدد عليك ، ثم قال : أسألك بربك ورب من قبلك ، آلله أرسلك ؟ الحديث ، في سؤاله عن شرائع الدين ، فلما فرغ قال : آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي ، فلما رجع إلى قومه اجتمعوا إليه ، فأبلغهم ، فأجازوه ، أي قبلوه منه ، وأسلموا ، وهذا قول الحميدي والبخاري  ، وقد أسند البيهقي  في المدخل عن البخاري  قال : قال أبو سعيد الحداد  : عندي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم ، فقيل له ، قال : قصة ضمام : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، وقد عقد البخاري  لذلك بابا في صحيحه في كتاب العلم ، وهو (باب القراءة والعرض على المحدث) .  

 

مسألة : شروط صحة القراءة على الشيخ :

أن يكون الشيخ حافظا لما يقرأ عليه .

أو أن يتابع الشيخ من أصل صحيح .

أو أن يتابع أحد الطلاب من أصل صحيح .

أن يكون في الحاضرين ثقة  يحفظ ما قرئ وهو مستمع غير غافل ، وقد حدث الخلاف في هذه الصورة فأقرها السيوطي  في التدريب ، بينما ردها الشيخ أحمد شاكر  ، لأنه إذا كان الشيخ غير حافظ لروايته ولا يقابل هو أو غيره على أصله الصحيح ، وكان المرجع إلى الثقة بحفظ أحد السامعين ، كانت الرواية في الحقيقة عن هذا السامع الحافظ ، وليست عن الشيخ المسموع منه ، وقد رجح الحافظ  الصورة الثانية وفضلها على جميع الصور ، حيث قال  : ينبغي ترجيح الإمساك أي_ إمساك الأصل_في الصور كلها على الحفظ ، لأنه خوان .

مسألة : الفرق بين حدثني وحدثنا والترجيح بينهما :

حدثني : سماع الطالب من شيخه منفردا ، وأما حدثنا : فهو سماع الطالب من شيخه ومعه غيره من الطلاب ، وقد رجح الشيخ أحمد شاكر  صيغة حدثني على حدثنا ، لأن صيغة حدثني فيها مزيد اختصاص بالرواية عن الشيخ وهذا يؤدي إلى المزيد من الضبط والإتقان ، وذلك بعد أن نقل قول ابن المديني  عن شيخه يحيى بن سعيد القطان  ، بأن الراوي إذا شك في شيء عنده أنه من قبيل (حدثني أو حدثنا) ، فليقل حدثنا لأنها المرتبة الدنيا ، فيحصل له بذلك اليقين ، وكذا إن كان الشك في (أخبرني وأخبرنا) فليقل أخبرنا لأنها المرتبة الدنيا أيضا  وكذلك إن كان الشك في (حدثنا وأخبرنا) فليقل أخبرنا لأنها المرتبة الدنيا أيضا ، فكل تحديث إخبار ولا عكس ، لأن دائرة التحديث أوسع من دائرة الإخبار وهذا واضح ولله الحمد .

 

 

مسألة : اسنخدام لفظ أنبأنا :

عند المتقدمين  يمكن التعبير به عن السماع أو القراءة على الشيخ ، ومن الأدلة على ذلك ، قوله تعالى : ) قالَتْ من أَنبأَك هذا قال: نَبَّأنيَ العليمُ الخبير ( فهذا يدَلُّ على التَّساوِي ، فالحديثُ والخبرُ والنَّبأُ مُترادِفات ، كما قرر ذلك الحافظ الذهبي  . ُ ، بينما عند المتأخرين  ، بعد استقرار المصطلح ، خصت الإجازة بهذا اللفظ .

 

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن الإجازة داخلة في الصور المتصلة ، فهي حجة دون اشتراط لقاء صاحب الكتاب ، بشرط الإستيثاق من الكتاب ، وقد استأنس بعض العلماء ، كما ذكر الخطيب  في الكفاية ، بحديث سورة براءة ن لإثبات جواز التحمل بالإجازة ، حيث كتب النبي صلى الله عليه وسلم سورة براءة في صحيفة ، ودفعها لأبي بكر رضي الله عنه ، ثم بعث عليا رضي الله عنه فأخذها منه ، ولم يقرأها عليه ، ولا هو أيضا ، حتى وصل إلى مكة ، ففتحها وقرأها على الناس ، وكذا الأمر بالنسبة للوجادات الصحيحة ومن أبرز الأمثلة عليها :

كتاب معاذ رضي الله عنه في صدقة الزروع عند موسى بن طلحة  ، وقد احتج به على عبد الله بن المغيرة  ، لما أراد أن يأخذ من أرض موسى  التي زرعها بالخضروات صدقة ، ومن المعلوم أنه لا زكاة في الخضروات إلا أن تكون عروضا للتجارة .

وجادة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم  لكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الديات وقد كان عند جده عمرو بن حزم رضي الله عنه .

وقد وجه سؤال إلى الشيخ الألباني حول حول الكتب التي رواها التابعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهي (وجادة لها حكم الإتصال) ولو أجري تعريف المرسل على هذه الكتب فإننا سوف نحكم على هذه الوجادات بالإنقطاع خلاف الحكم السابق بإتصالها . فما القول في ذلك ؟ فأجاب  بقوله : هذا الحديث على إرساله لم يحتج به العلماء لمجرد أنه مرسل وإنما لأنه اعتضد بعاضد آخر كالمرسل عند الشافعي  إذا اعتضد بمسند فكذا الكتب التي يرويها التابعون فهي مرسلة من جهة ولكنها اعتضدت بما يقويها من جهة أخرى (أي الوجادة) .

 

ثانيا : صيغ عدم السماع :

مثل أخبرت ، حدثت (بالبناء للمجهول) ، فهي تدل على انقطاع في السند بين الراوي وشيخه الذي يحدث عنه ، ومن الجدير بالذكر أن لهذه الصيغ أهمية كبرى في تحديد علل كثير من الأحاديث المردودة ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث يحيى بن أبي كثير عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال : أفطر عندكم الصائمون ، الحديث ، قال الحاكم  معلقا على هذه الرواية : قد ثبت عندنا من غير وجه رواية يحيى بن أبي كثير عن أنس بن مالك رضي الله عنه إلا أنه لم يسمع منه هذا الحديث ، ثم أسند عن يحيى  قال : حدثت عن أنس ، فذكره ، وقد ذكر الحاكم  هذا الحديث كمثال على الجنس الثامن من أجناس العلل .

 

ثالثا : الصيغ المحتملة :

كصيغ أن وعن وقال ، وقد فصل الشيخ السعد حفظه الله القول في هذه الصيغ كالتالي :

إما أن تصدر عن راو قد سمع من شيخه وثبت له هذا السماع ، فهي محمولة على الإتصال ، وقد خالف شعبة  في هذه المسألة ، وقال  : (كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل) وفي رواية عنه : (ليس بحديث) ، وتوجيه هذا الأثر أنه في حالة عدم ثبات سماع الراوي من شيخه .

إذا ثبت عدم السماع فهو منقطع .

في حالة عدم ثبوت السماع أو نفيه ، وهذا هو القسم الذي وقع فيه الخلاف على قولين :

أنه منقطع ، وهذا رأي جماهير الحفاظ كأبي حاتم وأبي زرعة وابن المديني  .

أنه متصل محمول على السماع بشرط المعاصرة ، حتى يدل الدليل على خلافه ، وقد حكى مسلم  الإجماع على هذا ، وهذا مما استغرب عنه  لشهرة الخلاف وقوته في هذه المسألة ، وقد قال مسلم  في مقدمة صحيحه في الرد علم من اشترط السماع ولو في مروية واحدة غير هذه المروية المحتملة : فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك  الإحتجاج به إمكان الإرسال فيه ، لزمك أن لا تثبت إسنادا معنعنا حتى ترى فيه السماع من أوله إلى آخره ، فقد ألزم مسلم  أصحاب هذا الرأي بإثبات السماع في كل طبقات السند ، وقال  في موضع آخر : وإن كان قد عرف في الجملة أن كل واحد منهم قد سمع من صاحبه سماعا كثيرا ، فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية فيسمع من غيره عنه بعض أحاديثه ، ثم يرسله عنه أحيانا ، ولا يسمى من سمع منه ، وينشط أحيانا فيسمي الرجل الذي حمل عنه الحديث ويترك الإرسال ، فمقصود مسلم  أن عنعنة الثقة هنا قد تكون لعدم نشاطه لذكر السند كاملا ، فكأنه  يسأل المخالف : وما أدراك أنه مع ثبوت سماعه في مروية أخرى كما اشترطت لم يرسل في هذه المروية على عادة المتقدمين  في عدم ذكرهم السند كاملا في بعض الأحيان إذا لم ينشطوا له ؟ وقد سبق الرد على قول مسلم  ، وخلاصة القول في هذه المسألة : أن الراوي إذا لم يكن معروفا بالتدليس عن شيخه الذي ثبت سماعه منه ، وروى عنه بصيغة محتملة فإن روايته محمولة على الإتصال إلا إذا ثبت عدم السماع في هذه المروية كما سبق في حديث (أفطر عندكم الصائمون) .

 

مذهب العلماء في التعامل مع هذا الخبر الذي لم يثبت فيه السماع ولم ينتف :

أنه منقطع ، وكثيرا ما يعل البخاري  الأخبار بقوله : (فلان لم يذكر سماعا) .

أنه متصل ، وهذا مذهب مسلم  .

أن إحتمال سماعه كبير فيحتج به وإن لم يحكم له بالإتصال ، وهذا قول ابن رجب  .

ويرجح الشيخ السعد حفظه الله الرأي الأول ، ولكن أحيانا تدل القرائن على صحة هذا الخبر فيحتج به وإن لم يحكم له بالإتصال (كما ذكر ذلك ابن رجب ) ، وضرب حفظه الله مثالا لذلك ، وهو حديث دعاء الخروج من المنزل الذي جاء من طريق الشعبي  عن أم سلمة رضي الله عنها ، فقد صححه الترمذي والحاكم  ، وأعله ابن المديني  بالإنقطاع لأنه لم يثبت للشعبي سماع من أم سلمة رضي الله عنها ، وهذا هو الراجح ، ولكن المتن والإسناد مستقيمان والشعبي  لا يروي إلا عن ثقة غالبا كما قرر ذلك ابن معين  ، فهو مأمون السقط ، وعلى هذا يحتج بهذا الخبر .

 

مذاهب العلماء في التعامل مع الرواية بـ عن وأن :

الجمهور على أنهما سواء في كونهما متصلين ، وهذا قول ابن عبد البر  ، وممن نص على ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه .

أن الرواية بعن متصلة والرواية بأن منقطعة حتى يثبت خلاف ذلك ، وهذا مذهب أحمد ويعقوب بن أبي شيبة وأبو بكر البرديجي  لأن عن تفيد الإسناد ، خلاف أن وقال ونحوهما .

التفصيل ، وهذا التفصيل يعتمد على معرفة الحاكي للحديث ويتضح الأمر أكثر بذكر عدة أمثلة :

عن هشام بن عروة عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها ، فهذا السياق مرسل ، لأن الحاكي هنا هو عروة  فهو يحكي قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة ، وهو بالتأكيد لم يكن موجودا في هذه اللحظة ، بل لم يكن مولودا لأنه تابعي ، وعلى هذا فروايته بهذا السياق مرسلة .

عن هشام بن عروة  عن عروة  عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، فهذا سياق متصل ، لأن الحاكي هنا هو عائشة رضي الله عنها .

عن هشام بن عروة  عن عروة  أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا سياق مرسل لأن الحاكي هنا هو عروة  .

عن هشام بن عروة  عن عروة  أن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحاكي هنا هو عائشة رضي الله عنها ، فالرواية متصلة رغم أنها جاءت بصيغة أن .     

عن محمد بن الحنفية  عن عمار رضي الله عنه أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه الرواية متصلة رغم أنها جاءت بصيغة أن ، لأن محمد بن الحنفية جعل الرواية من اختصاص عمار رضي الله عنه .

عن محمد بن الحنفية  أن عمار رضي الله عنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه الرواية مرسلة ، لأن محمد بن الحنفية  يحكي صنيع عمار رضي الله عنه ، وهو لم يعاصر هذا الصنيع بالتأكيد لأنه لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه تابعي .

 

مسألة : قال ابن حجر رحمه الله بأن العنعنة التي لم تأت لها طرق أخرى مصرحة بالسماع ، تكون في الشواهد لا الاحتجاج، فما  مدى الصواب في ذلك ؟ :

يقول الشيخ مقبل رحمه الله ، معلقا على قول الحافظ : العنعنة في "الصحيحين" محمولة على السماع ، لماذا ؟ لأن صاحبي "الصحيح" حافظان كبيران يعرفان ما سمعه المحدث من شيخه وما دلس فيه ولم يسمعه، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وقال ابن دقيق العيد بعد أن ذكر قولهم هذا -كما في "فتح المغيث"-: وفي النفس منه شيء. وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث وقد عنعن فيها وهي في "صحيح مسلم" قال: وله غير ذلك ، وفي النفس منها شيء ، فمن تردد فيما عنعن فيه المدلس -وأعني بالمدلس الذي هو من الطبقة الثالثة، والطبقة الرابعة، وهكذا الطبقة الخامسة، وإن كانت الخامسة اجتمع فيها مع التدليس ضعف، أما الطبقة الأولى والثانية فإن العلماء تسامحوا في عنعنتهما، والذي ينبغي أن يصار إليه أنّها محمولة على السماع ، إلا إذا ظهر أو أقام برهانًا حافظ من الحفاظ أنه لم يسمع ذلك الحديث ، فيصار إليه. والله أعلم ، وأما عنعنة غير المدلس عمن قد سمع منه فهي محمولة على السماع . والظاهر أن قول الحافظ رحمه الله ليس مطردًا ، وإن كان الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" يحرص كل الحرص إذا مر الحديث من طريق مدلس أن يلتمس فيه طريقًا أخرى قد صرح فيها بالتحديث، ومما أذكره الآن (والكلام للشيخ مقبل رحمه الله) ، سبب نزول قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينك قبلةً ترضاها[19]} فإنه من طريق أبي إسحاق عن البراء، وأبوإسحاق مدلس، قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: وقد صرح أبوإسحاق بالتحديث في التفسير فأمنا من تدليسه ، فهو يحرص على بيان سماع المدلس وربما لا يجد، ومع ذلك فالحديث مقبول يصلح للإحتجاج .

 

التدليس :

تعريفه :

من الدلس وهو الظلمة .

وأما اصطلاحا : فهناك عدة تعريفات من أبرزها :

تعريف أبي أحمد بن عمرو البزار وأبي الحسن بن القطان  حيث قالا : هو أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمع منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه .

أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه ، أو عمن عاصره ولم يلقه ، موهما أنه سمعه منه ، (وعلى هذا فإن الإرسال الخفي "أي عمن عاصره" لا يدخل في حد التدليس إلا بقيد الإيهام) ، وهذا التعريف يزيد على التعريف السابق بإشتراطه قيد الإيهام .

حكم التدليس :

يدور التدليس على 3 أحكام :

الإباحة :

إذا كان المحذوف ثقة ، وليس قصد الراوي العلو في الإسناد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

فعل ابن عباس رضي الله عنهما ، حيث أرسل أحاديث كثيرة سمعها من الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يقصد بذلك العلو في الإسناد ، وإنما هو إسقاط للصحابي الواسطة ، وهذا لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول ، حتى قيل بأنه لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عشرين حديثا وقيل أربعين حديثا ، ومن أبرز الأمثلة التي ثبت فيها عدم سماع ابن عباس رضي الله عنهما من الرسول صلى الله عليه وسلم ، حديث : (إنما الربا في النسيئة) ، حيث روجع فيه فأخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد رضي الله عنه .

سماع أبي هريرة رضي الله عنه من الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث ثبت أنه رضي الله عنه لم يسمع كل ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم منه مباشرة ، ومن الأمثلة على ذلك ، حديث : من أدرك الفجر في نهار رمضان وهو جنب فلا صيام له ، حيث صرح رضي الله عنه بأنه سمعه من الفضل بن عباس رضي الله عنهما ، ولم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، لما استنكر عليه هذا الحديث لأنه مخالف لحديثي عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ، وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا ثم يغتسل ، وواقعة أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري  .

 

الكراهة :

إذا كان قصد الراوي هو العلو في الإسناد ، أو التكثر ليوهم كثرة شيوخه .

 

التحريم :

إذا تعمد اسقاط الراوي الضعيف ليسوي الخبر ، وهذا يجعل الحديث الباطل صحيحا في نظر من لايعرف تدليسه .

 

أنواع التدليس :

تدليس الإسناد :

وهو أن يحذف شيخه المباشر وهو أشهر أنواع التدليس ، وقد قسم العلائي وابن حجر  المدلسين إلى 5 طبقات وهي :

من لم يوصف به إلا نادرا كيحيى بن سعيد  ، حيث وصفه بذلك علي بن المديني   فيما ذكره عبد الغني بن سعيد الأزدي  وكذا وصفه به الدارقطني  .

من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى كسفيان الثوري  أو كان لايدلس إلا عن ثقة كسفيان بن عيينة  كما نص على ذلك ابن حبان  ، وهاتان الطبقتان تدليسهما محتمل ولا يضر .

من أكثر من التدليس غير متقيد بالثقات كأبي الزبير المكي  .

من كان أكثر تدليسه عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد  ومحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي وقد قال الحافظ  في طبقات المدلسين عن محمد بن إسحاق  :صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما وقد نص ابن المديني على تدليسه .

من انضم إليه ضعف بأمر آخر كعبد الله بن لهيعة الحضرمي  حيث اختلط في آخر عمره وكثرت عنه المناكير في روايته وقال ابن حبان  : كان صالحا ولكنه كان يدلس عن الضعفاء .

 

وقد مال الشيخ السعد حفظه الله إلى تقسيم المدلسين إلى طبقتين :

طبقة المكثرين ، وهؤلاء لابد أن يصرحوا بالسماع ، ومن أبرز الأمثلة على رواة هذه الطبقة الوليد بن مسلم  ، (قال عنه الحافظ ابن حجر  بأنه موصوف بالتدليس الشديد مع الصدق) وبقية بن الوليد  حيث كان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين .

طبقة المقلين ، ومن الأمثلة على ذلك الأعمش  ، فقد قال عنه أبوزرعة  : ربما دلس ، ووصفه بالتدليس الكرابيسي والنسائي والدارقطني  وغيرهم ، وسفيان الثوري  ، الذي قال عنه البخاري  : ما أقل تدليسه . 

ورواية المدلس المعنعنة بشكل عام (إلا ما ورد في الصحيحين) غير مقبولة إلا أن يكون ثقة ويصرح بأخذه مباشرة عمن روى عنه ، في رواية أخرى ، ودلل الشيخ حفظه الله على ذلك ، بما نقله يعقوب بن شيبة  عن يحيى بن معين  وهي أن ما دلس فيه الراوي المدلس لا حجة فيه (ولم يقل ما عنعن فيه) لأن العنعنة في حد ذاتها لا توجب رد الرواية لأنها ليست تدليسا مطلقا (والدليل على ذلك أن عنعنة الثقة غير المدلس مقبولة وعنعنة المدلس قد تقبل إذا ما احتفت بها القرائن التي تؤيد السماع) .

 

وهناك من الحفاظ (كعلي بن المديني  لما سأله يعقوب بن شيبة ) ، من قال بأن المدلس يجب أن يصرح بالسماع إذا كان مكثرا من التدليس بل إن بعض المدلسين وإن صرح بالتحديث فروايته مردودة ، كمن يدلس تدليس التسوية ، فلا يكتفى بتصريحه عن شيخه فقط بل يجب أن يصرح بتحديث شيخه عن شيخ شيخه ، ودلل الشيخ حفظه الله أيضا بتعامل الحفاظ مع روايات ثقات المدلسين ، حيث احتملوا عنعنتهم ، كما فعل الشيخان  ، حيث احتملا عنعنة ثقات المدلسين كالأعمش  ، وإن لم يصرحوا بالسماع خارج الصحيحين ، وهذا ما نبه عليه الحافظ المزي  ، عندما سأله السبكي  عن ذلك ، حيث قال بأن بعضهم لم يصرح خارج الصحيحين ، ومع ذلك فروايتهم مقبولة . وقد خالف الحافظ ابن دقيق العيد  في هذه المسألة ، حيث قال بأننا إما أن نجري ما جاء في الصحيحين على كل ما جاء خارجهما ، وإما أن نعامل ماجاء فيهما من عنعنة كمعاملتنا لها خارج الصحيحين ، فلا نقبل إلا ما جاء التصريح بسماعه من طريق آخر ، ويعترض الشيخ السعد حفظه الله على هذا الرأي ويقول بأن الصواب هو حمل ما جاء خارج الصحيحين على ما جاء فيهما ، وعلى هذا فإن رواية الثقات الموصوفين بالتدليس ممن تدور عليهم الأسانيد مقبولة ، ولا شك أن تقدم صاحبي الصحيحين في معرفة طرق الأحاديث وعللها يجعلنا لا نتردد في قبول روايات المدلسين المعنعنة التي جاءت في الصحيحين ، وممن نبه على اشتراط السماع ابن حبان  ، حيث قال : كل راو روينا عنه بالعنعنة وهو موصوف بالتدليس فقد ثبت لنا سماعه من طريق آخر ، ولا شك أن هذا أمر أغلبي وليس أمرا كليا .

وقد اشترط الشيخ السعد حفظه الله عدة شروط لقبول عنعنة الثقات من المقلين من التدليس وهي :

ثبوت سماعهم عمن رووا عنهم بالعنعنة .

جمع طرق الحديث ، لأنهم غالبا ما يصرحون بعدم سماعهم في بقية الطرق ، فإن لم يصرحوا فيها بعدم السماع ، فسماعهم في هذه الرواية صحيح وإن لم يصرحوا به .

أن يستقيم المتن والإسناد ، ومن أبرز من أكد على ذلك ابن خزيمة  ، حيث قبل عنعنة الأعمش  ، ولكنه رد بعض أحاديثه لما وجد في المتن ما يستنكر ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، ما جاء من طريق الأعمش  عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء  عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) ، فقد استنكر ابن خزيمة  لفظ (صورة الرحمن) ، ولفظ الصحيحين : (إن الله خلق آدم على صورته) ، وهذا الخبر الذي أسنده الأعمش ، أرسله سفيان الثوري  ، ولم يثبت سماع عطاء  من ابن عمر رضي الله عنهما ، وقد تكلم في رواية حبيب عن عطاء لأنه مدلس يكثر التدليس وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وغيرهما ، وقد اختلف النقاد  في قبول هذا اللفظ والإحتجاج به كالتالي :

ردها ابن خزيمة  ، كما سبق .

قبلها إسحاق بن راهوية  .

احتج بها أحمد  ، ولم ينقل عنه تصحيحها ، والشيخ السعد حفظه الله يؤكد على ما ذهب إليه ابن تيمية  من أن كلا اللفظين يدلان على إثبات صفات الله عز وجل على الوجه الذي يليق بجلاله ، ويزيد الشيخ ابن عثيمين  الأمر وضوحا بقوله في شرح العقيدة الواسطية : إنه لايلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلا له من كل وجه ، فالله عز وجل ، على سبيل المثال يد ، ولآدم صلى الله عليه وسلم يد ، ولكن يد الله عز وجل ، هي على الوجه الذي يليق بجلاله ، وهي لا تشبه يد آدم صلى الله عليه وسلم بأي وجه من الأوجه ، وإن اشتركا في نفس الإسم ، وهناك توجيه آخر ، وهو أن الإضافة هنا إضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله وهكذا .   

وللشيخ عمرو بن عبد المنعم حفظه الله ، في تعليقه على شرح النخبة ، كلام نفيس على رواية المدلس ، حيث قسم الكلام عليها إلى 7 مراتب :

الأولى : لا بد من النظر في حال الراوي والرواية ، فإذا كان الراوي ثقة محتجا به ، وكان لا يروي إلا عن ثقة وكانت روايته محتملة ، فهذا تقبل روايته بلا خلاف ، ومن هذه الطبقة سفيان بن عيينة ، والزهري وغيرهما .

قال ابن عبد البر  في التمهيد (1/17) : إن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة ، استغني عن توقيفه ، ولم يسأل عن تدليسه .

الثانية : إذا كان مقلا من التدليس ، أو كان مكثرا ولكن روى عن بعض شيوخه الذين أكثر مصاحبتهم والسماع منهم ، كابن جريج عن عطاء ، أو الأعمش عن أبي صالح ، وأبي وائل وغيرهما ممن طالت صحبته لهم ، قبلت روايته ، إلا إن تبين أنه قد دلس رواية بعينها ، وهذا ما نبه إليه الذهبي  ، ويقول الشيخ عمرو حفظه الله ، بأن هذا التفصيل مأخوذ من مجموع أقوال المحققين من أهل الحديث .

قال الإمام مسلم  في مقدمة الصحيح :

إنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم ، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به ، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته ، ويتفقدون ذلك منه ، كي تنزاح عنهم علة التدليس .

ونقل الخطيب في الكفاية ، عن أبي بكر الحميدي  قوله :

إن كان رجل معروفا بصحبة رجل ، والسماع منه ، مثل ابن جريج عن عطاء ، أو هشام بن عروة عن أبيه ، وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ، ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم ، ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه ، فأدرك عليه أنه أدخل بينه وبين من حدث رجلا غير مسمى ، أو أسقطه ، ما أدرك عليه في هذا فيكون مثل المقطوع ، والحميدي  ، يقصد بالمقطوع ، ما انقطع اسناده ، لا المقطوع اصطلاحا ، الذي هو قول التابعي فمن دونه .

ونقل ابن حجر  في النكت ، (2/625) ، عن أبي الحسن بن القطان الفاسي  قوله :

إذا صرح المدلس قبل بلا خلاف ، وإذا لم يصرح ، فقد قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنه لم يسمعه ، ورده آخرون ما لم يتبين أنه سمع ، فإذا روى المدلس حديثا بصيغة محتملة ، ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع .

وقال ابن رجب  في شرح العلل :

وقالوا إذا غلب التدليس لم يقبل حديثه حتى يقول : حدثنا ، وهذا قول ابن المديني  ، حكاه يعقوب بن شيبة  عنه .

الثالثة : إذا كان مكثرا رد حديثه إذا لم يصرح فيه بالسماع .

الرابعة : قبول رواية المدلس مطلقا ، مقلا أو مكثرا ، إذا صرح بالسماع .

الخامسة : رد رواية المدلس الثقة ، إذا كان مقلا أو إذا كان لا يروي إلا عن ثقة ، إذا عنعنها وكان متن الحديث منكرا ورجال إسناده ثقات ، فلا يمكن حمل عهدة هذه النكارة على أحد منهم ، ورغم أن عنعنة المدلس في هذه الحالة الأصل فيها أنها غير قادحة ، إلا أننا في هذا الموضع بالذات ، قدحنا في صحة الحديث بها ، لأننا لم نجد ما هو أولى منها بتحمل هذا القدح ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك : ما جاء من طريق الحكم بن عبدالله بن سعد عن الزهري عن أم عبدالله الدوسية قالت : سمعت رسول الله r يقول : ((الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم)) ، حيث علق الدارقطني  على هذه الرواية بقوله : الزهري لا يصح سماعه من الدوسية ، والحكم هذا متروك  ، فالزهري  مع عدم سماعه من الدوسية رضي الله عنها وقلة تدليسه ، روى الحديث عنها بصيغة محتملة .

 

السادسة : رد رواية المدلس الثقة ، وإن كان مقلا ، أو لا يروي إلا عن ثقة ، إذا كان هذا المدلس موصوفا بنوع من البدعة ، وكان حديثه هذا يؤيد بدعته ، ولم يكن الحمل في الإسناد إلا عليه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

حديث أحمد بن الأزهر النيسابوري  عن عبد الرزاق  عن معمر   عن الزهري  عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة   عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه : (أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة حبيبي حبيبك وحبيبي حبيب الله وبغيضي بغيضك وبغيضي بغيض الله) ، فهذا سند في أعلى درجات الصحة ، ولكن علامات النكارة الشديدة واضحة جدا في المتن ، حتى قال الذهبي  : هذا باطل ما يبعد أن يكون موضوعا وإلا فلم لم يحدث به عبد الرزاق  أحمد وابن معين والخلق الذين ساروا إليه وأسر به لأحمد بن الأزهر  ، فهذا يدل على أن عبد الرزاق  كان يرى نكارة هذا الحديث ولذا لم يحدث به بقية الجماعة ، وهنا يلزم تحديد مصدر هذه النكارة رغم استبعادها بادي الرأي من كل رجال السند فهو على شرط الشيخين ، وبالنظر  إلى رجال السند ، نجد أن العهدة ليست على معمر أو الزهري أو عبيد الله  ، فبقي عبد الرزاق وأحمد بن الأزهر  ، وخرج أحمد بن الأزهر   بمتابعة جعفر بن محمد  له على عبد الرزاق فبقي عبد الرزاق  وهو أولى رجال هذا السند بحمل عهدة هذه النكارة ويؤيد هذا أن عبد الرزاق  قد عمي في آخر حياته فكان يلقن فيتلقن ولعل هذا مما لقنه ، على ما فيه من تشيع خفيف ، وهذا الحديث مما يقوي بدعته .

 

تدليس الشيوخ :

ومن الأمثلة على ذلك ، رواية سفيان الثوري عن أبي الخطاب عن أبي حمزة ، وهو يعني بأبي الخطاب قتادة  ، ويعني بأبي حمزة أنس رضي الله عنه ، وممن اشتهر بهذا التدليس الخطيب البغدادي وابن الجوزي  وتبعهما على هذا كثير من المتأخرين ، ويعلق الشيخ أحمد شاكر  على هذا النوع بقوله : وهو عمل غير مستحسن ، لما فيه من صعوبة معرفة الشيخ على من لم يعرفه ، وقد لا يفطن له الناظر فيحكم بجهالته ، وهذا النوع ينبغي أن يعرف فيه عين الشيخ .

تدليس التسوية :

ويسمى أيضا تدليس التجويد ، وهو أن يسقط الواسطة بين شيخه  وشيخ شيخه ، أو يسقط الواسطة بين أي راويين متعاصرين ، سواءا كان الراوي المسقط ثقة أو ضعيفا ، ولكنه غالبا ما يكون ضعيفا فيسقطه المدلس ليسوي الإسناد ، ومنه اشتق اسم هذا النوع ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، تدليس الوليد بن مسلم  ، حيث كان يحذف شيوخ شيخه الأوزاعي  الضعفاء ويبقي الثقات ، فقيل له في ذلك ، فقال : أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء ، فقيل له : فإذا روى عن هؤلاء وهم ضعفاء ، أحاديث مناكير ، فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ، ضعف الأوزاعي ، فلم يلتفت الوليد  إلى ذلك ، وممن عرف بهذا أيضا بقية بن الوليد  ، وقد ثبت أن هشيم بن بشير  ، (وهو مشهور بالتدليس مع ثقته كما نص على ذلك النسائي  )

، فعله ولكن بإسقاط ثقة ، وهو مالك  في روايته عن يحيى بن سعيد  عن الزهري  عن عبد الله بن محمد بن الحنفية  عن أبيه عن علي رضي الله عنه ، حيث رواه غير هشيم  بإدخال مالك  بين يحيى والزهري  ، ورواية يحيى  عن الزهري  معروفة ، ولكنها ليست في نفس شهرة رواية مالك عن الزهري  .

وقد يفعله الراوي أحيانا ، ليس بقصد العلو في السند ولكن بقصد إسقاط من يرى أنه ليس بحجة عنده ، وإن كان حجة عند غيره ، كما فعل مالك  في روايته عن ثور بن يزيد  عن ابن عباس رضي الله عنهما ، حيث أسقط عكرمة  بين ثور  وابن عباس رضي الله عنهما ، لأن عكرمة  ، تكلم فيه ونسب للخروج واتهم بالكذب ، وهو بريء من كل ذلك ، وقد دافع عنه ابن عبد البر  ، وعلى هذا لم يذكر مالك  في عداد المدلسين ، وإن كان الحافظ  قد قال بأنه يلزم من جعل التسوية تدليسا أن يذكره مالك  في عداد المدلسين ، وذكر  في طبقات المدلسين إسقاط مالك  لعاصم بن عبد الله من إسناد آخر وأنكر ابن عبد البر  أن يكون تدليسا ، وفي هذه الحالة لابد من التصريح بالسماع بين الشيخ وشيخ الشيخ ، وهناك من العلماء من قال بأنه يجب أن يصرح بالسماع في الطبقات التي يخشى من تسويته لها ، وهناك من يقول بأنه يجب أن يصرح بالسماع في كل طبقة فيها راويان متعاصران ، ليأمن تدليسه ، فقد يروي أحدهما عن الآخر بواسطة ضعيفة رغم تعاصرهما ، فيأتي المدلس ويحذف هذه الواسطة ، وربما لم يتفطن له لتعاصر الراويين .

تدليس العطف :

كأن يقول حدثنا فلان وفلان ، وهو لم يسمع من الثاني المعطوف ، وقد ذكر عن هشيم  أنه فعله ، حينما أوقفه أصحابه عند كل سند ليمنعوه من التدليس ، ففعل هذا امتحانا لهم حيث قال : حدثني حصين ومغيرة ، وهو لم يسمع من مغيرة ، ولذا أخره وذكر حصين الذي روى عنه أولا ، وقد ذكر الشيخ السعد حفظه الله أن هشيم  لم يفعله إلا مرة واحدة والله أعلم ، وخطورة هذا الأمر أن الشيخ المباشر (وهو في المثال السابق حصين) قد يكون ضعيفا أو كذابا ، والمعطوف عليه (وهو في هذا المثال مغيرة) ثقة ، فيتوهم الناظر في هذا السند أن الثقة متابع للضعيف ، وعلى هذا فالرواية مقبولة ، وهي في الحقيقة خلاف ذلك لأن ذلك الضعيف لا متابع له في الحقيقة .

تدليس المتابعة :

وهو من الأنواع الدقيقة ، وممن نبه على هذا النوع ابن رجب  ، وهذا النوع تتعلق به صحة الحديث ، وهو أن يروي الراوي الخبر عن شيخين ، أو يروي الخبر عن شيخه عن شيخين له واللفظان مختلفان ويسوق لفظ الضعيف ولا يسوق لفظ الثقة ، حيث أن أحد الشيخين ثقة والآخر ضعيف ، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه جرير بن حازم  (وهو أحد الثقات  وقد وصفه بالتدليس يحيى الحماني  في حديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) عن أبي اسحاق  عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه مرفوعا ، فقد رواه شعبة والثوري  عن أبي اسحاق  عن عاصم بن ضمرة عن علي موقوفا ، فثبت أن زيادة الرفع جاءت من طريق الحارث الأعور وهو ضعيف ، وعلى هذا يكون جرير  قد ذكر الثقة والضعيف معا في سياق إسناده ، ولكنه لم يذكر إلا رواية الضعيف فقط ، وعلى هذا لا يعتد برفع الحارث لهذا الحديث لأنه ضعيف لا تقبل زيادته .

تدليس صيغ التحمل :

وهو على صورتين :

إما أن يأتي الراوي بصيغة أعلى من الصيغة التي تحمل بها ، كأن يقول أخبرنا فلان وهو يقصد الإجازة ، وممن اشتهر بهذا المغاربة  ، وكذا أبو نعيم  ، وهذا الأمر ظاهر في صنيع المتأخرين لأن تحمل الإجازة اشتهر في عصرهم .

وإما أن يكون هذا الأمر من تلاميذ الشيخ ، كأن يقول الشيخ عن فلان أو قال فلان ، ولا ينتبه الطلاب لهذا فيقولون حدثنا فلان ، قال : حدثنا فلان ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

رواية الشاميين عن بقية  ، حيث أنهم لم يكونوا يفرقون بين صيغ التحمل ، فربما عنعن بقية  ، فيروي عنه الشاميون بصيغة تحمل صريحة كحدثنا وأخبرنا ، ومن أبرز من تكلم في هذه المسألة ونبه عليها أبو حاتم بن حبان  ، ولكنه اتهم بعض تلاميذ بقية  فقال : ابتلي بقية  بمن يسوي أخباره ، ومن الجدير بالذكر أن الصناعة الحديثية عند الشاميين أقل منها عند العراقيين ، نظرا لإنتشار الكذب والوضع في العراق ، وهذا ما اضطر حفاظ العراق إلى شدة التحري في رواياتهم ، فأدى ذلك بطبيعة الحال إلى تبلور الصناعة الحديثية عندهم ، وظل الأمر في الشام على هذه الصورة حتى قدم الزهري  الشام وعلم أهلها صناعة الإسناد .

عبد الله بن وهب  ، حيث حصل له نوع من التساهل في باب الرواية وذلك فيما يتعلق بالإجازة فكان المدنيون وأيضاً المصريون كعبد الله بن وهب ممن عرف عنهم التساهل فيما يتعلق بالإجازة والوجادة كالشاميين بخلاف العراقيين الذين عرف عنهم التشدد في هذه الناحية وذلك لكثرة التدليس والكذب والتخليق في العراق ، ولذلك تكلم في إبن وهب فيما يتعلق بهذه المسألة وذكره ابن عدي في كتابه الكامل ولكن هذا لم يؤثر عليه لأنه  من الثقات الحفاظ الضابطين لأخبارهم .

تدليس البلدان :

كأن يقول حدثنا فلان فيما وراء النهر ، وهو يعني أن شيخه قد حدثه وراء نهر دجلة ، ولكن السامع يتوهم أنه حدثه فيما وراء نهر جيحون ، وخطورة هذا النوع تظهر بوضوح إذا ما روى حديثا عن شيخ من البلد الذي دلسه ، وقد ثبت أن ذلك الشيخ لم يخرج من بلده قط ، فأين سمع هذا الراوي الحديث من هذا الشيخ ، وهو لم يدخل بلد شيخه قط ، ولم يخرج شيخه من بلده قط ؟!! .

تدليس القطع :

ويسمى أيضا تدليس السكوت ، كأن يقول : حدثنا أو سمعت ثم يسكت ، ثم يقول : هشام بن عروة أو الأعمش على سبيل المثال موهما أنه سمع منهما ، وليس كذلك ، وهذا النوع من الرواة لا تقبل روايتهم حتى لو صرحوا بالسماع لأن هذه السكتة لا يمكن اثباتها في الصحف وممن اشتهر بهذا التدليس عمر بن علاء بن عطاء المقدمي حيث وصفه الحافظ ابن حجر بقوله :  ثقة مشهور كان شديد الغلو في التدليس وممن وصفه بذلك أحمد وابن معين والدارقطني  ، وقال ابن سعد  بأنه ثقة وكان يدلس تدليسا شديدا يقول ثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة أو الأعمش أو غيرهما ، وذكر الحافظ  عمر بن عبيد الطنافسي ، ويعلق الشيخ السعد حفظه الله بقوله بأن الحافظ رحمه الله ربما وهم في ذكر الطنافسي كمثال لهذا النوع ، لأنه لم يعرف عنه هذا التدليس ، ويقول الشيخ حفظه الله أنه ينبغي التثبت فيما يرويه المقدمي ، والأصل في أحاديثه الإستقامة ، لأنه لا يعرف عنه أنه مكثر من هذا التدليس ، ودلل حفظه الله لذلك ، بأن ابن عدي  ، مع استقصاءه ، لم يذكر للمقدمي إلا حديثا واحدا فقط دلس فيه بهذه الصورة ، وهو حديث رواه عن هشام بن عروة  ، وقد اختلف عليه ، ونبه الشيخ حفظه الله ، بأن من علامات تدليسه نكارة المتن ، وأما الشيخ الألباني  فقال في معرض تعليقه على حديث : كان يغيّر الاسم القبيح إلى الحسن بأن رواية المقدمي مردودة وإن صرح بالتحديث ، وقال عن المقدمي : وعمر هذا هو في نفسه ثقة ، لكنه كان يدلس تدليسًا سيئًا جدًا ، ثم ساق للحديث طرقًا أخرى ، وأما الشيخ مقبل رحمه الله ، فقال : يتوقف في حديثه إلا أن يقبله الحفاظ ،  أو أن يصحح حديثه حافظ من الحفاظ ، وإلا فيتوقف فيه ، هذا مع تصريحه بالتحديث.

 

 

تدليس الإرسال :

والإرسال على نوعين : إما أن يكون جليا ، وهو أن يرسل عمن لم يعاصره وهذا لا إشكال فيه ، وإما أن يكون خفيا ، وهو أن يرسل عمن عاصره ، فإذا أرسل عمن عاصره موهما سماعه منه ، فهذا هو تدليس الإرسال ، ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض الرواة مثل الحسن البصري ، كانوا يرسلون عمن عاصروهم ولم يلقوهم ، لذا فإنه (في حالة الحسن البصري على سبيل المثال) لابد أن نتأكد من سماعه فإن ثبت سماعه فحديثه محمول على الإتصال وإن عنعن في حديث آخر ما لم تكن مروياته عن شيخه قليلة كروايته عن سمرة بن جندب رضي الله عنه فالمشهور أنه سمع منه حديثا واحدا أو أحاديث قليلة لأن له منكرات عن سمرة ، والحسن  يقول أحيانا (حدثنا) ويقصد بها (حدث من حدثنا) وهذا كقوله (خطبنا ابن عباس) ويقصد خطب أهل البصرة لأن الحسن لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنه ، وهذا النوع يحكم عليه بالإنقطاع .

 

مسألة : هل لمتأخر أن يحكم على راو بالتدليس ولو لم يسبقه أحد من المتقدمين لذلك وذلك كأن يطلع على رواية عنعن فيها ورواية ذكر فيه الواسطة وكان ضعيفا مع تصريحه فيها بالسماع ؟

يقول الشيخ الألباني  : كيف يمكن لمتأخر أن يحكم بهذا الحكم مع قصور المتأخرين البين في مسألة جمع المرويات وسبرها وهذا ما توافر للمتقدمين فكيف لم يطلعوا على ما اطلع المتأخر عليه ومما يؤيد ما ذهب إليه الشيخ  صنيع ابن حبان  لما دخل حمص وجمع مرويات بقية واتضح له بسبرها من أين أتي بقية وكيف أنه كان يروي المناكير عن الثقات ، وما قاله الحافظ  في ترجمة (جعفر بن مسافر) حيث توقف في الحكم عليه بالتدليس رغم أنه وقف على رواية معنعنة له وأخرى صرح فيها بالسماع مع ذكر الواسطة الضعيف لأن المتقدمين لم يذكروا تدليس جعفر وهذا صنيع ابن عدي  في الكامل حيث يحيل على كلام المتقدمين في بعض التراجم فيقول : (لم أر للمتقدمين فيه كلاما) ، وممن تكلم في هذه المسألة الشيخ المعلمي  حيث قال : (لنا أن نقول إذا قال إمام من الأئمة كالبزار وأبو نعيم والطبراني : (تفرد بالرواية عنه فلان) أن نقول : (فلان لم يتفرد عنه وإنما روى عنه آخر  ، أما الحكم بالعدالة أو نفيها فهو غير ممكن لنا إذ كان لم يكن معلوما للمتقدمين) .

 

مسألة : يقول الحافظ الذهبي  بأن عنعنة المدلس الملازم لشيخه مقبولة ، كعنعنة الأعمش  عن أبي صالح وأبي وائل وإبراهيم النخعي  ، ولكن يرد على ذلك عدم قبوله لعنعنة أبي الزبير  عن جابر رضي الله عنه ، بل إنه قال عن بعض عنعناته عن جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم  : وفي النفس منها شيء ، فما توجيه ذلك ؟

توجيه ذلك أن الذهبي  اشترط طول الملازمة ، ولم يشترط الإكثار ، فربما كان المدلس مكثرا عن شيخه ولكنه غير ملازم له ، أما في حالة الملازم (كالأعمش  ، الذي لزم مجلس أبي صالح  عشرين سنة) ، فالعنعنة مقبولة ، لأنه يبعد أن يحتاج لواسطة في روايته عن شيخه الملازم له .

مسألة : نبه الشيخ السعد حفظه الله في معرض كلامه عن صيغ الأداء ، إلى صورة دقيقة من صور التدليس ، وهي قول الراوي قريء _ (بالبناء للمجهول) _ على فلان ، فهي صيغة محتملة ، فقد يقرأ (بالبناء للمجهول) على ذلك الشيخ والراوي غير موجود ، ومن أبرز من فعل ذلك الدارقطني  حيث قالُ : قُرئ على أبي القاسم البغوي : أخبرك فلان ، وأبو نُعَيم  حيث قال : قُرِئ على عبدا لله بن جعفر بن فارس :حدثنا هارون بن سليمان .

 

ومن صور التدليس الخفية الأخرى : قول الراوي : أخبرنا فلان من كتابه ، إذا كان تحمله عنه إجازة ، لأنه في هذه الحالة لابد أن يبين أن تحمله كان إجازة ، والصواب أن يقول في مثل هذه الحالة : أخبرنا فلان في كتابه ، وأما إن كان تحمله عنه سماعا فلا إشكال في قوله : أخبرنا فلان من كتابه .

ومن صوره الخفية أيضا : أن يكون قد حَضَر طِفْلاً على شيخٍ وهو ابُن سنتينِ أو ثلاث ، فيقول : أنبأنا فلان ، ولم يقل : وأنا حاضر . فهذا الحضورُ العَرِيُّ عن إذنِ المُسْمِع لا يُفيد اتصالاً ، بل هو دون الإجازة ، فإن الإجازة نوعُ اتصال عن أئمة ، وقد ذكر الشيخ السعد حفظه الله ، أن هذا الأمر اشتهر عند المتأخرين ، ومن أبرز من فعل ذلك من المتأخرين ، السيوطي  ، حيث أحضره أبوه لمجلس ابن حجر  وهو ابن ثلاث سنين ، فكان يروي بعد ذلك عن ابن حجر 

مسألة : "طبقات المدلسين" للحافظ ابن حجر ، هل يعمل بها ؟

يقول الشيخ مقبل رحمه الله : طبقات المدلسين للحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- اجتهاد منه ، وفي الغالب أن اجتهادات الحافظ ابن حجر ، واجتهادات غيره من الحفاظ أسدّ من اجتهاداتنا ، فلسنا ملزمين بها ، لكن إذا عجز الشخص ولم يستطع أن يميز بين أقوال أهل العلم ، فلا بأس أن يأخذ بها ، وقد نوزع الحافظ ابن حجر في بعضهم ، فالزهري عدّه من الطبقة الثالثة ، وهي من الطبقات التي تضر عنعنتها ، ونازعه الصنعاني في "توضيح الأفكار" وقال: ينبغي أن يعدّ من الطبقة الثانية . فهذا اجتهاد من الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-، وإذا رأينا خلاف هذا عن اجتهاد وفهم فلا بأس بذلك .

 

الحديث المضطرب والحديث المعلل :

تعريف العلة :

العلة شيء خفي يقدح في أصل الحديث مع أن الظاهر السلامة منه ، فهي خفية لا تظهر للوهلة الأولى عند النظر للسند ، وقد أطلق بعض العلماء العلة على كل الأسباب التي يضعف بها الحديث من جرح الراوي بالكذب أو الغفلة أو سوء الحفظ ، أو نحو ذلك من الأسباب الظاهرة القادحة ، فيقولون : هذا الحديث معلول بفلان ، فهم لا يريدون هنا العلة الإصطلاحية بطبيعة الحال وممن سار على هذا النهج أبو يعلى الخليلي .

وهناك علماء يطلقون العلة على كل ما يعل الحديث به وإن كان غير قادح في صحة المتن ومن هؤلاء الخليلي والسيوطي  ، فقد تكون العلة في الإسناد فقط دون المتن ، لأنه أتى من طريق آخر صحيح ، كالحديث الذي رواه يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو ابن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (البيعان بالخيار) الحديث ، فالمتن صحيح وإسناده غير صحيح والعهدة فيه على يعلى بن عبيد  لأنه غلط على سفيان الثوري في قوله عمرو بن دينار والصحيح هو عبد الله بن دينار وكلاهما ثقة فلا إشكال في قبول المتن ، وعرف ذلك بمطالعة أسانيد من تابعوا يعلى على سفيان كأبي نعيم الفضل بن دكين ومحمد ابن يوسف الفريابي ومخلد بن يزيد ، فقد رووه جميعا عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، وهنا فائدة مهمة جدا وهي كيفية اكتشاف العلة وقد ظهر هذا من خلال المثال السابق ، وهي بجمع طرق الحديث ، وهذا بلا شك يوضح الفارق الكبير بين قدرة المتقدمين على اكتشاف العلة لما لهم من إحاطة كبيرة بالمرويات جمعا وحفظا ، خلاف المتأخرين الذين اعتمد جلهم على القواعد التي اصطلح عليها العلماء في كتب المصطلح دون النظر إلى القرائن والمرجحات .

 

وجدير بالذكر أن لفظ المعلل أعم من المضطرب ، فكل مضطرب معل ، ولا عكس ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، حديث مسلم  من رواية الوليد بن مسلم  : حدثنا الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس أنه حدثه قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله رب العالمين) ، لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا في آخرها . ثم رواه مسلم  أيضا من رواية  الوليد عن الأوزاعي : أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة  أنه سمع أنسا يذكر ذلك ، قال ابن الصلاح  في كتاب علوم الحديث : (فعلل قوم رواية اللفظ المذكور_يعني التصريح بنفي قراءة البسملة_لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه : فكانوا يستفتحون القراءة بـ (الحمد لله رب العالمين) ، من غير تعرض لذكر البسملة ، وهو الذي اتفق البخاري ومسلم  على إخراجه في الصحيح . ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له . ففهم من قوله : (كانوا يستفتحون بالحمد لله) أنهم كانوا لا يبسملون ، فرواه على ما فهم ، وأخطأ ، لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة ، وليس فيه تعرض لذكر التسمية . وانضم إلى ذلك أمور : منها أنه ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن الإفتتاح بالتسمية ، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . الباعث الحثيث ص94 طبعة مكتبة السنة ، وقد علق السيوطي  على هذا الحديث بقوله : فإن ابن عبد البر  أعله بالإضطراب ، والمضطرب يجامع المعلل ، لأنه قد تكون علته ذلك .

وقد قسم الحاكم  في علوم الحديث أجناس العلل إلى عشرة أقسام ، ولكنه لم يجعلها لحصر أنواع العلل ، فقد قال  بعد أن ذكرها : (وبقيت أجناس لم نذكرها ، وإنما جعلتها مثالا لأحاديث كثيرة معلولة ، ليهتدي إليها المتبحر في هذا العلم ، فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم) ، ومن أبرز الأجناس التي ذكرها :

الإعلال بعدم سماع الراوي ممن روى عنه ، كحديث موسى بن عقبة  عن سهيل بن أبي صالح  عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (من جلس مجلسا كثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) ، فروى أن مسلم  جاء إلى البخاري  وسأله عنه ، فقال : هذا حديث مليح ، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث ، إلا أنه معلول ، حدثنا به موسى بن إسماعيل  حدثنا وهيب  حدثنا سهيل  عن عون بن عبد الله ، قوله ، قال محمد بن إسماعيل (أي البخاري ) : وهذا أولى ، لأنه لا يذكر لموسى بن عقبة  سماع من سهيل  ، وهذه العلة نقلها أيضا الحافظ العراقي  عن الحاكم  ، ثم عقب عليه فقال : هكذا أعل الحاكم  في علومه هذا الحديث بهذه الحكاية ، والغالب على الظن عدم صحتها ، وأنا أتهم بها أحمد بن حمدون القصار ، راويها عن مسلم  ، فقد تكلم فيه ، وهذا الحديث قد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم  ، ويبعد أن البخاري  يقول إنه لا يعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث ، مع أنه قد ورد من حديث جماعة من الصحابة ، غير أبي هريرة ، وهم : أبو برزة الأسلمي ورافع بن خديج وجبير بن مطعم والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك والسائب بن يزيد وعائشة رضي الله عنهم جميعا ، وقد بينت (والكلام للعراقي رحمه الله)) هذه الطرق كلها في تخريج أحاديث الإحياء للغزالي  .

 

الإعلال بوصل المرسل ، كحديث قبيصة بن عقبة  عن سفيان  عن خالد الحذاء وعاصم  عن أنس مرفوعا : أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياءا عثمان ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وإن لكل أمة أمينا ، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة ، قال الحاكم  : فلو صح إسناده لأخرج في الصحيحين ، إنما روى خالد الحذاء  عن أبي قلابة  مرسلا ، وأسند ووصل : إن لكل أمة أمينا وأبو عبيدة أمين هذه الأمة ، هكذا رواه البصريون الحفاظ عن خالد الحذاء وعاصم  جميعا ، وأسقط المرسل من الحديث ، وخرج المتصل بذكر أبي عبيدة في الصحيحين .

 

الإعلال برفع الموقوف ، كحديث أبي فروة يزيد بن محمد  حدثنا أبي عن أبيه عن الأعمش  عن أبي سفيان  عن جابر مرفوعا : من ضحك في صلاته يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء ، ثم ذكر الحاكم  علته ، وهي ما روى بإسناده عن وكيع  عن الأعمش  عن أبي سفيان  قال : سئل جابر ، فذكره ، فأوقفه على جابر رضي الله عنه . 

 

الإعلال بضعف رواية أهل بلد عن أهل بلد آخرين ، كرواية المدنيين عن الكوفيين ، كحديث موسى بن عقبة  عن أبي إسحاق  عن أبي بردة  عن أبيه مرفوعا : إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ، فهذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا ظن أنه من شرط الصحيح ، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا ، ثم رواه الحاكم  بإسناده إلى حماد بن زيد  عن ثابت البناني  قال : سمعت أبا بردة  يحدث عن الأغر المزني رضي الله عنه ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي ، فأستغفر الله في اليوم مائة مرة ، ثم ذكر الحاكم  أنه رواه مسلم  في صحيحه هكذا ، وقال : وهو الصحيح المحفوظ .

 

أن يكون محفوظا عن صحابي ، ويروى عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحبته ، بل لا يكون معروفا من جهته ، كحديث زهير بن محمد  عن عثمان بن سليمان  عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، قال الحاكم  : خرج العسكري وغيره من المشايخ هذا الحديث في الوحدان ، وهو معلول من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن عثمان هو ابن أبي سليمان ، والآخر : أن عثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم  عن أبيه ، والثالث : قوله سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو سليمان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه .

 

أن يكون الحديث قد روي بالعنعنة وسقط منه رجل ، دل عليه طريق أخرى محفوظة ، كحديث يونس  عن ابن شهاب  عن علي بن الحسين  عن رجل من الأنصار : أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فرمي بنجم فاستنار … الحديث ، قال الحاكم  : علة هذا الحديث أن يونس على حفظه وجلالة محله قصر به ، وإنما هو عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : حدثني رجال من الأنصار ، وهكذا رواه ابن عيينة وشعيب وصالح والأوزاعي  وغيرهم عن الزهري  .

 

الإختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله ، كحديث أبي شهاب الحناط  عن سفيان الثوري  عن حجاج بن فرافصة  عن يحيى بن أبي كثير  عن أبي سلمة  عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم ، وذكر الحاكم  علته ، وهي ما أسند عن محمد بن كثير  : حدثنا سفيان الثوري  عن حجاج  عن رجل عن أبي سلمة  ، فذكره ، وقد اعترض الشيخ أحمد شاكر على هذه العلة بقوله بأنها غير صحيحة ، لأن أبا شهاب الحناط  لم ينفرد عن الثوري  بتسمية يحيى بن أبي كثير ، فقد تابعه عليه عيسى بن يونس ويحيى بن الضريس ، فروياه عن الثوري عن حجاج  عن يحيى  عن أبي سلمة  عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ، وله أيضا شاهد ، حيث رواه عبد الرزاق عن بشر بن رافع  عن يحيى بن أبي كثير  بإسناده ، فانتقض تعليل الحديث بغلط أبي شهاب الحناط  .

 

عدم سماع الراوي لأحاديث معينة من شيخه الذي أدركه وسمع منه ، فإذا رواها عنه بلا واسطة ، فعلتها أنه لم يسمعها منه ، كحديث يحيى بن أبي كثير  عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال : أفطر عندكم الصائمون … الحديث ، قال الحاكم  : قد ثبت عندنا من غير وجه رواية يحيى بن أبي كثير  عن أنس بن مالك رضي الله عنه إلا أنه لم يسمع منه هذا الحديث ، ثم أسند عن يحيى  قال : حدثت عن أنس ، فذكره ، وقد يرد على كلام الحاكم  ، قول النووي  في شرحه لصحيح مسلم  : وأما يحيى بن أبي كثير  فتابعي صغير كنيته أبو نصر ، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه  ، وسمع السائب بن يزيد رضي الله عنه ، فالنووي  ذكر الرؤية ، ولم يذكر السماع ، فقد تثبت الرؤية ولا يثبت السماع ، كما قال الحافظ العلائي  ، في مسألة سماع عطاء  من ابن عمر رضي الله عنهما ، حيث أثبت الرؤية ، ونفى السماع ، ومن الأمثلة على ذلك أيضا مسألة سماع الحسن البصري  من علي رضي الله عنه ، حيث قال الحافظ  في طبقات المدلسين : رأى عليا ولم يثبت سماعه منه .

وقد قسم الشيخ السعد حفظه الله العلة إلى قسمين :

علة المتن :

وذلك بأن يخالف نصا قرآنيا ، أو نصا من السنة الصحيحة ، أو العقل السليم ، أو إذا كان لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما إذا وجدت زيادة في المتن ، فلا بد من شروط لقبولها ، ومن أبرز الأمثلة التي ذكرها الشيخ حفظه الله لعلة المتن :

حديث : (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) ، فقد مال الشيخ حفظه الله إلى إعلال هذا المتن لأنه خالف نصا صحيحا ، وهو حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الذي رواه البخاري  في الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم ، وفي آخره : وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة ، قال : فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (وأولاد المشركين) ، وقد قال ابن تيمية  في حديث : (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) : (ليس لهذا القول أصل) وهو مخالف للنصوص الأخرى ومنها ما ذكره الله عز وجل عن خدم أهل الجنة وأنهم ولدان مخلدون ولم يقل سبحانه وتعالى بأنهم أطفال المشركين وقد يرد على حديث سمرة رضي الله عنه ، حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه ، وفيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون ، فيصاب من نسائهم وذراريهم ، فقال : (هم منهم) وفي رواية : (هم من آبائهم) ، والجواب على هذا الحديث : أنه ليس فيه أنهم في النار وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم في الحكم ، وأنهم إذا أصيبوا في البيات ، لا على الإنفراد ، لم يضمنوا بدية ولا كفارة ، وجدير بالذكر أن بعض العلماء قد صححوا حديث : (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) ، صحيح الجامع الصغير/ الطبعة الأولى/ حديث 1035 ، وقد اختلف في أطفال المشركين على ثمانية أقوال ، ذكرها ابن القيم  ورجح أنهم يمتحنون في الآخرة ، فمن أطاع منهم أدخله الله الجنة ، ومن عصى عذبه ، واستأنس بحديث الأسود بن سريع وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعا : أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها ، فهذا الحديث نص في الإمتحان ، وقد يشمل أطفال المشركين ، وإن لم يرد ذكرهم فيه ، قال ابن القيم  : وهي أحاديث يشد بعضها بعضا ، وقد نقل الأشعري  القول بأنهم يختبرون يوم القيامة على أنه مذهب أهل الحديث ، وهذا ما رجحه الشيخ السعد حفظه الله ، ومال مختصرمعارج القبول ، الشيخ هشام بن عبد القادر حفظه الله إلى القول بأنهم في الجنة واستدل بحديث سمرة المتقدم ، مختصر معارج القبول ، ص13 ، 14 ، دار الصفوة .

 

حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : (ثلاثة لا يستجاب لهم دعاء وذكر منهم : ورجل كان له إمرأة سيئة الخلق ولم يطلقها) ، فمتن هذا الحديث مخالف لكثير من النصوص التي تأمر  الرجل بالصبر على أهله ، وفي سنده أبضا علة وهي أنه قد اختلف فيه على الشعبي  وأكثر الرواة على وقفه كما ذكر ذلك الحاكم وابن كثير  ، فاجتمع فيه علة المتن والإسناد .

 

حديث أسماء رضي الله عنها : (إن المرأة إذا بلغت المحيض … الحديث) ، فقد أكد الشيخ السعد حفظه الله على بطلانه لأنه مخالف للنصوص الشرعية الآمرة بتغطية الوجه ، وفي متنه أن أسماء رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، وهذا لا يتصور ، كما قال الشيخ حفظه الله ، وقد جاء هذا الحديث من طريق : سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة ، فيقول الشيخ حفظه الله أن هذا الإسناد ظاهره لا بأس به وله شاهد عند البيهقي  من حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها ولكن هذا الحديث به أكثر من علة تمنع الحكم بصحته ومنها :

أن الوليد بن مسلم  لم يصرح بالتحديث وهو مدلس .

سعيد بن بشير  حديثه منكر عن قتادة .

أن أصحاب قتادة الثقات خالفوا سعيد بن بشير  فأرسلوه ووصله سعيد .

عنعنة قتادة عن خالد بن دريك وقتادة مدلس .

أن خالد بن دريك  شامي (وهو ليس بالمشهور وإن كان هناك من وثقه) ولا يعرف له سماع من عائشة رضي الله عنها وقد تفرد بهذا الحديث عنها ولم يتابع عليه من أصحاب عائشة رضي الله عنها الأثبات كعروة والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعمرة بنت عبد الرحمن والأسود بن يزيد "وهم رجال الطبقة الأولى عنها" ، وكل هذه علل في اسناده ، بالإضافة إلى ما سبق من العلة في متنه .

وقد يروى الحديث بأسانيد صحيحة بلفظ صحيح ثم يرد بسند آخر بلفظ مخالف ، ومن الأمثلة على ذلك ، حديث أبي إسحاق  عن الأسود  عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام جنبا ولا يمس ماءا ، فقد مال الشيخ حفظه الله إلى الرأي القائل ببطلان هذا الحديث رغم صحة سنده ، وقال حفظه الله بأن الرواية الصحيحة هي رواية إبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن الأسود  عن الأسود  عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ ، وحكم حفظه الله بتوهيم أبي إسحاق  ، ويرد على ذلك إمكانية الجمع بين النصين ، بأن يقال بأن الحديث الأول على الجواز والحديث الثاني على الإستحباب ، وبذلك يزول الإشكال ، وهذا ما مال إليه الشيخ عادل بن يوسف العزازي حفظه الله في تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة ، كتاب الطهارة ص124 ، طبعة مؤسسة قرطبة .

 

وقد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة بأسانيد صحيحة في واقعة معينة ، ثم يأتي إسناد آخر متنه يخالف ما جاء في الأحاديث الأخرى في هذه الواقعة ، وقد ضرب الشيخ السعد حفظه الله مثالا لذلك بالأحاديث التي جاءت في وضوءه صلى الله عليه وسلم ومنها أحاديث عثمان وعلي وابن عباس وعبد الله بن زيد رضي الله عنهم ولم يذكر في أي حديث منها البسملة قبل الوضوء وقد جاءت البسملة في بداية الوضوء من عدة طرق لا يخلو كل منها من ضعف عن أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم ، فهنا يمكن أن يقال أن هذه الطرق تتقوى بمجموعها وهذا ما مال إليه الحافظ رحمه حيث قال : والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا . وقد روى حديث أبي هريرة : (لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه) أبوداود  (101) وابن ماجة (399) ، ولكن الشيخ حفظه الله يرى أن كل هذه الطرق شديدة الضعف لا تصلح للمتابعة وقد ضعفها أحمد  ، وعلى هذا يكون الحديث معلولا بمخالفة متنه لمتون أخرى ثابتة ، وبشدة ضعف طرقه التي لا تتقوى بمجموعها (علة في المتن والسند) .

 

حديث مسح الوجه بعد الإنتهاء من الدعاء لأنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد رفع يديه عند الدعاء في مواطن متعددة تصل إلى ثلاثين طريقا ، فهي تبلغ حد التواتر المعنوي ، ولم يذكر فيها مسح الوجه ومنها ما جاء عند أصحاب السنن وعند الطبراني  في كتاب الدعاء من طريق أبي عثمان النهدي  عن سلمان رضي الله عنه : (إن الله ليستحي من عبده إذا رفع يديه …… الحديث) ، وقد جاء مرفوعا وموقوفا والراجح الوقف ومما يزيد ضعف أحاديث المسح أن المسح لم يرد مقرونا بالرفع في الأحاديث التي ورد فيها الرفع . وقد ذكر الشيخ محمد بن عثيمين  حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند الترمذي : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه ، وذلك في معرض تمثيله للحديث الحسن لغيره ونقل قول صاحب بلوغ المرام : وله شواهد عند أبي داود وغيره ومجموعهما يقضي بأنه حديث حسن . (مصطلح الحديث ص7 مكتبة العلم) ، وقد رد شيخ الإسلام  أحاديث مسح الوجه رغم تعدد طرقها بينما صحح الحافظ  هذه الأحاديث بمجموع طرقها .

 

جاء بأسانيد صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يخلل لحيته في الوضوء ، وعورض هذا بأحاديث يقول الشيخ السعد حفظه الله عن أسانيدها بأنها أسانيد ضعيفة ، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته ، وعليه فالراجح عدم تخليل اللحية ، ويرد على ذلك حديث أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه ، فخلل به لحيته ، وقال : هكذا أمرني ربي عز وجل ، فقد جاء هذا الحديث عند أبي داود  بإسناد صحيح (145) وقال عنه الشيخ عادل بن يوسف العزازي حفظه الله في تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة بأنه حسن بشواهده ، وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته ، فقد قال الشيخ عادل بأنه حسن بشواهده ، رواه ابن ماجة  (430) والترمذي  (31) وصححه ، بل وذهب بعض العلماء إلى وجوب تخليل اللحية ، والأكثرون على أنها سنة ، وقال الشوكاني  معلقا على ذلك : الإحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته ، يعني عدم التهاون في تخليلها ، تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة ، كتاب الطهارة ص74 ، طبعة مؤسسة قرطبة .

 

العلة في الإسناد :

وهي تنقسم إلى قسمين :

مع التفرد :

وهنا ينبه الشيخ حفظه الله على أن الأحاديث لها طرق أو أسانيد معروفة مسلوكة ، وهذا مما يدل بوضوح على أهمية معرفة الطرق التي توصل إلى الحديث ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

ما سبق من الكلام على حديث كفارة المجلس من طريق موسى بن عقبة  عن سهيل بن أبي صالح  عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، حيث قال مسلم  : لا أعرف حديثا جاء بهذا الإسناد إلا هذا الحديث ، لأن موسى بن عقبة  لا تعرف له رواية عن سهيل  ، وقد صرح البخاري  بأن الطريق الصحيح لهذا الحديث هو طريق موسى بن إسماعيل  عن وهيب   عن سهيل بن أبي صالح  عن عون بن عبد الله  ، حيث أن وهيب  معروف بالرواية عن سهيل  خلاف موسى بن عقبة  ، بالإضافة إلى أن موسى سلك الجادة في الرواية ، فروى عن سهيل  عن أبيه ، بينما خالف وهيب  الجادة ، وهذا دليل على أنه قد حفظ ما لم يحفظه موسى  .

أفراد الوليد بن مسلم  عن مالك  ، قال عنها أبو داود  بأنها أباطيل ومنكرات ، لأن الوليد  لم يلازم مالك  الملازمة التي تجبر هذا التفرد .

تفرد هشيم بن بشير  عن الزهري  ، لأن هشيم  لم يسمع من الزهري  إلا مرة واحدة ، ولم يتقن ما أخذه عن الزهري في هذه المرة ، وقال بعض العلماء : الذي حفظه هشيم عن الزهري قدر أربعة أحاديث.

تفرد همام  عن ابن جريج  ، فقد أنكره أبو داود  لأن همام  لم يسمع من ابن جريج  إلا مرة واحدة في البصرة ، ولم يكرر هذا السماع ليتقن ما أخذه ، على عادة الرواة ، بالإضافة إلى أن كتب ابن جريج  لم تكن معه في هذه الرحلة ، فحدث له بعض الوهم .

وقد نبه الشيخ حفظه الله إلى أن معرفة الأسانيد المشهورة مرتبطة بكثرة الإطلاع على كتب الصحاح وكتب الجرح والتعديل .

 

مع المخالفة :

كأن يصل البعض الحديث ويرسله البعض ، فيكون الحكم للأوثق والأكثر ، ومن الأمثلة على ذلك :

ما سبق ذكره ، من حديث حسان بن إبراهيم الكرماني  عن عبد العزيز بن أبي رواد  عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وما عارضه من رواية وكيع وخلاد بن يحيى  عن عبد العزيز بن أبي رواد  عن محمد بن واسع  ، وهي رواية معضلة ، فهنا يقول المتقدمون بأن حسان  خالف الأوثق والأكثر (وكيع وخلاد ) ، وعليه فروايته معلولة ولا تقبل زيادته في سند الحديث ، بينما المتأخرون ، يقولون بأن هذا حديث وهذا حديث وعليه فلا مانع من تقوية المعضل بالمسند ، والحكم عليه بالصحة ، ولا شك أن منهج المتقدمين هو الصحيح ، لأن مخرج الروايتين واحد ، فلا تتقوى إحداهما بالأخرى .

 

الحديث المضطرب :

تعريفه : ما اختلف الرواة في سنده أو متنه وتعذر الجمع في ذلك والترجيح ، وهذا يعني أن روايات هذا الحديث لا يمكن التوفيق بينها أبدا ، وهي متساوية في القوة من جميع الوجوه ، بحيث لا يمكن الترجيح بينها أبدا .

فإن أمكن الجمع وجب وانتفى الإضطراب ، ومثال ذلك :

اختلاف الروايات فيما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ففي بعضها أنه أحرم بالحج وفي بعضها أنه تمتع وفي بعضها أنه قرن بين العمرة بين والحج ، قال شيخ الإسلام : ولا تناقض بين ذلك فإنه تمتع تمتع قران وأفرد أعمال الحج وقرن بين النسكين العمرة والحج فكان قارنا باعتبار جمعه النسكين ومفردا باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين ومتمتعا باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين ، وإن كان الشيخ محمد الشنقيطي حفظه الله قد رجح في شرحه لزاد المستقنع رواية أنس رضي الله عنه ، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ابتداءا ، وقد ثبت هذا عن 25 صحابيا ، فلجأ حفظه الله إلى الترجيح .

وإن أمكن الترجيح عمل بالراجح وانتفى الإضطراب أيضا ، ومثال ذلك :

ما تقدم من ترجيح الشيخ الشنقيطي  ، في المثال السابق ، ومن الأمثلة على ذلك أيضا :

اختلاف الروايات في حديث بريرة رضي الله عنها حين عتقت فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن تبقى مع زوجها أو تفارقه ، هل كان زوجها حرا أو عبدا ؟ فروى الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنه كان حرا ، وروى عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر  أنه كان عبدا ، ورجحت روايتهما على رواية الأسود  لقربهما منها لأنها خالة عروة وعمة القاسم  ، وأما الأسود  فأجنبي عنها مع أن في روايته انقطاعا ، والقاعدة الحديثية المعروفة ، أن آل بيت الراوي هم أحفظ الناس لمروياته ، وعليه فروايتهم عنه مقدمة إذا حدث التعارض .

مثال المضطرب سندا :

حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : يارسول الله أراك شبت ، قال : شيبتني هود وأخواتها ، فهذا الحديث رواه الترمذي  ، في كتاب التفسير ، في تفسير سورة الواقعة ، بلفظ : شيبتني هود والواقعة والمرسلات … الحديث ، وقال  عنه : حسن غريب ، وهذا إشعار منه  بضعف الحديث ، كما تقدم في الكلام على جامع الترمذي  ، وأما الدارقطني  فقال : هذا مضطرب ، فإنه لم يرو إلا من طريق أبي إسحاق  ، وقد اختلف عليه فيه على نحو عشرة أوجه ، فمنهم من رواه مرسلا ، ومنهم من رواه موصولا ، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر رضي الله عنه ، ومنهم من جعله من مسند سعد ، ومنهم من جعله من مسند عائشة رضي الله عنها ، وغير ذلك ، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض ، والجمع متعذر .

مثال المضطرب متنا :

ومثاله : ما رواه الترمذي عن شريك بن عبد الله  عن أبي حمزة  عن الشعبي  عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة ، ورواه ابن ماجة  من هذا الوجه بلفظ : ليس في المال حق سوى الزكاة ، قال الحافظ العراقي  : فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل .

 

وقد قسم الشيخ السعد حفظه الله الإضطراب إلى قسمين من وجه آخر :

اضطراب مؤثر : ومثاله ما تقدم من أمثلة المضطرب سندا والمضطرب متنا .

اضطراب غير مؤثر : وممن نبه على ذلك الزركشي  في مختصره كما نقل عنه السيوطي  في التدريب ، حيث قال : وقد يدخل القلب والشذوذ والإضطراب في قسم الصحيح والحسن ، فرغم وجود الإضطراب ، إلا أن هذا لم يمنع من الحكم بصحة الحديث ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

اختلاف الروايات في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه اشترى قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ، قال ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لاتباع حتى تفصل ، ففي بعض الروايات : أن فضالة رضي الله عنه اشتراها ، وفي بعضها : أن غيره سأله عن شرائها ، وفي بعض الروايات : أنه ذهب وخرز ، وفي بعضها : ذهب وجوهر ، وفي بعضها : خرز معلقة بذهب ، وفي بعضها : باثني عشر دينارا ، وفي بعضها : بتسعة دنانير ، وفي بعضها : بسبعة ، قال الحافظ  معلقا على هذا الحديث : وهذا لايوجب ضعفا (يعني في الحديث) بل المقصود من الإستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع مالم يفصل وأما جنسها أو مقدار ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الإضطراب . مذكرة مصطلح الحديث ص13 .

ما لا يوجب الإضطراب مما يقع من الإختلاف في إسم الراوي أو كنيته أو نحو ذلك مع الإتفاق على عينه ، كما يوجد كثيرا في الأحاديث الصحيحة .

وقد يدخل تحت هذا القسم الإهمال غير الضار ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

ما وقع للبخاري  من روايته عن "أحمد" _ غير منسوب _ عن ابن وهب  ، فهنا اضطراب واضح لعدم معرفة عين من يروي عنه البخاري ، ولكن هذا الإضطراب يزول إذا ما علمنا أن البخاري  لا يروي عمن إسمه أحمد إلا من طريق أحمدين فقط (أحمد بن عيسى وأحمد بن صالح ) وكلاهما ثقة ، وعليه فلا إشكال في عدم معرفة أيهما شيخ البخاري

وما وقع لإبن ماجة من روايته عن علي بن محمد ، فهناك شيخان لإبن ماجة بهذا الإسم ، أحدهما : علي بن محمد الطنافسي ، وقد أكثر ابن ماجة عنه ، وهناك  علي بن محمد آخر ، وأحدهما ثقة ، والآخر صدوق ، فلا يضر عدم معرفة عين الشيخ في هذه الحالة ، لأن حديثه مقبول على كل حال .

 

  ، وأما إن كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفا ، فهذا اضطراب مؤثر ، لا يزول إلا بمعرفة عين الشيخ الذي يروي عنه الراوي ، فإن كان الثقة ، قبلنا حدثه ، وإن كان الضعيف رددنا حديثه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

سليمان بن داود ن فإن كان الخولاني فهو ثقة ، وإن كان اليمامي فهو ضعيف .

الليثان: ليث بن سعد ، وليث بن أبي سليم ، ليث بن أبي سليم مختلط ، وليث ابن سعد إمام .

أسامة بن زيد الليثي ، وأسامة بن زيد بن أسلم ، أسامة بن زيد الليثي يحسن البعض حديثه ، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف .

الحديث المدرج :

هو ما كانت فيه زيادة ليست منه .

أقسامه :

مدرج المتن :

وهو النوع الأشهر ، بل إن بعض العلماء كالشيخ أحمد شاكر  جعل الإدراج كله ف المتن حقيقة ، ومدرج المتن ينقسم إلى 3 أقسام :

المدرج في أول الحديث :

ومثاله ما رواه الخطيب  من رواية أبي قطن وشبابة   عن شعبة  عن محمد بن زياد  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار ، فقوله : أسبغوا الوضوء ، مدرج من قول أبي هريرة رضي الله عنه ، كما بين في رواية البخاري  عن آدم بن إياس  عن شعبة  عن محمد بن زياد  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أسبغوا الوضوء ، فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال : ويل للأعقاب من النار ، قال الخطيب  : وهم أبو قطن وشبابة  في روايتهما له عن شعبة على ما سقناه ، وقد رواه الجم الغفير عنه كرواية آدم  .

المدرج في وسط الحديث :

وله عدة أسباب من أبرزها :

استنباط الراوي لحكم فقهي من الحديث :

ومثاله ما رواه الدارقطني  في السنن من طريق عبد الحميد بن جعفر  عن هشام بن عروة  عن أبيه عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ ، قال الدارقطني  : كذا رواه عبد الحميد  عن هشام  ، ووهم في ذكر الأنثيين والرفغين ، وأدرجه كذلك في حديث بسرة ، والمحفوظ أن ذلك قول عروة  ، وكذا رواه الثقات عن هشام  ، منهم ، أيوب وحماد بن زيد  وغيرهما ، ثم رواه من طريق أيوب  بلفظ : من مس ذكره فليتوضأ ، قال : وكان عروة  يقول : إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ ، وكذا قال الخطيب ، فعروة لما فهم من لفظ الخبر أن سبب نقض الوضوء مظنة الشهوة ، جعل حكم ما قرب من الذكر كذلك ، فقال ذلك ، فظن بعض الرواة أنه من صلب الخبر ، فنقله مدرجا فيه ، وفهم الآخرون حقيقة الحال ، ففصلوا .

تفسير لفظ غريب :

ومثاله :

حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي عند البخاري  وغيره : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء _ وهو التعبد _ الليالي ذوات العدد … الحديث .

حديث فضالة رضي الله عنه مرفوعا عند النسائي  : أنا زعيم _ والزعيم الحميل _لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة .

المدرج في آخر الحديث :

ومن الأمثلة على ذلك :

ما رواه أبوداود  من طريق زهير بن معاوية  عن الحسن بن الحر  عن القاسم بن مخيمرة  عن علقمة  عن ابن مسعود رضي الله عنه : حديث التشهد ، وفي آخره : إذا قلت هذا ، أو قضيت هذا ، فقد قضيت صلاتك ، إن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد ، فهذه الجملة وصلها زهير  بالحديث المرفوع ، وهي مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ، كما نص عليه الحاكم والبيهقي والخطيب ، ونقل النووي في الخلاصة اتفاق الحفاظ على أنها مدرجة ، ومن الدليل على إدراجها أن حسينا الجعفي وابن عجلان  وغيرهما رووا الحديث عن الحسن بن الحر  بدون ذكرها ، وكذلك كل من روى التشهد عن علقمة  أو غيره عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وأن شبابة بن سوار وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان  _ وهما ثقتان _ رويا الحديث عن الحسن بن الحر  ، ورويا فيه هذه الجملة ، وفصلاها منه ، وبينا أنها من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ، فهذا التفصيل والبيان مع اتفاق سائر الرواة على حذفها من المرفوع ، يؤيدان أنها مدرجة ، وأن زهيرا وهم في روايته

 

حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ، الحديث ، فإن في رواية أخرى عن ابن مسعود رضي الله عنه : قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى .

 

حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : للعبد المملوك أجران ، والذي نفسي بيده لولا الجهاد والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك ، فهذا مما يتبين فيه بداهة أن قوله ، والذي نفسي بيده ، الخ ، مدرج من قول أبي هريرة رضي الله عنه لإستحالة أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن أمه ماتت وهو صغير ، ولأنه يمتنع منه صلى الله عليه وسلم أن يتمنى الرق ، وهو أفضل الخلق ، عليه الصلاة والسلام .

 

مدرج الإسناد :

وينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يكون الراوي سمع الحديث بأسانيد مختلفة فيرويه عنه راو آخر ، فيجمع الكل على إسناد واحد ، من غير أن يبين الخلاف ، ومثاله :

ما رواه الترمذي  من طريق ابن مهدي  عن الثوري  عن واصل الأحدب ومنصور  (و) الأعمش  عن ابي وائل  عن عمرو بن شرحبيل  عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قلت ، يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ ، الحديث ، فإن رواية واصل _ هذه _ مدرجة على رواية منصور والأعمش  ، فإن واصلا يرويه عن أبي وائل  عن ابن مسعود رضي الله عنه مباشرة ، لا يذكر فيه ، عمرو بن شرحبيل  ، وهكذا رواه شعبة  وغيره عن واصل  ، وقد رواه يحيى القطان  عن الثوري  بالإسنادين مفصلا ، وروايته أخرجها البخاري  .

ما رواه عثمان بن عمر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حلام عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت سودة رضي الله عنها فإذا امرأة على الطريق قد تشوفت ترجو أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ، وفيه : "إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها" .

يقول الحافظ ابن حجر :

فظاهر هذا السياق يوهم أن أبا إسحاق رواه عن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن حلام جميعاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وليس كذلك ، وإنما رواه أبو إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن النبي مرسلاً ، ورواه عن عبد الله بن حلام عن ابن مسعود رضي الله عنه متصلاً ، بينما رواه عبيد الله بن موسى وقبيصة ومعاوية عن الثوري متصلاً .

فأدرج إسرائيل المرسل في المسند ، وصارت رواية الجميع مسندة ، وبذلك خالف إسرائيل الأمر الواقع أو الثقات الآخرين ، فحديثه إذن معلول ، أو شاذ أو منكر .

 

الثاني : أن يكون الحديث عند راو بإسناد ، وعنده حديث آخر بإسناد غيره ، فيأتي أحد الرواة ويروي عنه أحد الحديثين بإسناده ، ويدخل فيه الحديث الآخر أو بعضه من غير بيان ومثاله :

حديث سعيد بن أبي مريم  عن مالك  عن الزهري  عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابرو ، ولا تنافسوا ، الحديث … ، فقوله : ولا تنافسوا ، أدرجه ابن أبي مريم  ، وليس من هذا الحديث ، بل هو من حديث آخر لمالك  عن أبي الزناد  عن الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ، هكذا رواهما رواة الموطأ ، وكذلك هو في الصحيحين عن مالك  .

وينبه الشيخ أحمد شاكر  على أنه يدخل في هذا القسم ما إذا سمع الراوي الحديث من شيخه إلا قطعة منه سمعها عن شيخه بواسطة ، فيروي الحديث كله عن شيخه ويحذف الواسطة .

الثالث : أن يحدث الشيخ فيسوق الإسناد ، ثم يعرض له عارض فيقول كلاما من عنده ، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد ، فيرويه عنه كذلك ومثاله :

حديث ابن ماجة عن إسماعيل الطلحي عن ثابت بن موسى الزاهد عن شريك بن عبد الله عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا : (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار) .

 

كيف يعرف الإدراج :

بوروده منفصلا في رواية أخرى ، وهذا يتطلب جمع طرق الحديث ، كما تقدم في حديث أبي قطن وشبابة  ، ومن الأمثلة على ذلك أيضا ، حديث الزهري عن عمارة بن أكيمة الليثي  عن أبي هريرة رضي الله عنه في القراءة خلف الإمام ، لما ثقلت القراءة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال لأصحابه بعد أن انتهى من صلاته : لعل بعضكم نازعني ، ونهاهم عن القراءة خلفه ، (فانتهى الناس عن القراءة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه) ، فهذه الجملة ، مدرجة من كلام الزهري  ، وقد عرف ذلك بجمع طرق الحديث ، حيث بين بعض الرواة أن هذا من كلام الزهري  ، وليس من كلام أبي هريرة رضي الله عنه . 

بالنص على ذلك من الراوي ، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه .

بالنص على ذلك من إمام ناقد ، كما في حديث زهير بن معاوية  ، حيث نص على الإدراج فيه الحاكم والبيهقي والخطيب  .

أن يستحيل أن يكون ذلك الكلام صادرا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (والذي نفسي بيده لولا الجهاد والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك) ، فيستحيل أن يكون هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يمكن أن يبعث الله رسولا مملوكا ، ولأن أمه صلى الله عليه وسلم ماتت وهو صغير .

 

حكم الإدراج :

وقد فصل الشيخ أحمد شاكر  القول في حكم الإدراج على النحو التالي :

الإدراج لتفسير شيء من معنى الحديث ، كما يقع كثيرا للزهري  ، وهذا فيه بعض التسامح ، والأولى أن ينص الراوي على بيانه .

وأما ما وقع من الراوي خطأ من غير عمد ، فلا حرج على المخطيء ، إلا إن كثر خطؤه ، فيكون جرحا في ضبطه وإتقانه .

وأما ما كان من الراوي عن عمد ، فإنه حرام كله ، على اختلاف أنواعه ، بإتفاق أهل الحديث والفقه والأصول وغيرهم ، لما يتضمن من التلبيس والتدليس ، ومن عزو القول إلى غير قائله ، وممن نبه على ذلك أيضا ، السمعاني  ، حيث قال : من تعمد الإدراج فهو ساقط العدالة ، وممن يحرف الكلم عن مواضعه ، وهو ملحق بالكذابين .

الحديث المقلوب :

هو ما قلب متنه أو إسناده :

مقلوب المتن :

وقد يحدث القلب لكل المتن أو بعض ألفاظه ، ومن أبرز الأمثلة عليه :

ما رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان  من حديث أنيسة مرفوعا : إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا ، وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا ، والمشهور من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم .

ما رواه مسلم  في السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة : ورجل تصدق بصدقة أخفاها ، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ، فهذا مما انقلب على أحد الرواة ، وإنما هو كما في الصحيحين : حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .

ما رواه الطبراني  من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إذا أمرتكم بشيء فائتوه ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ما استطعتم ، فإن المعروف ما في الصحيحين : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم .

 

مقلوب الإسناد :

وقد يحدث القلب لكل الإسناد أو بعضه ، وهو على 3 صور :

إبدال في اسم الراوي : كأن يقول (كعب بن مرة) بدل (مرة بن كعب) ، وقد ألف الخطيب  في هذا الصنف كتابا سماه : رفع الإرتياب ، في المقلوب من الأسماء والأنساب .

إبدال راو براو : وقد يحدث سهوا أو عمدا ، فإن كان عمدا ، فهو ما يطلق عليه المحدثون ، (سرقة الحديث) ، حيث يأتي بعض الضعفاء أو الوضاعين ، ويبدل الراوي بغيره ، ليرغب المحدثون في حديثه ، كأن يكون الحديث معروفا عن سالم بن عبد الله  ، فيجعله عن نافع  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، ما رواه حماد بن عمرو النصيبي _ الكذاب _ عن الأعمش  عن أبي صالح  عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤهم بالسلام … الحديث ، فإنه مقلوب ، قلبه حماد ، فجعله عن الأعمش  ، وإنما هم معروف عن سهيل بن أبي صالح  عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، هكذا أخرجه مسلم  من رواية شعبة والثوري وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز الداروردي  ، كلهم عن سهيل  ، وهذا الموطن من المواطن التي تبرز فيها أهمية جمع طرق الحديث لبيان خطأ الراوي ، وجدير بالذكر هنا أن السارق غالبا ما يدعي سماع حديث صحيح ، ليرغب الناس في حديثه ، كما تقدم ، فهو لم يكذب في إيراد متن الحديث ، وإنما كذب في إدعاء سماعه .

إبدال سند بسند : وقد يحدث سهوا أو عمدا ، ومن أمثلة حدوثه سهوا :

ما روى إسحاق بن عيسى الطباع  قال : حدثنا جرير بن حازم عن ثابت البناني  عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ، قال إسحاق بن عيسى  : فأتيت حماد بن زيد فسألته عن الحديث ؟ فقال : وهم أبو النضر _ يعني جرير بن حازم  _ إنما كنا جميعا في مجلس ثابت ، وحجاج بن أبي عثمان معنا ، فحدثنا حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ، فظن أبو النضر أنه فيما حدثنا ثابت عن أنس ، فقد انقلب الإسناد على جرير  ، والحديث معروف من رواية يحيى بن أبي كثير  ، رواه مسلم والنسائي  من طريق حجاج بن أبي عثمان الصواف  عن يحيى  . 

ومن أمثلة حدوثه عمدا :

قصة البخاري  ، مع محدثي بغداد ، وهذه القصة مع اشتهارها على الألسنة ، إلا أن الشيخ حفظه الله يرجح أنها معلولة متنا وسندا ، فأما سندا ، فلجهالة شيوخ ابن عدي  ، الذين روى عنهم هذه القصة ، حيث قال  : حدثني بعض مشايخ بغداد ، وأما متنا ، فلأن المحدثين ، وإن كان من طريقتهم امتحان الرواة ، إلا أنه لم يكن من طريقتهم جمع الناس وامتحان الرواة على الملأ ، كما ذكر في هذه القصة .

قصة يحيى بن معين  مع أبي نعيم الفضل بن دكين  لما أدخل على حديثه ما ليس منه ليختبر حفظه ، وقد تفطن أبو نعيم  لصنيع يحيى  .

 

أداء الحديث :

ينبه الشيخ ابن عثيمين  على وجوب أداء الراوي الخبر كما سمعه ، حتى في صيغ الأداء فلا يبدل حدثني بأخبرني ، وإن كان يرى عدم التفريق بينهما ، لأنه ربما كان شيخه الذي يروي عنه يرى التفريق بينهما ، وقد نقل عن أحمد  ، أنه قال : اتبع لفظ الشيخ في قوله حدثني وحدثنا وسمعت وأخبرنا ولا تعده ، ويتفرع على هذا القول مسألة اختلف فيها العلماء  ، وهي مسألة زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي على صحبه الكرام والترحم على علماء المسلمين ، إن لم يكن موجودا في الأصل ، فذهب أحمد  _ كما تقدم _ إلى أن الناسخ يتبع الأصل الذي ينسخ منه ، فإن كان فيه ذلك كتبه ، وإلا لم يكتبه ، وفي كل الأحوال يتلفظ الكاتب بذلك حين الكتابة ، فيصلي نطقا وخطا ، إذا كانت في الأصل صلاة ، ونطقا فقط إذا لم تكن ، وعليه يحمل ما وجد من خط أحمد  من غير صلاة ، وأكد الخطيب  على ذلك بقوله : وبلغني أنه (أي أحمد ) ، كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم نطقا لا خطا ، بينما ذهب النووي  إلى استحباب كتابة ذلك ، وإن لم يكن موجودا في الأصل ، لأن هذا من باب الدعاء لا الرواية .

 

شروط قبول الأداء :

العقل : فلا يقبل من مجنون ولا معتوه ولا ممن ذهب تمييزه لكبر أو اختلاط أو غيره ، وعليه رد النقاد  ، ما حدث به المختلط بعد اختلاطه ، وتوقفوا في قبول ما لم يعرف أحدث به قبل اختلاطه أم بعده ، وهذا ما يفسر اهتمام النقاد  بمعرفة تواريخ ميلاد ووفاة واختلاط الرواة ، وتواريخ بدء طلبهم للحديث ودخولهم البلاد للقاء شيوخهم ونحو ذلك .

البلوغ : فلا يقبل من صغير ، وقيل يقبل من مراهق يوثق به ، وهو شرط أداء لا تحمل ، وعليه يصح تحمل الصغير ، ومن أبرز الأدلة على ذلك ، قبول العلماء  لرواية صغار الصحابة كالحسن وابن عباس وأبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنهم ، وقد جاء عند البخاري  من حديث محمود بن الربيع رضي الله عنه أنه قال : عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي من دلو وأنا ابن خمس سنين ، وبهذا الحديث استدل المحدثون على صحة اصطلاحهم على جعل سن السماع المقبول خمس سنوات وما دونه حضورا ، وفي هذا الإصطلاح نظر ، لأن الإدراك يختلف من شخص لآخر ، فلا ضابط محدد له ، وممن أكد على ذلك النووي وابن الصلاح  ، حيث قالا : والصواب اعتبار التمييز ، فإن فهم الخطاب ورد الجواب ، كان مميزا صحيح السماع ، وإن لم يبلغ خمسا ، وإلا فلا ، وأيد الشيخ أحمد شاكر  هذا الرأي في الباعث الحثيث ، حيث قال بأنه لا حجة لمن احتج برواية محمود بن الربيع رضي الله عنه ، لأن الناس يختلفون في قوة الذاكرة ، ولعل غير محمود بن الربيع رضي الله عنه لا يذكر ما حصل له وهو ابن عشر سنين ، وأيضا فإن ذكره مجة وهو ابن خمس لا يدل على أنه يذكر كل ما رأى أو سمع ، والحق أن العبرة في هذا بأن يميز الصبي ما يراه ويسمعه ، وأن يفهم الخطاب ويرد الجواب ، واستشهد الشيخ أحمد شاكر بجواب موسى بن هارون الحمال لما سئل متى يسمع الصبي الحديث ، فقال  : إذا فرق بين البقرة والحمار ، وهو يعني بذلك قدرته على التمييز بين الأشياء ، وكذا سئل أحمد عن ذلك ، فقال : إذا عقل وضبط ، فذكر له عن رجل أنه قال : لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة ، فأنكر أحمد  هذا ، وقال : بئس القول ! فكيف يصنع بسفيان ووكيع  ونحوهما .

الإسلام : فلا يقبل من كافر ، ولو تحمل وهو مسلم ، خلاف ما لو تحمل حال كفره ، وأدى حال إسلامه ، ومن أبرز الأدلة على ذلك ، تحمل أبي سفيان رضي الله عنه لقصته مع هرقل حال كفره ، وأداؤه لها حال إسلامه ، وتحمل جبير بن مطعم رضي الله عنه لحديث قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لسورة الطور في صلاة المغرب حال كفره ، وأداؤه له حال إسلامه .

 

العدالة : فلا يقبل من فاسق ولو تحمل وهو عدل .

السلامة من الموانع : فلا يقبل مع غلبة نعاس ، وممن أثر عنه الدقة في ذلك يحيى بن معين  ، ولايقبل مع شاغل يقلق فكره .

مسألة : ذكر في ترجمة بعض الرواة أنهم كانوا ينامون أو ينعسون في مجالس بعض العلماء وأنه قد حصل لهم من جراء ذلك نوع من سوء التحمل وأحيانا يدافع بعض العلماء عن الراوي ، كما فعل الشيخ المعلمي حينما دافع عن ابن وهب  لما حضر بعض مجالس ابن عيينة وكان قد سمع أحاديثها من قبل فتشاغل بكتابة أو نحوه ، وهذا لا يلزم منه تعليل روايته عن ذلك الشيخ عموما لسوء حفظه في هذا المجلس فقط والسؤال أليس ذلك دليلا على جعله مرجوحا إذا خالف راو مثله عن شيخه إذا لم يتبين لنا هل أخذه من قبل أم لا ؟ يجيب الألباني  عن ذلك بقوله : بأنه إذا لم يتبين لنا هل أخذه من قبل أم لا فروايته بلا شك مرجوحة .

 

ومن الأمور التي اختلف العلماء هل هي من الشواغل التي تقدح في صحة السماع أم لا ، النسخ (أي كتابة الحديث وقت القراءة) ، فمنع من ذلك إبراهيم الحربي وابن عدي وأبو إسحاق الإسفراييني ، وكان أبو بكر أحمد بن إسحاق الصبغي  يقول : (حضرت) ، إذا كان ينسخ وقت القراءة ، ولا شك أنها لفظة تدل على مرتبة أدنى من السماع الصحيح ، وممن قال بصحة السماع مع النسخ موسى بن هارون الحافظ ، وممن أثر عنه أنه كان ينسخ وهو يقرأ عليه ابن المبارك والدارقطني والمزي  .

 

وينبه الشيخ السعد حفظه الله على أن شرط الإسلام ليس من شروط قبول الأخبار الدنيوية ، كخبر طبيب أو ما شابه ذلك ، فلا يشترط لقبول هذه الأخبار إلا الصدق والعقل والبلوغ ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، استعانة الرسول صلى الله عليه وسلم بخريت كافر ، وهو عبد الله بن أريقط .

 

ثم تطرق الشيخ السعد حفظه الله ، إلى بعض المسائل الدقيقة في الصناعة الحديثية ، ومنها :

اختصار الحديث ، وهو ظاهر

في صنيع كثير من الحفاظ ، ومن أبرزهم البخاري  الذي يقطع حديثه ويستشهد بأجزائه في مواضع مختلفة من صحيحه ، والترمذي  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، قول الترمذي  بعد ذكر الشاهد من الحديث ، … وذكر قصة ، ولا يهتم بإيراد هذه القصة لأنها لا علاقة لها بالباب ، وابن خزيمة  ، الذي كثيرا ما يقتصر على موضع الشاهد من الحديث ، ويظهر هذا أيضا من صنيع أبي داود  . وأما مسلم  فقد اشترط لذلك ، أن يكون الخبر واردا بروايات أخرى تاما ، وأما إذا لم يرد تاما من طريق أخرى ، فلا يجوز ، لأنه كتمان لما وجب إبلاغه ، ومما نبه عليه الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث ، أن الراوي إذا كان موضعا للتهمة في روايته ، فينبغي له أن يحذر اختصار الحديث بعد أن يرويه تاما ، لئلا يتهم بأنه زاد في الأول ما لم يسمع ، أو أخطأ بنسيان ما سمع ، وكذلك إذا رواه مختصرا وخشي التهمة ، فينبغي له أن لا يرويه تاما بعد ذلك ، وقد مثل الحافظ الذهبي  لهذا الأمر في كتابه الموقظة بقوله : كأن يقول : قال رسولُ الله e : النّدَمُ تَوْبَة ، أخبَرَنا به فلان عن فلان .

الصحف الحديثية ذات السند الواحد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، صحيفة همام بن منبه  عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد اختلف صنيع الأئمة في روايتها ، ومن أبرز من روى هذه الصحيفة ، أو أحاديث منها :

أحمد  ، حيث رواها كاملة في مسنده عن عبد الرزاق  (رقم 8100 _ 8235) ، وروى منها ثلاثة أحاديث في مواضع متفرقة .

البخاري  ، حيث روى منها عدة أحاديث ، ولم يخرجها بأكملها ، رغم أن درجة أحاديثها في الصحة واحدة ، وقد فرقها البخاري  كعادته في صحيحه ، ليستشهد بها في المواطن المناسبة لذكرها .

مسلم  ،  ومن أبرز معالم روايته لهذه الصحيفة ، أنه إذا أراد أن يروي حديثا منها ، فإنه يقول ، حدثنا محمد بن رافع   قال حدثنا عبد الرزاق  حدثنا معمر  قال حدثنا همام قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر أحاديث ، (لأن هذا الحديث الذي يرويه ليس أول حديث في الصحيفة) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، وفي الأمر سعة ، وقد جوز ذلك ، وكيع ويحيى بن معين وأبو بكر الشافعي  ، دون اشتراط التنبيه على أن هذا الحديث ليس أول حديث في الصحيفة وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني ، فاشترط التنبيه على ذلك  ، ولذا فإن صنيع مسلم  في هذا الموطن يدل على شدة التحري والإتقان .

وقوع الراوي في سماع المصنف ، دون أن يقصد التخريج له ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، عدم رواية مسلم  لإبن لهيعة  ، ورغم ذلك وقع في سماعه في حديثين رواهما مسلم  عن ابن وهب  عن عمرو بن الحارث وابن لهيعة  ، دون أن يقصد الرواية عن ابن لهيعة  وإنما قصد الرواية عن عمرو بن الحارث  ، وكذا صنيع ابن خزيمة  لما روى حديثا لإبن لهيعة  أيضا مقرونا بجابر بن إسماعيل  ، ثم قال : ابن لهيعة ليس ممن أخرج له حديثا في كتابي هذا إذا انفرد به ، وإنما خرجت له هذا الحديث لأن معه جابر بن إسماعيل  ، رغم أن هذا الحديث من رواية عبد الله بن وهب  عن ابن لهيعة  ، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه ، ومع ذلك لم يحتج به ابن خزيمة منفردا ، فدل ذلك على أن ابن خزيمة  ممن يرى ضعف ابن لهيعة  قبل وبعد الإختلاط ، وإن كان ضعفه أشد بعد اختلاطه ، وأما البخاري والنسائي  ، فلا يصرحان بإسم الراوي الضعيف في هذه الحالة ، وإنما يقولان في هذا الحديث على سبيل المثال ، عن ابن وهب  عن عمرو بن الحارث  وذكر آخر (ولا يصرحان بإسم هذا الآخر) .

وقد يورد مسلم رحمه الله رواية بأكملها ليست على شرطه ، وإنما وقعت في سماعه مقرونة برواية على شرطه ، فروى الأولى معها تبعا لا أصلا ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك : الحديث الذي أخرجه في كتاب الصلاة ، باب حجة من قال لايجهر بالبسملة ، من طريق محمد بن مهران الرازي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي عن عبدة ، أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول : سبحانك اللهم وبحمدك . تبارك اسمك وتعالى جدك . ولا إله غيرك ، وعن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك ، أنه حدثه قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ، في أول قراءة ، ولا في آخرها .

يقول أبو علي الغساني رحمه الله معلقا على هذه الرواية ، هكذا وقع عن عبدة أن عمر ، وهو مرسل ، يعني أن عبدة ، وهو ابن أبي لبابة لم يسمع من عمر قال ، وقوله بعده (عن قتادة) يعني الأوزاعي عن قتادة عن أنس هو المقصود من الباب وهو حديث متصل ، يقول النووي رحمه الله ، في شرحه لصحيح مسلم : هذا كلام الغساني والمقصود أنه عطف قوله وعن قتادة على قوله عن عبدة وإنما فعل مسلم هذا لأنه سمعه هكذا فأداه كما سمعه ومقصوده الثاني المتصل دون الأول المرسل ولهذا نظائر كثيرة في صحيح مسلم وغيره ولا إنكار في هذا كله ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك من صحيح البخاري : ماجاء من طريق أشعث بن غرقدة قال : سمعت الحي يتحدثون عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه دينارًا ليشتري له شاةً . الحديث .

 

ويتفرع على هذه المسألة مسألة أخرى ترتبط بها بشكل غير مباشر ، وهي مسألة ، قول الراوي : (حدثنا أصحاب لنا) ، وممن أشار إلى ذلك الشيخ مقبل رحمه الله ، حيث قال :

الذي يظهر أنه لا بد أن يبين ، فإذا قال : (أصحاب لنا) فإنه يحتمل أن يكونوا ثقات ، أو غير ثقات. والله أعلم ، ويبرز هنا سؤال مهم وهو ، إن كان هذا الجمع غير ثقات بمعنى أنّهم ضعفاء في حفظهم أليس ينجبر هذا بالجمع ؟ والجواب على هذا ، أنهم إن كانوا هكذا ، ينجبر ، لكن يحتمل أن يكون فيهم ضعفاء ، أو كذابون ، أو أن يكونوا مجاهيل ، فيتوقف فيهم ، وأنا (أي الشيخ مقبل رحمه الله) لا أعلم حديثًا في "الصحيحين" فيه : (حدثنا أصحاب لنا) سواء كان في وسط السند أم في أوله ، فينظر هذا ، اللهم إلا أن يكون معلقاً على أنه قد جاء في البخاري ، من طريق أشعث بن غرقدة قال : سمعت الحي يتحدثون عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه دينارًا ليشتري له شاةً . الحديث .

 

    

إذا ساق حديثاً بإسناد ، ثم أَتبعَه بإسنادٍ آخَرَ وقال : مثلُه ، فهذا يجوزُ للحافظ المميز للألفاظ ، فإن اختَلَف اللفظُ قال : نحوُه ، أو قال : بمعناه أو بنحوٍ منه ، وخالف شعبة  ، وقال بعدم الجواز ، واختار الخطيب  قول ابن معين  ، حيث  قال  ، بجواز ذلك ، إذا قال الراوي (مثله) ، ولا يجوز في قوله (نحوه) ، وهذا واضح ، لأن (مثله) تدل على المثلية والمطابقة ، وأما نحوه ، فلا يستفاد منها إلا التشابه ، ولكن الخطيب  ينبه على أنه إذا قيل بالرواية بالمعنى (ولا يشترط فيها التطابق الحرفي) ، فلا إشكال في ذلك سواءا قال الراوي (مثله) أو (نحوه) .

مسألة المقابلة : وقد نبه الشيخ أحمد شاكر  على أهمية المقابلة على الأصل المنقول منه ، أو على أصل آخر مقابل ، أو على نسخة منقولة من الأصل مقابلة ، وهذا لتصحيح المنسوخ ، خشية سقوط شيء منه أو وقوع خطأ في النقل ، ونقل  قول عروة بن الزبير  لإبنه هشام  ، وفيه تأكيد على أهمية المقابلة ، وقول الأخفش : إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ، ثم نسخ ولم يعارض ، خرج أعجميا ، وممن تساهل في هذا الأمر ابن لهيعة  ، حيث كان يروي من نسخ لم تقابل ، وابن شاهين  ، كما نقل عنه الداوودي  حيث قال : سمعت ابن شاهين يقول: أنا أكتب ولا أعارض، وكذا حكى عنه البَرقاني ، يعني ثقةً بنفسه فيما ينقل ، قال البرقاني: فلذلك لم أستكثر منه زهدا فيه ، وقد عد الحاكم  من فعل ذلك في طبقات المجروحين ، ومن المسائل الهامة التي نبه عليها الشيخ أحمد شاكر  ، حكم رواية من لم يعارض كتابه بالأصل ، حيث نقل قول القاضي عياض  بعدم جواز الرواية منه عند عدم المقابلة ، واعترض الشيخ أحمد رحمه الله ، وقال بأن الصواب الجواز ، إذا كان ناقل الكتاب ضابطا صحيح النقل قليل السقط ، وينبغي أن يبين حين الرواية أنه لم يقابل على الأصل المنقول منه ، كما كان يفعل أبو بكر البرقاني  ، فإنه روى أحاديث كثيرة قال فيها : أخبرنا فلان ولم أعارض بالأصل .

مسألة الرواية عن العامي إذا حضر مجالس العلم وأجيز ، لأجل العلو في السند ، وقد مثل الشيخ السعد حفظه الله لذلك ، برواية الذهبي  عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار  ، وذلك لعلو سنده ، لأنه جاوز المائة محققا ، حيث سمع على الزبيدي  سنة ثلاثين وستمائة صحيح البخاري  ، وأسمعه في سنة ثلاثين وسبعمائة ، ويصف الحافظ ابن كثير  أبا العباس  بأنه كان شيخا كبيرا عاميا ، لا يضبط شيئا ، ولا يتعقل كثيرا من المعاني الظاهرة ، ومع هذا تداعى الناس إلى السماع منه لتفرده عن الزبيدي  ، فسمع منه نحو من مائة ألف أو يزيدون ، ويقلل الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحثيث من أهمية هذا السماع ، ويصفه بأنه غلو وتكلف في طلب علو السند ، من غير وجهه الصحيح ، لأنه لا قيمة للسماع من رجل يوصف بأنه عامي ، لا يضبط شيئا ، ولا يتعقل كثيرا من المعاني الظاهرة ، وممن أكد على ذلك الحافظ ابن دقيق العيد  حيث قال بأنه لا يرشد إلى صاحب الإسناد العالي إذا كان جاهلا بالعلم ، لأنه قد يكون في الرواية عنه ما يوجب خللا ، وهذا قيد صحيح ، كما يقول الشيخ أحمد شاكر  .

تحري النسائي  في الرواية عن شيوخه ، حيث أنه يقول أحيانا : وذكر كلمة معناها كذا وكذا ، وهو يعني بذلك أنه لم يفهم لفظ الشيخ ، وإن كان معناه معروفا عنده ، وينبه النسائي  على طريقة تحمله للحديث بدقة ، كما حدث في روايته عن الحارث بن مسكين  لما منعه من حضور مجلسه ، فجلس خلف الجدار ليسمع الحارث  ، وقال النسائي  : حدثني الحارث قراءة عليه وأنا أسمع .

مسألة : إذا قال : حدَّثَنا فلانُ مذاكَرةً ، دَلَّ على وَهْنٍ مَّا ، إذْ المذاكرةُ يُتَسمَّحُ فيها ، ومن أبرز من أكد على ذلك أحمد  ، حيث كان يأمر بإحضار كتابه ، إذا ما طلب منه أحد التحديث في مجلس المذاكرة ، وهذا ما فعله أحمد  مع أحمد بن صالح المصري  ، لما تذاكرا الحديث في زيارة أحمد بن صالح  لأحمد  في بغداد ، حيث وجد أحمد بن صالح  حديثا عند أحمد  ليس عنده ، فطلب منه أن يحدثه به ، فطلب أحمد  الكتاب ليحدثه منه ، لأن مجلسهما كان مجلس مذاكرة ، ومن الجدير بالذكر أن أحمد  ، كان لا يحدث إلا من كتابه ، رغم سعة حفظه ، وهذا من شدة تحريه  .

مسألة الزيادة في الإسناد ، فإذا قال شيخ الراوي على سبيل المثال : حدثنا علي بن عبد الله ، (وهو يقصد ابن المديني ) ، ولم ينسبه ، فإنه لا يجوز للراوي أن يقول : حدثنا فلان ، قال : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، وإنما الصحيح أن يقول : حدثنا فلان ، قال : حدثنا علي بن عبد الله ، قلت (أي الراوي) هو ابن المديني ، وممن أكد على ذلك مسلم  في صحيحه .

 

طبقات الحفاظ :

وصف الراوي بالثقة يشمل العدالة في النفس وضبط الرواية ، وينبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن الثقات على درجات ، فقد يكون الثقة صادقا في نفسه ولكنه مخروم المروءة لإنتحاله مذهبا ضالا ، وضرب الشيخ السعد حفظه الله عدة أمثلة على هذا الصنف من الرواة ، ومن أبرزها :

حريز بن عثمان الرحبي : وهو من طبقة صغار التابعين ، وهو من أوثق أهل الشام ، ومع ذلك فهو متهم بالنصب ، ويتضح الأمر أكثر بمراجعة ترجمته في الضعفاء للعقيلي (ترجمة رقم 397) ، وقد خرج له البخاري والأربعة ، وزعم اللالكائي أن مسلما روى له وذلك وهم منه ، كما ذكر ذلك الحافظ في ترجمة حريز في تهذيب التهذيب .

عدي بن ثابت : وقد وثقه الأئمة ، وأخرج له مسلم  ، وصفه أبو حاتم  بأنه صدوق وكان إمام الشيعة وقاصهم ، وقال المسعودي : ما رأيت أحدا أقول بقول الشيعة من عدي بن ثابت وسئل يحيى عن عدي بن ثابت فقال : كان يفرط في التشيع ، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء ، وقد وثقه العجلي والنسائي  ، وذكره ابن حبان  في الثقات ، كما ذكر ذلك الحافظ  في تهذيب التهذيب .

عباد بن يعقوب الرواجني : وقد روى عنه البخاري  حديثا واحدا مقرونا ، وروى عنه الترمذي وابن ماجة وأبو حاتم والبزار  ، وروى عنه ابن خزيمة  ، فقال : حدثني عباد بن يعقوب ، الثقة في حديثه ، المتهم في دينه ، حيث نبه على ذلك ابن عدي بقوله : وعباد فيه غلو في التشيع وروى أحاديث أنكرت عليه في الفضائل والمثالب . ويتضح الأمر أكثر بمراجعة ترجمته في تهذيب التهذيب .

ويرجح الشيخ السعد حفظه الله ، قبول حديثهم ، ولو رووا ما يؤيد بدعتهم طالما ثبت ضبطهم ، وهذا صنيع المتقدمين ، وأما التفريق بين ما يؤيد البدعة وما لا يؤيدها ، فأول من قال به ، أبو يعقوب الجوزجاني  ، وقد وصفه الشيخ حفظه الله بأنه كان فيه شيء من النصب ، وجدير بالذكر أن الجوزجاني تكلم في جمع من أهل الكوفة وكاد أن يرد حديثهم ولكنه وثقهم وقبل روايتهم ومن أبرزهم الأعمش وأبو إسحاق  ، وممن أيد مذهب الجوزجاني  ، ابن حبان  ، وإن لم يلتزمه في صحيحه ، فقد روى لأبي معاوية محمد بن خازم الضرير أحد رجال الستة وهو من دعاة المرجئة ، قاله أبو زرعة  تاريخ بغداد (9/299) وغيره ، وروى لشبابة بن سوار أحد رجال الستة وهو من دعاة المرجئة ، قاله أحمد بن حنبل ( ميزان الاعتدال (2/260) ، وأيد هذا الرأي (أي رأي الجوزجاني) أيضا النووي  .

وذكر الشيخ السعد حفظه الله ، عدة أمثلة لأحاديث رواها من رموا بالبدعة ، وهي تؤيد بدعتهم ، ومن أبرزها :

ما رواه البخاري  من حديث قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعا : (اعلموا أن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء وإنما ولي الله وصالح المؤمنين) ، ولم يفصح البخاري بإسم أبي طالب وترك مكانه فراغا ، وقد مس قيس  بشيء من النصب ، ومع ذلك أخرج له البخاري  هذا الحديث .

ما جاء عند مسلم  من حديث الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه : (… لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) ، فالأعمش  متشيع (وهو من شيعة أهل السنة من الكوفة ، الذين يرون تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما دون القدح في أحد من الصحابة) ، وعدي بن ثابت شيعي مفرط ، كما سبق ذكره ، ومع ذلك أخرج مسلم له هذا الحديث مع أنه يؤيد بدعته ، وصححه الترمذي  ، وقال أبو نعيم  في الحلية : هذا حديث متفق على صحته ، (أي توفرت فيه شروط الصحة المتفق عليها) .

 

ومن الثقات قوم لم يشتهروا ، ورووا أحاديث قليلة مستقيمة ، فهؤلاء يوثقون من جهة حديثهم لا من قبل ضبطهم ، وقد تكلم الحافظ الذهبي  عن هذا الصنف من الرواة في الميزان حيث قال : من كان من المشايخ ولم يوثق ، وقد خرج له الشيخان فهو ثقة ، وإذا صحح له الترمذي  فهو مقبول ، وإذا صحح له ابن خزيمة  فهو مقبول ، ولكنه أدنى ممن صحح له الترمذي  ، ويمكن القول بأن حديثه جيد ، وينبه الشيخ حفظه الله على أنه في صحيح البخاري  شيء قليل من رواية هذا الصنف من الرواة ، وعند مسلم  عدد أكثر ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك حديث جعفر بن أبي ثور  الذي رواه عن جده جابر بن سمرة في الوضوء من لحوم الإبل ، وهناك قرابة خمسين راويا عند مسلم  على هذه الشاكلة ، وقد وثق النسائي ، على تشدده ، جمعا من هذا الصنف ، وقد عرف عن النسائي  أنه لا يخرج للضعفاء ، وإذا خرج لهم فإنه يبين ضعفهم .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى طبقات الحفاظ التي ذكرها الحافظ الذهبي  في الموقظة ، وبدأ حفظه الله بذكر تعريف الحافظ ، فقال بأن الحافظ هو : العدل في ذاته ، الضابط لحديثه ، المكثر من الرواية ، العالم بالفقه ، وقد تطرق د/ محمود الطحان حفظه الله في كتابه تيسير مصطلح الحديث إلى تعريف الحافظ وذكر قولين :

الأول : أنه مرادف للمحدث عند كثير من المحدثين ، والمحدث ، هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية ، ويطلع على كثير من الروايات وأحوال رواتها .

الثاني : أنه أرفع درجة من المحدث ، بحيث يكون ما يعرفه في كل طبقة أكثر مما يجهله .

ومن الآراء التي قيلت في ترتيب أهل الحديث ، أن أهل الحديث على 5 درجات :

المسند : وهو من يسند إلى من روى عنه ، فليس له من الحديث إلا الرواية .

المحدث : وهو من يهتم بدراسة أحوال الرواة .

الحافظ : وفيه قولان :

من علم من أحوال الرجال أكثر مما جهل .

وهناك من قيد هذه المرتبة بعدد الأحاديث التي يحفظها الراوي ، فقال بأن الحافظ هو من حفظ 100000 حديث .

الحجة : وهو من حفظ 200000 حديث .

الحاكم : وهو من أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير على رأي بعض أهل العلم .

وممن تطرق إلى هذه المسألة الشيخ أحمد شاكر  ، فقد قسم أهل الحديث إلى 4 مراتب وهي تنازليا كالتالي :

أمير المؤمنين : وهو لقب لم يظفر به إلا أئمة هذا الشأن كشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل والبخاري والدارقطني  من المتقدمين ، وابن حجر  من المتأخرين .

الحافظ : وقد تبنى الشيخ أحمد  رأي أبي الفتح ابن سيد الناس  حيث قال: وأما المحدث في عصرنا ، فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية ، وجمع رواته ، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره ، وتميز في ذلك ، حتى عرف فيه خطه ، واشتهر ضبطه ، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه ، طبقة بعد طبقة ، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله ، فهذا هو الحافظ ، وقد نبه الشيخ أحمد  إلى مسألة مهمة جدا ، وهي أن الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم من التابعين أو أتباع التابعين وشيوخ شيوخهم من الصحابة أو التابعين ، فالأمر في زمنهم كان أسهل وأيسر لأنه لا يلزمهم إلا الإحاطة برجال طبقتين أو ثلاث حتى يصلوا إلى مرتبة الحافظ ، خلاف المتأخرين ، الذين طالت بهم سلاسل الإسناد .

المحدث : ومن أهم من تكلم في تحديد صاحب هذه المرتبة تاج الدين السبكي  في كتابه (معيد النعم) ، حيث قال : المحدث من عرف الأسانيد والعلل ، وأسماء الرجال ، والعالي والنازل ، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون ، وسمع الكتب الستة ، ومسند أحمد  ، وسنن البيهقي  ، (وقد أكد الشيخ أحمد شاكر  على أهمية الإعتناء بسنن البيهقي  (السنن الكبرى) ، وقال : وهو أكبر كتاب في أحاديث الأحكام ، ولم يصنف مثله) ، ومعجم الطبراني ، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية ، هذا أول درجاته ، فإذا سمع ما ذكرناه ، وكتب الطباق ، ودار على الشيوخ ، وتكلم في العلل والوفيات والأسانيد كان في أول درجات المحدثين ، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء .

المسند : بكسر النون ، وهو الذي يقتصر على سماع الأحاديث وإسماعها ، من غير معرفة بعلومها أو إتقان لها ، وهو الراوية فقط .

ثم شرع الشيخ السعد حفظه الله في التعليق على الأمثلة التي ذكرها الحافظ الذهبي  على طبقات الحفاظ وهي كالتالي :

 الطبقة 1 :  وهي طبقة الصحابة رضي الله عنهم وفي ذِرْوَتِها أبو هريرة رضي الله عنه ، وقد اشتهر  بكنيته واختلف في اسمه واسم أبيه على أزيد من عشرين قولا ، واختار ابن اسحاق  أنه عبد الرحمن بن صخر ، وصحح ذلك أبو أحمد الحاكم الكبير  ، صاحب الكنى ، وقال ابن عبد البر : لكثرة الإختلاف فيه لم يصح عندي فيه شيء يعتمد عليه ، إلا أن عبد الله وعبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب ، وهو أكثر الصحابة رواية للحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، رغم أنه لم يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا 4 سنوات فقط ، حيث أسلم في السنة السابعة للهجرة (عام خيبر) ، فقد روى 5374 حديثا بالمكرر ، كما ذكر ذلك ابن الجوزي  في تلقيح فهوم أهل الأثر ، وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث أن عدد أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه في مسند أحمد  بعد حذف المكرر 1579 حديثا فقط ، ومما يدل على سعة روايته رضي الله عنه ، أن الطبراني  لم يورد أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه في المعجم الكبير ، وإنما أفرده في مصنف مستقل لكثرة أحاديثه ، وقد روى عنه أكثر من ثلاثمائة رجل ، وقد قال عنه الشافعي  ، هو أحفظ الناس في عصره .

 

الطبقة 2: وهي طبقة كبار التابعين ، وأبرزهم سعيد ابنِ المسيَّب  ، والمشهور أنه أفضل التابعين ، كما قال ذلك أحمد  وغيره ، وقال أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي  بأن هذا قول أهل المدينة ، وقال ابن المديني : هو أوسع التابعين علما ، وذكره الحاكم  في الطبقة الأولى من طبقات التابعين ، وهم الذين رووا عن العشرة ، ولا يصفو هذا القول للحاكم  ، لأن سعيد  لم يدرك الصديق رضي الله عنه قولا واحدا ، واختلف في سماعه من عمر رضي الله عنه ، لأنه ولد لسنتين مضيتا من خلافة عمر رضي الله عنه ، وقد رجح الحافظ  سماعه من عمر رضي الله عنه ، والتحقيق في سماعه من عمر كالتالي :

 أن عامة أهل العلم  نفوا أن يكون قد سمع كل ما رواه عن عمر (رضي الله عنه) ، مع إثبات عدد منهم له رؤيةً وسماعاً مجملاً من عمر في بعض الحوادث: كنعيه النعمان بن مقرن ، وغير ذلك . لكن يبقى أنّ مرويات سعيد بن المسيب عن عمر ، وخاصة لفتاواه وأقضيته  كثيرة جدا ً، ولا يتصور أن يكون ابن ثمان سنين قد سمع ووعى ذلك كله عن خليفة المسلمين (عمر رضي الله عنه) . لذلك كان لابد من الإقرار بأن سعيداً سمع القليل من عمر (رضي الله عنه) ، وأنّ أكثر مروياته عنه لم يسمعها منه . ومع ذلك يقول الإمام أحمد وقد سئل: سعيد عن عمر حجة ؟ فقال: "هو عندنا حجة ، قد رأى عمر وسمع منه ، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟!!". وقال أبو حاتم الرازي : "حديثه عن عمر مرسل ، ويدخل في المسند على المجاز" ، يعني على التجوز والتساهل . وعبارة أبي حاتم تفسر عبارة الإمام أحمد ، وأنه لم يكن يقصد تصحيح سماع سعيد من عمر (رضي الله عنه) في كل ما رواه عنه ، وإنما قصد قبول حديثه عنه لقرائن وأسباب احتفت بروايته عنه .

ومن هذه القرائن :

أن سعيد بن المسيب من كبار التابعين . (فتعامل مراسيله معاملة مراسيل كبار التابعين)

وأنه أعلم التابعين (كما أطلق ذلك غير واحد من الأئمة) ، أو من أعلمهم .

أنه مدني ، وحديث أهل المدينة (وخاصة في تلك الطبقة) أنقى حديث أهل الأمصار ، وأبعده عن العلل والتزيد : المقصود وغير المقصود .

وأنه لا يحدث إلا عن الثقات (وهذا أحد شروط الشافعي لقبول مراسيل كبار التابعين) .

وأن مراسيله عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحّ المراسيل ، فكيف عن أصحابه ؟! وكيف عمّن أدركه وسمع منه شيئا ً؟

أنّ مراسيله عن النبي (صلى الله عليه وسلم) سبرت فما وجد فيها ما لا يقبل ، إلا الشيء القليل الذي لا يخفى على أهل العلم.

ويضاف إلى ذلك كله أنه كان أعظم الناس عناية بجمع علم عمر (رضي الله عنه) ، من المرويات والفتاوى ، يقول يحيى بن سعيد الأنصارى: "إنّ ابن المسيب كان يسمى راوية عمر بن الخطاب ، لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته". وقال مالك ، وسئل عن سعيد: هل أدرك عمر ؟ فقال: "لا، ولكنه ولد في زمان عمر ، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره ، حتى كأنه رآه. وبلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره". فلهذه القرائن ولغيرها خصت مراسيل سعيد عن عمر بالقبول، وهذا حق، فإن لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل ؟! لكن يبقى أن كون أكثر مروياته عن عمر (رضي الله عنه) مرسلة داعياً لعدم الإعتداد بها والإعتماد عليها كاعتدادنا واعتمادنا على المتصل الصحيح ، ولا بد من مراعاة كل رواية ، وما يحتف بها من قرائن الرد: كالمخالفة أو النكارة والشذوذ . وهذا أمر عسير جدا ً، لا يدخل غماره إلا من له قدم صدق راسخة في علم الحديث .

 

الطبقة 3 : وهي طبقة صغار التابعين ومن أبرزهم ، الزهري : وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني  ، وقد سكن الشام ، وأدرك جماعة من الصحابة نحو عشرة ، كما ذكر ذلك النووي  في شرحه لمقدمة صحيح مسلم  ، وأكثر من الرواية عن التابعين ، بل وروى عمن دونهم في الطبقة ، حيث روى عن مالك  وهو من تلاميذه ، وأكثر التابعون من الرواية عنه ، وينبه الشيخ السعد حفظه الله على أن الزهري  إذا أسند خبرا فهو صحيح ، لأنه لا يسمي إلا ثقة ، وإذا لم يسند أو يسمي فهو واه ، لأنه يسقط الضعيف غالبا ، ولذا فإن مراسيله من أوهى المراسيل ، وقد ذكر الحافظ  في طبقات المدلسين أن الشافعي والدارقطني  وصفاه بالتدليس ، وكذا وصفه غير واحد بذلك .

 

الطبقة 4 : وهي طبقة أتباعِ التابعين ومن أبرزهم ، سفيان ، وشعبة ، ومالك .

سفيان الثوري  :

وقد خرج له الجماعة ، وهو ممن بلغ درجة أمير المؤمنين في الحديث ، قاله شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين  وغير واحد من العلماء ، وقال العجلي  بأن أحسن أسانيد أهل الكوفة سفيان  عن منصور  عن إبراهيم  عن علقمة  عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وزاد الشيخ أحمد شاكر  على هذا ، إسناد سفيان  عن إبراهيم  عن الأسود  عن عائشة رضي الله عنها ، وقال بأنه من أصح الأسانيد عن عائشة رضي الله عنها ، وجود روايته عن سليمان  ، (وهو الأعمش) ، عن إبراهيم التيمي  عن الحارث بن سويد  عن علي رضي الله عنه ، في معرض كلامه عن أصح الأسانيد عن علي رضي الله عنه ، وقد قدمه أبو حاتم وأبو زرعة وابن معين  على شعبة  في الحفظ ، وقال صالح بن محمد بن سفيان  في معرض ترجيحه بين مالك وسفيان رحمها الله : ليس يقدمه (أي سفيان ) ، عندي أحد في الدنيا وهو أحفظ وأكثر حديثا من مالك ولكن مالكا كان ينتقي الرجال وسفيان يروي عن كل أحد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك روايته عن الحارث بن حصيرة ، حتى قال أبو حاتم  : لولا أن الثوري روى عنه لترك حديثه ، وروى عن الكلبي ، وهو متهم بالكذب ، رغم أنه حذر من الرواية عنه ، فلما كلم في ذلك ، قال : أنا أعلم صدقه من كذبه ، فهو  ينتقي من أحاديث من يروي عنهم من الضعفاء ، خلاف مالك  ، الذي ينتقي من يروي عنهم من الرجال ، وروى عن جابر بن يزيد الجعفي ، وهو متهم بالكذب بالإضافة إلى معتقده الفاسد في الرجعة ، وروى عن ثور بن يزيد الكلاعي الحمصي وقد وصف ببدعة القدر ، رغم أنه حذر من الرواية عنه كالكلبي .

ومراسيل الثوري  من أوهى المراسيل ، كما أكد على ذلك ابن معين  ، فهو  من طبقة تابعي التابعين ، فالسقط في مراسيله لا يحتمل ، لأنه سيسقط رجلين على الأقل ، فهي في الحقيقة معضلات شديدة الضعف ، وإنما وصفها ابن معين  ، بالمراسيل ، لأن الإرسال يشمل كل أنواع السقط ، والله أعلم .

وقد وصف سفيان  ، بأنه من المقلين من التدليس ، كما ذكر ذلك البخاري  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، روايته عن أبي الخطاب عن أبي حمزة ، وهذا من تدليس الشيوخ ، كما تقدم ، وقال ابن المبارك  : حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلسه فلما رآني استحى وقال نرويه عنك ، وترجمته في الحلية لأبي نعيم من أطول التراجم ، كما ذكر ذلك الشيخ السعد حفظه الله ، وله ترجمة في تهذيب التهذيب برقم 199 .

 

شعبة بن الحجاج  :

وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين ، كما أكد على ذلك صالح جزرة وابن منجويه وابن حبان  ، ويؤكد الشيخ السعد حفظه الله على تشدد شعبة  في كلامه على الرجال ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، كلامه في خالد الحذاء  ، وهو من الثقات ، و كلامه في المنهال بن عمرو   لأنه مر بجوار بيته فسمع صوت طنبور ولم يسأله عن هذا الصوت ، ولم يقبل العلماء  هذا الجرح من شعبة رغم جلالته وتقدمه في هذا الشأن ، حتى استدرك عليه المزي  بعد ذلك بقرون فقال : قلت : هلا سألته لعله كان لا يعلم  ، وكذا كلامه في راو رآه يركض على برذون وهذا لا يوجب ترك حديثه ، وكان  شديد التحري في الرواية عن المدلسين ، فلا يروي عنهم إلا ما صرحوا فيه بالتحديث ، وهذا واضح من صنيعه مع قتادة وأبي إسحاق السبيعي  ، ومما أخذ عليه  ، أنه كان يخطيء في أسماء الرجال ، واعتذر له الدارقطني  في العلل بقوله : كان شعبة يخطئ في أسماء الرجال كثيرا لتشاغله بحفظ المتون ، وقد رأى أنس بن مالك وعمرو بن سلمة رضي الله عنهما ، ولكن هل سمع منهما ، وهذا أمر مهم جدا ، كما هو معلوم ، لأنه لو ثبت سماعه منهما ، لإرتقى من درجة تابعي التابعين إلى درجة صغار التابعين الذين رووا عن الواحد والإثنين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمع  من أربعمائة من التابعين .

 

مالك بن أنس  :

وقد خرج له الجماعة ، حيث أخرج له البخاري  من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي  وطريق إسماعيل بن أبي أويس  ، وروى له مسلم  من طريق يحيى بن يحيى الليثي  ، وقد قال البخاري بأن أصح الأسانيد هو مالك  عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وممن أكد على ذلك ابن معين حيث قدمه على أيوب وعبيد الله بن عمر في نافع ، وخالف يحيى بن سعيد القطان  ، فيما نقله عنه ابن المديني  حيث قال بأن ابن جريج  أثبت من مالك في نافع ، وعد الشيخ أحمد شاكر  ، سند مالك  عن أبي الزناد  عن الأعرج  عن أبي هريرة رضي الله عنه ، من أصح الأسانيد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وعد سنده عن الزهري  عن أنس رضي الله عنه ، من أصح الأسانيد عن أنس رضي الله عنه ، وقد قدمه أحمد  على معمر وسفيان بن عيينة في الزهري ، وأكد على ذلك يحيى بن سعيد  ، وقد ذكر الشيخ السعد حفظه الله أن مالكا  كان لا يروي إلا عن ثقة ، ويرد على هذا روايته عن عبدالكريم بن أبي المخارق وعن عاصم بن عبيد الله  ، وهذا مما يدعو الناقد إلى التوقف في قول مالك  : حدثني الثقة ، وإن كان غالب من روى عنهم مالك من الثقات ، وهذه مسألة مهمة جدا في علم المصطلح ، وخلاصة القول فيها أن الراوي لابد أن يصرح بإسم هذا الثقة الذي يروي عنه ، لأنه قد يكون ثقة عنده ، ومجروحا عند غيره ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، رواية أحمد  عن عامر بن صالح الزبيري حتى قال الإمام يحيى بن معين عندما بلغه هذا: جنّ أحمد ، وشعبة  لما قال : لو لم أحدثكم إلا عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثين ، وفي رواية: ما حدثتكم إلا عن ثلاثة ، رغم أنه من الذين اشتهروا بأنهم لا يروون إلا عن ثقات ، والشافعي  إذا قال: (حدثني الثقة) ، (رغم أن الربيع بن سليمان  ، قال : إذا قال الشافعي: حدثني الثقة فهو يعني يحيى بن حسان التنيسي وهو ثقة) ، لا يقبل توثيقه هذا مطلقا ، لأنه روى عن إبراهيم بن أبي يحيى وقد قال الإمام أحمد فيه: إنه قدري معتزلي رافضي جهمي كل بلاء فيه ، وقال النسائي  : الكذابون أربعة: وذكر منهم إبراهيم بن أبي يحيى بالمدينة .

وقد زاد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله ، في شرحه وتحقيقه لكتاب "الرسالة" ، الأمر وضوحا في هذه المسألة ، فقال رحمه الله ، في الحاشية ص129 ، طبعة دار التراث : وقد ذكر بعض العلماء قواعد فيما يقوله الشافعي ،  مثل هذا ، ولكنها غير مطردة ، فقد قال الأصم في المسند الذي جمع فيه حديث الشافعي (ص166 من المطبوع بهامش الجزء السادس من الأم وص28 من طبعة المطبعة العلمية) ما نصه : "سمعت الربيع بن سليمان يقول : كان الشافعي رضي الله عنه  إذا قال (أخبرني من لا أتهم) ، يريد إبراهيم بن أبي يحيى) ، وإذا قال (أخبرني الثقة) ، يريد به يحيى بن حسان .

 

وكان مالك  لا يسند إلا صحيحا ، حتى اشتهر عنه ، كما قال الدارقطني  ، وقف الرواية المرفوعة احتياطا ، وقد سبق أن مالك  من أعلم الناس بالرواة من أهل المدينة ، وأن مراسيله مقدمة على مراسيل بعض التابعين ، رغم أنه دونهم في الطبقة ، لشدة تحريه في الرجال ، وقد ذكره الحافظ  في طبقات المدلسين على مذهب من يرى التسوية تدليسا ، لأنه لأنه كان يروى عن ثور بن زيد حديث عكرمة عن ابن عباس وكان يحذف عكرمة وقد وقع ذلك في غير ما حديث في الموطأ وكذا أسقط عاصم بن عبد الله من إسناد آخر ذكر ذلك الدارقطني  وأنكر ابن عبد البر  أن يكون تدليسا .

 

الطبقة 5 :

ومن أبرز رجالها ، ابنِ المبارك ، ويحيى بنِ سعيد ، ووكيع ، وابنِ مهدي  ،

عبد الله بن المبارك  : وقد خرج له الجماعة ، وذكر الشيخ السعد حفظه الله أنه من المكثرين ، وكان  لا يروي إلا عن ثقة غالبا ، وإن روى في بعض الأحيان عن بعض الضعفاء .

 

يحيى بن سعيد القطان  :

وكان  شديد الحفظ ، حتى وصفه سفيان الثوري  ، بأنه شيطان (من شدة حفظه) ، وقد وصفه الشيخ السعد حفظه الله بأنه من المتشددين في الجرح والتعديل ، خلاف زميله ابن مهدي  ، الذي كان معتدلا ، ممن أكد على ذلك علي بن المديني ، حيث قال : إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن لأنه أقصدهما وكان في يحيى تشدد ، وذكر عن يحيى  أنه كان يميل إلى قول الكوفيين من أهل السنة ، في تفضيل علي على عثمان .

 

وكيع بن الجراح  :

وقد قدمه أحمد على عبد الرحمن بن مهدي حيث قال  : كان وكيع حافظا حافظا وكان أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيرا كثيرا ، وقال في موضع آخر : ابن مهدي أكثر تصحيفا من وكيع ووكيع أكثر خطأ منه ، وقال في موضع آخر : أخطأ وكيع في خمسمائة حديث وقال صالح بن أحمد قلت لأبي أيما أثبت عندك وكيع أو يزيد وقال ما منهما بحمد الله تعالى إلا ثبت قلت فأيهما أصلح قال ما منهما إلا صالح إلا أن وكيعا لم يتلطخ بالسلطان وما رأيت أحدا أوعى للعلم منه ولا أشبه بأهل النسك منه .

وقدمه حماد بن زيد  في سفيان ، فقال  : هذا راوية (أو رواية لا أدري بالضبط ، والأقرب الأول) سفيان ، كناية عن اتقانه لحديث سفيان  ، وقدمه أبو حاتم  على ابن المبارك  في الحفظ والإتقان ، بينما توقف ابن معين  في التفضيل بينهما في حديث سفيان   ، وقال عثمان الدارمي قلت لابن معين أبو معاوية أحب إليك في الأعمش أو وكيع قال أبو معاوية أعلم به ووكيع ثقة ، ولعل ابن معين  يشير بقوله هذا إلى ما رمي به أبو معاوية  من الإرجاء ، (تهذيب التهذيب ترجمة رقم 192) ، قال وقلت له عبد الرحمن أحب إليك في سفيان أو وكيع قال وكيع قلت فأبو نعيم قال وكيع .

وقد روى الخطيب  عن وكيع  ، قال : ما أخذت حديثا قط عرضا ، ولعل هذا ، لأن وكيع  ، كان على مذهب العراقيين المتشدد في عدم الإعتداد بالقراءة على الشيخ ، خلاف أهل الحجاز ، حتى شدد عليهم إبراهيم بن سعد  النكير ، فيما رواه عنه الخطيب  ، قال : لا تدعون تنطعكم يا أهل العراق ، العرض مثل السماع .
 وقد تكلم في وكيع لأنه كان على مذهب العراقيين في شرب النبيذ ، وممن نبه إلى ذلك الحافظ الذهبي  ، حيث قال : ما فيه إلا شربه لنبيذِ الكوفيين، وملازمته له، جاء ذلك من وجه عنه ، حتى حكي أن ضخامة بطنه ، كانت من شربه للنبيذ .

وتكلم فيه أيضا من جهة لحنه في الحديث حيث قال علي بن المديني  : كان وكيع يلحن ولو حدث بألفاظه لكان عجبا ، وقال محمد بن نصر المروزي : كان يحدث بآخره من حفظه فيغير ألفاظ الحديث كأنه كان يحدث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان ، وفي هذا إشارة إلى لحنه .

 

عبد الرحمن بن مهدي  :

وقد خرج له الجماعة ، وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن عبد الرحمن بن مهدي أكان كثير الحديث فقال قد سمع ولم يكن بذاك الكثير جدا لكن الغالب عليه حديث سفيان ، وقد قدمه أحمد وأبو حاتم على وكيع ، وقال ابن المديني : كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث ، وقال أبو حاتم  : هو أثبت أصحاب حماد بن زيد وهو إمام ثقة أثبت من يحيى بن سعيد ، وكان  لا يحدث إلا عن ثقة ، وقد وثقه ابن سعد والخليلي  ، وذكره ابن حبان  في الثقات .

 

الطبقة 6 :

علي بن المديني  :

 وهو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن بن المديني البصري صاحب التصانيف ، وقد روى له الجماعة إلا مسلما  ، قال أبو حاتم الرازي كان علي علما في الناس وفي معرفة الحديث والعلل ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى دقة كلام ابن المديني  في نقد الأحاديث ، على قلة ما ورد عنه من أحكام ، فهو على سبيل المثال يشير إلى مخرج الحديث ويبينه ، فيقول : هذا إسناد مدني ، وهذا إسناد بصري ، … الخ ، وفي كلامه على الرجال تفصيل كبير ، يدل على تمكنه من معرفة الرجال ، وقد قدمه ابن مهدي  في حديث سفيان بن عيينة  ، وقال ابن معين  : علي بن المديني من أروى الناس عن يحيى بن سعيد ، وقد تكلم في علي  من جهة :

التشيع :

حيث ذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين قوله : كان علي بن المديني إذا قدم علينا أظهر السنة وإذا ذهب إلى البصرة أظهر التشيع ،(لأن أهلها كانوا عثمانية ، فيهم انحراف عن علي رضي الله عنه) ، وهذا يشبه إلى حد كبير ما ذكر عن النسائي من أنه أظهر التشيع لما قدم الشام ورأى انحراف أهلها عن علي رضي الله عنه .  

إجابته ابن أبي دؤاد قاضي الجهمية :

ولم يجب ديانة ، وإنما أجاب تقية ، ولذا ذكره العقيلي  في الضعفاء ، حيث قال  : جنح إلى ابن أبي دؤاد قاضي الجهمية وحديثه مستقيم إن شاء الله تعالى ، وجدير بالذكر أن العقيلي  ، ذكر في كتابه من تكلم في روايتهم من جهة الضبط ، وهو الغالب على كتابه ، وذكر أيضا من تكلم في دينهم ، وعلى هذا ذكر ابن المديني  ، وقد تكلم فيه أحمد ومن تابعه لأجل ما تقدم من إجابته في المحنة وقد اعتذر الرجل عن ذلك وتاب وأناب ، وترك أحمد وأبو حاتم وأبوزرعة الرواية عنه بعد إجابته لإبن أبي دؤاد ، وفي مسند طلق بن علي رضي الله عنه في مسند أحمد ، ما يدل على ذلك ، حيث قال عبد الله بن أحمد : ثنا أبي ثنا علي بن عبد الله قبل أن يمتحن ، ومن الجدير بالذكر في هذا الموضع أن بعض الأئمة يفعل ذلك تعزيرا وتنكيلا لا تقعيدا كما فعل أحمد  بتركه الرواية عن ابن المديني ، ويحيى بن معين , وأبي كريب محمد بن العلاء ، فهذا تصرف خاص بأحمد لا يؤخذ منه حكم عام لأن التعزير لا يكون لأي إنسان وإنما يكون للأئمة الذين يقتدي بهم الناس . وأحمد  مع صنيعه هذا ، روى في مسنده عن أناس وصفوا بأنهم دعاة للبدعة مثل أبي معاوية محمد بن خازم "وهو من أوثق الناس في الأعمش  " وكان من الدعاة إلى بدعة الإرجاء كما قال أبو داود وأبوزرعة  (حتى قال علي بن خشرم لوكيع  : لقد دعاني أبو معاوية إلى بدعة الإرجاء فأبيت عليه فقال له وكيع  : هلا قلت له إنك لا تفلح أنت وأصحابك) ومع ذلك وثقه أحمد ولم يمتنع عن الرواية عنه .

وممن دافع عن ابن المديني محمد بن عثمان بن أبي شيبة حيث قال : سمعت عليا على المنبر يقول من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر ومن زعم أن الله لا يرى فهو كافر ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة فهو كافر ، وقال محمد بن مخلد سمعت محمد بن عثمان بن أبي شيبة يقول سمعت علي بن المديني قبل أن يموت بشهرين يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقال عثمان بن سعيد الدارمي سمعت علي بن المديني يقول هو كفر يعني القول بخلق القرآن وقد وثقه النسائي  وقال : ثقة مأمون أحد الأئمة في الحديث .

تفرده ببعض الأحاديث :

وممن تكلم فيه لأجل هذا ، العقيلي  ، وقد تعقبه الذهبي  لما أورد علي بن عبد الله المديني  في كتابه الضعفاء لأنه تفرد برواية أو روايتين لم يتابع عليهما وأغلظ له القول ، ثم أردف قائلا : بل إن الثقة المتقن إذا تفرد بحديث دل ذلك على ضبطه ومزيد اهتمامه بعلم الأثر وحفظه ما لم يحفظ أقرانه ، ولا شك أن الذهبي  بهذا يوافق الشافعي  في تعريفه للشاذ وهو المعتمد في كتب المصطلح ، فليس من الشذوذ أن ينفرد الثقة بما لم يتابع عليه ، وإنما الشذوذ أن يخالف من هو أوثق منه ، أو أن يخالف جماعة من الثقات .

 

يحيى بن معين  :

وهو يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن - وقيل: يحيى بن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام ، وقيل: يحيى بن معين بن عون بن زياد بن نهار بن خيار بن بسطام - المري، الغطفاني مولاهم، أبو زكريا البغدادي ، وقد خرج له الجماعة ، وهو أكثر الناس كتابة للحديث ، وممن أشار إلى ذلك ابن المديني  بقوله : ما أعلم أحدا كتب ما كتب يحيى بن معين ، حتى أثر عنه أنه كان يكتب الموضوعات ليحترز منها كما حكى ذلك الأثرم ، حيث قال : رأى أحمد يحيى ابن معين بصنعاء يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس فقال له أحمد : تكتب هذه الصحيفة وتعلم أنها موضوعة فلو قال لك قائل أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه ، فقال : نعم أكتبها فاحفظها وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجيء إنسان بعده فيجعلها عن ثابت ، (أي ثابت البناني  ، وهو أثبت الناس في أنس) ، وكان مع كثرة كتابته للحديث ، قليل الرواية ، وممن أشار إلى ذلك ابن سعد ، حيث قال : كان قد أكثر من كتابة الحديث وعرف به وكان لا يكاد يحدث ، ومن أبرز أسباب قلة الرواية عنه ، كلامه في الرجال ، كما قال أبو زرعة  ، فيحيى  من أكثر من تكلم في الرجال كما ذكر ذلك أبوداود وأبوعبيد القاسم بن سلام و الفرهياني  .

وقد أشار الشيخ السعد حفظه الله إلى أن الناظر في كلام يحيى  في الرجال ، يجد بعض التناقض ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

أننا نجده أحيانا يوثق رجلا ، ثم يضعفه بعد ذلك ، وذلك لكثرة السائلين له .

وأحيانا يقول : ليس بشيء ، مشيرا بذلك إلى ضعف الراوي ، وأحيانا يشير بذلك إلى أن هذا الراوي غير مكثر ، ولا يعني بذلك ضعف الراوي ، فالوصف واحد في الحالتين ولكن المقصد مختلف .

وأحيانا يقول : ليس بثقة ، مشيرا بذلك إلى ضعف الراوي ، وأحيانا يشير بذلك إلى أن هذا الراوي ليس بالثقة تام الضبط ، وإن كان ثقة ، ولا يعني بذلك ضعف الراوي مطلقا ، فالوصف هنا أيضا واحد في الحالتين ولكن المقصد مختلف .

لفظ : لا يحتج به ، على بابه عند ابن معين  ، ولكنه إذا سئل عن بعض الثقات ، الذين لم يصلوا لدرجة الحجة (وهي درجة عالية جدا عند الأئمة ، لم ينلها إلا النزر اليسير من أمثال شعبة وسفيان ) ، فإنه يقول : لا يحتج بهم ، وهو هنا لايعني الضعف ، وإنما يعني أنهم إن قورنوا بأمثال شعبة وسفيان ، ممن يصدق فيهم قوله : حجة ، فحديثهم لا ينهض لحديث الحجج الثقات .

وأشار الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أن عبارات ابن المديني  أكثر دقة من عبارات ابن معين  .  

وقد أشار ابن معين ، إلى أنه إذا قال في الراوي : ليس به بأس ، فهو ثقة ، خلاف ابن أبي حاتم ، الذي عني بهذا الوصف ، أن الراوي ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، وهذا يشير إلى أهمية معرفة مقصود كل إمام من عباراته ، إما بالوقوف على نص الإمام ، أو بإستقراء أحكامه .

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أنه إذا اختلف تلاميذ ابن معين  في نقل كلامه يقول فإنه يرجع إلى كلام البغداديين (البلديين) ، كعباس الدوري  ، ممن أيد هذا الرأي الشيخ المعلمي  ، ونبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن ابن معين  من المتشددين في الجرح ، وعباراته في الجرح شديدة ، ويلاحظ أن بعض الرواة ، كانوا يستقبلون ابن معين  بأجود أحاديثهم ، فيوثقهم ابن معين  ، مع ضعفهم ، وعلى هذا يحمل توثيقه لبعض الضعفاء ، وذكر المعلمي في "التنكيل عما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" أن يحيى بن معين ربما يوثّق الشخص الذي لم يوثّق ، ويستحق أن يكون مجهولاً لأن يحيى ينظر في حديثه فلا يجده مخالفًا للثقات فيوثقه .

 وقد تكلم في ابن معين  من جهة :

إجابته في فتنة خلق القرآن :

وقد أشار إلى ذلك أبوزرعة الرازي حيث قال : كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أحد ممن امتحن فأجاب وذكر ابن معين وأبا نصر التمار ، وقد سبق عرض وجهة نظر أحمد  في هذه المسألة في ترجمة علي بن المديني  .

انفراده ببعض الآراء الفقهية التي خالف فيها مذهبه :

منها ما ذكره عباس الدوري ، حيث قال : سمعت يحيى في زكاة الفطر يقول لا بأس أن يعطي فضة ، وهو بهذا يوافق الإمام أبا حنيفة  ، ولعل هذا القول من الأقوال التي تؤيد قول من قال بأن ابن معين  من فقهاء الأحناف المجتهدين ، وسمعت يحيى يقول لا أرى الصلاة على الرجل بغير البلد ولا أرى أن يزوج الرجل وامرأته على سورة من القرآن وفي الرجل يصلي خلف الصف وحده قال يعيد وفي امرأة ملكت أمرها رجلا فأنكحها قال بل يذهب إلى القاضي فإن لم يكن فإلى الوالي ، وجدير بالذكر أن الحاكم  عده من فقهاء المحدثين .

وقد وثقه العجلي ، وذكره ابن حبان  في الثقات .

 

أحمد بن حنبل  :

وقد خرج له الجماعة ، وهو صاحب المسند المشهور ، وقد سبق الكلام عليه بالتفصيل ولله الحمد ، قال ابن أبي حاتم  سئل أبي عنه فقال : هو إمام وهو حجة ، ولا شك أن هذه شهادة جليلة من إمام كبير من أئمة الجرح والتعديل عرف بتشدده في جرح الرجال وتعديلهم ، حتى اقتصر في وصف بعض الأئمة كمسلم  بقوله : صدوق ، وقال النسائي : الثقة المأمون أحد الأئمة وقال ابن ماكولا كان أعلم الناس بمذاهب الصحابة والتابعين ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ، هي الأصل الثالث من أصول مذهب أحمد  ، كما ذكر ذلك ابن القيم  ، بل إنه  يقدم الموقوف (رغم كونه ليس بحجة على الصحيح من أقوال أهل العلم) على المرفوع الضعيف ، وقال الخليلي كان أفقه أقرانه وأروعهم وأكفهم عن الكلام في المحدثين إلا في الإضطرار وقد كان أمسك عن الرواية من وقت الامتحان فما كان يروي الا لبنيه في بيته ، وقال ابن سعد ثقة ثبت صدوق كثير الحديث ، وقدمه محمد بن إبراهيم البوشنجي على الثوري في الفقه ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن أحمد ، على قلة كلامه في الرجال ، متشدد في الجرح ، وليس معتدلا كما قال الذهبي ، حتى أنه  تكلم في بعض رجال الصحيحين ، كبريد بن عبد الله بن أبي بردة وزيد بن أبي أنيسة ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، لأنهم تفردوا بأشياء ، رأى أحمد  ، أن تفرد من هم في طبقتهم بها غير محتمل ، ولكن تشدده أقل من تشدد ابن معين  ، وعبارته ألطف .

 

مسألة : إذا قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه في رجل: سألت أبي عنه فقال : (ثقة) ، ثم جاء أبوطالب فقال: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال : (ضعيف)، هل نرجح رواية ابنه عنه على رواية الآخر لأن ابنه ملازم له ، تبعا لقواعد الترجيح المعروفة ؟ أم نجمع بينهما ونقول: صدوق؟ وهل يسري هذا على بقية أقوال الأئمة إذا تعارضت ، فعلى سبيل المثال : ما القول في أقوال ابن معين  المتعارضة التي جاءت من طريق إسحاق بن منصور وغيره ؟

هذه المسألة ذكرها صاحب "فتح المغيث" وقال  : إنّها تحتمل أمرين: إما أن يكون سئل عنه مقرونًا بحافظ كبير فقال: (ليس بشيء) ، أي بالنظر إلى ذلك الحافظ الكبير ، وإما أن يكون تغير اجتهاده في الشخص ، يقول السخاوي: فينبغي أن ينظر في هذا ، وذكر أمثلة لرواة سئل عنهم يحيى بن معين مقرونين فضعفهم بالنسبة إلى قرناءهم في السؤال لأنهم حفاظ كبار ، وسئل عنهم بمفردهم فوثقهم ، ولا بد أن نعرف حال السائل الثاني لأحمد ، فنحن نعرف عبدالله بن أحمد وملازمته لأبيه ، فلا بد من معرفة حال الثاني ، فقد يكون أوثق ولو لم يلازمه ، فالأولى التوقف في هذا الراوي .

 

الطبقة 7 :

محمد بن إسماعيل البخاري  :

وهو أجل من أن يترجم له ، ولذا ركز الشيخ السعد حفظه الله ، على بعض عبارات البخاري  ، مؤكدا على لطف عبارته ودقتها ، ومن أبرزها :

قوله : فلان فيه نظر  : فإنه  يطلقها على من يروي المنكرات ، فإن غلبت على رواياته النكارة ، فإنه يقول (منكر الحديث) ، وفي هذا إشعار بكذب هذا الراوي ، كما نقل ذلك ابن القطان ، حيث قال بأن البخاري قال : كل من قلت فيه (منكر الحديث) فلا تحل الرواية عنه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، قوله  في (رشدين) : فيه نظر ، ثم قال فيه لما زادت منكراته : منكر الحديث .

وأحيانا يقول  : في حديثه نظر ، وأحيانا يقول : فيه بعض النظر ، وأحيانا يقول : في حديثه بعض النظر ، ويضع الشيخ

السعد حفظه الله 3 قواعد يمكن من خلالهما التمييز بين هذه الألفاظ ، وهي :

أن قوله : فيه أو في حديثه نظر ، أشد من قوله : فيه أو في حديثه بعض النظر .

أن قوله : فيه نظر أو فيه بعض النظر ، يتعلق بالراوي نفسه ، وأما قوله : في حديثه نظر ، أو في حديثه بعض النظر ، فإنه يتعلق بحديث الراوي ، وأخص من ذلك قوله : في إسناده نظر .

أنه  يقول في الراوي إن قلت منكراته : لا بأس به ، كما قال في أبي بلج  ، فهو لا بأس به ، وإن كان له ما يستنكر ، وقد قال فيه في موضع آخر : فيه نظر ، رغم أنه لا بأس به وإن كان له ما يستنكر كما سبق ذكره ، فإن زادت ولم تكثر ، فإنه يقول : فيه نظر ، فإن كثرت فإنه يقول : منكر الحديث ، وهي أشد درجات الحرج عنده كما تقدم .

وأحيانا يقول  : (سكتوا عنه) ، وهي بمعنى تركوه ، وأشد عباراته في التاريخ الكبير : ( سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه) ومن النادر جدا أن يستخدم  لفظ : كذاب ، فيكون ترتيب هذه الأحكام تصاعديا (من حيث الجرح) : لا بأس به ، فيه بعض النظر ، فيه نظر ، منكر الحديث ، كذاب .

وينبه الشيخ السعد حفظه الله إلى تمكن البخاري  من علل الأحاديث ، وقد أخذ هذا عن شيخه ابن المديني  ، وأكثر كلامه عن العلل نجده في التاريخ الكبير والتاريخ الأوسط ، ويحسن بنا ، أن نقدم نبذة سريعة عن التاريخ الكبير ، بوصفه من أهم كتب التراجم ، التي جمعت بين الثقات والضعفاء ، ومن أبرز من تكلم على التاريخ الكبير ، بإيجاز ، الشيخ ماهر منصور ، حفظه الله ، في تحفة المستفيد ، حيث لخص منهج البخاري في التاريخ الكبير في 3 نقاط :

ترتيب الرواة على حروف المعجم بالنسبة للحرف الأول من اسم الراوي ، والحرف الأول من اسم أبيه ، وقد بدأ بأسماء المحمدين ، وقدم في كل اسم أسماء الصحابة بدون ترتيب لأسماء الآباء .

يذكر الإمام البخاري  ما في المترجم له من جرح أو تعديل .

للإمام البخاري  اصطلاحات خاصة كقوله (فيه نظر) أو (سكتوا عنه) أو (منكر الحديث) أو (تركوا حديثه) ، وقد سبق بيانها ولله الحمد .

وممن أشار إلى بعض الفوائد من التاريخ الكبير ، الشيخ المعلمي اليماني  حيث قال في في حاشية الفوائد المجموعة ص 168:
إخراج البخاري الخبر في التاريخ لايفيد الخبر شيئا بل يضره فإن من شأن البخاري أن لا يخرج الخبر في التاريخ إلا ليدل على وهن راويه . 

ونقل الشيخ عبد الرحمن الفقيه حفظه الله عن الشيخ السَّعد حفظه الله مميزات التاريخ الكبير التي ذكرها في رسالة ((مقدمة في الجرح والتعديل)) :
أولاً : هذا الكتاب قد ذَكَرَ أسماء كثيرة من أسماء الرواة .
والبخاري حاول أن يستوعب في هذا الكتاب جميع الرواة الذين لهم رواية ، وإن كان قد فَاتَه الكثير ، لكنه حاول أن يستوعب ، ولذلك تجده ـ أحياناً ـ يذكر بعض الرواة الذين ليس لهم إلا حديث واحد ، وقد يكون أيضاً هذا الإسم الذي ذكره في ((التاريخ الكبير)) هو في الحقيقة وَهْمٌ وخطأ ، ومع ذلك يذكره البخاري ، فهذه ميزة تميز بها البخاري ، فكتابه أوسع من جميع الكتب التي سبقته ، ولذلك فإن الكتب التي جاءت من بعده استفادت منه كثيراً ، ككتاب ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم .
ثانياً : أنه يذكر بعض الأشياء التي تتعلق بهذا الراوي من جهة الصناعة الحديثية ، فتجده يتكلم في بعض الرواة بالجرح والتعديل ، وبعضهم لا يتكلم عليهم .
ويُعتبر كتاب ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم أوسع في الكلام على الرواة من البخاري في ((التاريخ)) .
ثالثاً : أنه كثيراً ما يهتم بشيوخ وتلاميذ هذا الراوي .
رابعاً : أنه يذكر هل هذا الراوي سمع من الشيخ الذي يروي عنه أم لم يسمع ؟ فهو مهتم بهذا الأمر غاية الاهتمام ، ولذلك يُعْتَبَر كتابه من أهم الكتب التي تبحث هذه المسألة .
فكثيراً ما يُنَبّه على مسألة السماعات فيقول ــ مثلاً ــ (فلان سمع وفلان لم يسمع) ، وهذه فائدة مهمة ، وقد ألف ابن أبي حاتم ثلاثة كتب مبنية على كتاب التاريخ الكبير وهي :
1
ـ ((الجرح والتعديل)) .
2
ـ ((العلل)) ، وسوف يأتي أن من ميزات كتاب ((التاريخ الكبير)) أنه كتاب معلل .
3
ـ كتاب المراسيل .
فالشاهد من هذا أن كتاب ((المراسيل)) هو في مسألة سماع هؤلاء الرواة من شيوخهم ، هل سمعوا أو لم يسمعوا ؟ ، فهو يتناول الإرسال بمعناه العام ، وهو عدم سماع الراوي ممن فوقه ، لا المعنى الخاص المتعارف عليه في كتب المصطلح ،  فهذا الكتاب قد بَنَاه على كتاب التاريخ الكبير للبخاري , فالبخاري يهتم كثيراً بهذه المسألة .

مسألة : ذكر الشيخ عمرو بن عبد المنعم حفظه الله في تعليقه على شرح النخبة ، الرأي القائل بأن البخاري  ، إذا قال في تاريخه : فلان سمع من فلان ، فهو إثبات للسماع ، وإذا قال : فلان روى عن فلان ، فهو مجرد حكاية للسند ، ولا يستفاد منه إثبات للسماع ، ولكنه قال بأن حكاية السماع وحكاية السند ، كلاهما لا يدل على إثبات السماع ، واستدل لذلك بقول البخاري  في ترجمة عبيد بن آدم في التاريخ الكبير : سمع عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما ، وروى عنه عيسى بن سنان ، فطبقا للرأي الأول ، يكون هذا القول إثباتا لسماع عبيد بن آدم من عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما ، ويرد على هذا ، ما أخرجه أحمد  في مسنده ، من طريق أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عبيد بن آدم ، وأبي مريم ، وأبي شعيب ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان في الجابية ، فذكر فتح بيت المقدس ، قال : فقال أبو سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم ، قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ، … فذكر الحديث ، حيث علق الشيخ عمرو حفظه الله على هذه الرواية بقوله : وهذا الإسناد منكر ، فأبو سنان وهو عيسى بن سنان ضعيف الحديث ، ولا شك أن إثبات سماع راو من راو يلزم له أن يرد بإسناد صحيح ، وهذا منتف في هذا الإسناد ، والله أعلم ، ولكن قد يرد على هذا ، أنه قد يثبت السماع ، رغم ضعف الراوي ، ويكون رد الرواية لسبب آخر ، فيكون الراوي ، على سبيل المثال مضعفا من قبل سوء حفظه ، رغم ثبوت السماع . 

     
خامساً : من ميزات ((التاريخ الكبير)) : أن الراوي إذا وَقَعَ في اسمه اختلاف فإنه يبين هذا الإختلاف ، ويحاول أن يذكر الراجح في اسم هذا الراوي ، حتى إنه أحياناً يَتَوَسَّع  في سوق الأسانيد ، من أجل أن يبين اسم هذا الراوي الذي وقع في اسمه إختلاف ،  وهذه قضية مهمة جداً ، فالراوي قد يقع في اسمه إختلاف وهذا كثيراً ما يحصل ، فقد يظن الظان أن هذا الإختلاف يفيد تعدد الرواة ، وقد يظن أن هذا الإسم هو لراوٍ ، وهذا الإسم الآخر لراوٍ ، وهذا الإسم الثالث لراوٍ آخر ، بينما هو اسم لراو واحد ، اختلف في اسمه ، وأحياناً قد يقع الاختلاف في اسم هذا الراوي على عشرة أوجه وأحياناً أكثر من ذلك ، فالبخاري أيضاً يهتم بهذه القضية .
سادساً : من ميزات كتاب ((التاريخ الكبير)) : أن الاسم الذي يكون وهماً وخطأً يذكره ، ولذلك من لم يعرف صَنِيْعه في هذا قد يَظن أن البخاري قد أخطأ وظن أن هذا الراوي غير الراوي السابق ، فالبخاري يتعمد ذلك .
فالراوي عندما يقع في اسمه اختلاف في وجهين أو ثلاثة فإنه يترجم له بعدد الأسماء التي اختلف أي هذه الأسماء هو اسمه الحقيقي ، فمثلاً : أحمد بن محمد ، لو اختلف في اسم أبيه فقيل إبراهيم أو خالد فإن البخاري يترجم له ثلاث مرات بهذه الأسماء الثلاثة ، فأحياناً عندما تقف على اسم هذا الراوي ويكون وقع في هذه الرواية خطأ ، فعندما ترجع إلى ((التاريخ الكبير)) للبخاري ، تجد أن هذا الاسم موجود ، فهذه الفائدة مُهمة من فوائد ((التاريخ الكبير)).
سابعاً : من فوائد هذا الكتاب أنه كتاب مُعَلَّل ، فيه عِلَل كثير من الأحاديث .
فمن هذه الأحاديث التي عَلَّلَها في هذا الكتاب ، الحديث الذي جاء عن أبي موسى الأشعري أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ((إن أمتي أمة مرحومة ، جعل عذابها بأيديها في الدنيا)) ، فالبخاري عندما ذكر هذا الحديث قال : والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة وأن قوماً يُعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر ، ويريد بذلك أن يُعَلِّل ما جاء في هذا الحديث ، (وفي هذا رد على من زعم بأن جل هم الحدثين كان نقد الأسانيد دون النظر إلى المتون) ، وهو أن ظاهر هذا الحديث أنه ليس هناك عذاب في الآخرة على المسلمين ، وأن الفتن والمصائب هي عذاب هذه الأمة ، بينما الأحاديث التي جاءت في دخول عدد من هذه الأمة إلى النار ، وأن هناك من يُعَذَّب ، ثم يخرج بشفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو الملائكة ، أو الصالحين ، أو الأفراد ، أو برحمة رب العالمين سبحانه وتعالى ، فهذه الأحاديث تفيد أن هناك من يُعَذَّب من المسلمين يوم القيامة خلافاُ لما جاء في هذا الحديث الذي أعله البخاري ، فمن ميزات هذا الكتاب أنه عَلَّلَ أحاديث كثيرة ، وبين عللها في هذا الكتاب ولذلك ـ كما  ذكرت (أي الشيخ السعد حفظه الله) ـ أن ابن أبي حاتم قد ألف ثلاثة كتب استفادها من ((التاريخ الكبير)) ، ومنها كتاب ((العلل)) له ، وأورد في كتاب ((العلل)) أكثر من ثلاثة آلاف حديث ـ بَيَّن عِلَل هذه الأحاديث ووضّح ما في إسنادها من كلام ، وممن استفاد من تعليلات البخاري ، الترمذي  ويظهر هذا جليا في علله .
ثامناً : مما يتميز به هذا الكتاب أنه أورد كثيراً من الأحاديث والآثار ، وأسندها ومما ينبغي التنبيه عليه ، أن البخاري قد وقع له أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد نبه إلى ذلك ابن رجب في جامع العلوم والحكم  ، حيث قال : والبخاري يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، والذهبي ، حيث قال في ترجمة خالد بن اللجلاج العامري في تاريخ الإسلام :  والبخاري ليس بالخبير برجال الشام ، وابن عقدة  ، حيث قال : "قد يقع لمحمد بن إسماعيل الغلط في أهل الشام . وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها , فربما ذكر الواحد منهم بكنيته , ويذكره في موضع آخر باسمه , ويتوهم أنهما اثنان " ، ومعلوم أن أعلم الناس بالشاميين هو دحيم  ، ونبه الشيخ محمد الأمين حفظه الله (العضو الشهير في ملتقى أهل الحديث) ، إلى أن ابن المديني  (شيخ البخاري) رغم تبحره في علل الحديث، فإنه كانت تقع له أيضا أوهام في حديث الشاميين . (بتصرف يسير في كلام الشيخ السعد حفظه الله) .

أبوزرعة الرازي  :

وهو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ المخزومي ، روى عنه مسلم حديثين ،  وقد لفت الشيخ السعد حفظه الله النظر إلى أن أبا زرعة  متشدد في الجرح والتعديل ، وليس معتدلا كما قال الذهبي  ، ولكن عبارته لطيفة ، حتى إنه ربما أشار إلى لسانه إذا أراد أن يكذب راويا دون أن يتكلم ، (كما فعل عندما سئل عن أحمد بن عيسى المصري ، على ما أظن ، والله أعلم) ، وقد تعقب أبوزرعة وأبو حاتم  البخاري  في كتابه (التاريخ الكبير) وجمع ابن أبي حاتم  تعقبات أبيه وأبى زرعة على التاريخ الكبير ، كما أشار إلى ذلك المعلمي  ، وذكر  فائدة جليلة في هذه المسألة وهي : أنه نظرا  لإمامة البخاري والرازيان في هذا العلم  فإن كل ما في التاريخ مما لم يعترضه الرازيان فهو على ظاهره من الصحة بإجماعهم ، ومثله بل أولى ما ذكرا أنه الصواب وحكيا عن التاريخ خلافه والموجود في نسخ التاريخ ما صوباه ، (ولست أفهم العبارة الأخيرة كما ينبغي) .

 

أبو حاتم الرازي  :

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أن أبا حاتم  من المتشددين في الجرح والتعديل ، إلا أن عبارته لطيفة ، حتى أنه قلما يقول عن راو أنه كذاب ، وإنما يقول : فلان منكر الحديث ، في أشد عبارات جرحه ، ومن أبرز الأمثلة على تشدده ، قوله عن الشافعي : صدوق ، وكذا مسلم  ، وقال عن الوليد بن مسلم  : صالح الحديث ، وقال عن عبد الرزاق  : لا يحتج به ، وقال عنه الذهبي  : جراح ، وقال  في موضع آخر : إذا وثق أبو حاتم رجلا فتمسك بقوله ، فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث ، وإذا لين رجلا أو قال فيه : لا يحتج به فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه ؛ فإن وثقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم فإنه متعنت في الرجال ؛ قد قال في طائفة من رجال الصحاح : ليس بحجة، ليس بقوي .... . أو نحو ذلك .

 

أبوداود  :

وهو من المعتدلين في الجرح والتعديل ، وله سؤالات في ذلك ، وعباراته في السنن دقيقة ، ومن أبرز الأمثلة على هذا ، قوله عن إسناد حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة الإستسقاء : إسناد جيد غريب ، وقال في حديث آخر : حسن ، وله كلام في تضعيف بعض الأحاديث وبعض الرواة على اختلاف بين نسخ السنن ، وقد لازم الإمام أحمد ، وتأثر به ولازم مجلسه مدة ، وسأله عن دِقاق المسائل في الفروع والأصول .

 

مسلم  :

وهو أجل من أن يترجم له ، والشيخ السعد حفظه الله يلفت النظر إلى أن مسلم  يتميز بسهولة العبارة ، خلاف البخاري  .

 

الطبقة 8 :

النسائي  :

وسبق الكلام عن سننه ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى تمكن النسائي من الصناعة الحديثية ، حتى أن الذهبي والسبكي  ، قدماه على مسلم  فيها ، وأثنى عليه الحاكم ، فقال : كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في "سننه" تحير في حسن كلامه .

 

صالحِ جَزَرَة  :

وهو صالح بن محمد الأسدي  ، وقد لقب بجزرة لأنه سمع ما روي عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أنه كان يرقي بخرزة ، بالخاء المعجمة والراء والزاي ، فصحفها ، جزرة ، بالجيم والزاي والراء ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أنه معتدل في أقواله على الرجال .

 

ابن خزيمة  :

وقد سبق الكلام على صحيحه بالتفصيل ولله الحمد ، ونبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن صحيح ابن خزيمة  مليء بالفقه ، وكلامه في الجرح والتعديل ليس كثيرا .

 

الطبقة 9 :

ومثل الحافظ الذهبي  لها بأبي حامد بن الشرقي  .

 

الطبقة 10 :

عبيد الله بن عمر  :

وقد قدمه أحمد ويحيى بن سعيد وأحمد بن صالح  على مالك في نافع وقدم ابن مهدي  مالكا عليه وتوقف ابن معين  فلم يقدم أحدهما على الآخر في نافع ، وقال ابن معين  : عبيد الله عن القاسم عن عائشة الذهب المشبك بالدر ، فقيل له : هو أحب إليك أو الزهري عن عروة عن عائشة قال هو إلي أحب ، وجدير بالذكر أن الشيخ أحمد شاكر  ، ذكر كلا الإسنادين ضمن أصح الأسانيد عن عائشة رضي الله عنها ، ونبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أن له أخا يدعى عبد الله ، وهو أدنى منه منزلة ، ويتضح ذلك أكثر من مراجعة ترجمة عبد الله في التهذيب وفي الضعفاء للعقيلي  .

 

عبد الله بن عون  :

وقد خرج له الجماعة ، ووثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي والبزار و عثمان بن أبي شيبة وابن سعد والعجلي  ، وذكر ابن سعد  ، أنه كان عثمانيا ، ولعل في هذا إشعارا بإنحرافه عن الشيعة ، فقد كان  من أكثر الناس صلابة في السنة وشدة على أهل البدع ، كما وصفه ابن حبان  في الثقات .

 

مسعر بن كدام  :

وقد خرج له الجماعة ، ولقبه شعبة وأبو حاتم  بالمصحف لشدة حفظه ، ووثقه أحمد وابن معين وأبوزرعة وابن عمار والعجلي  ، وقدمه أبو حاتم  على سفيان  وقال : مسعر أعلى إسنادا وأجود حديثا وأتقن ، وقد تكلم فيه من جهة الإرجاء حتى أن سفيان  لم يشهد جنازته لأجل هذا ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أنه في الكتب الستة رجلان فقط يحملان هذا الإسم ، وهما مسعر بن كدام ومسعر بن حبيب وكلاهما ثقة .

 

الطبقة 11 :

حماد بن زيد  :

وهو حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي أبو إسماعيل البصري الأزرق مولى آل جرير بن حازم ، وهو أثبت الناس في أيوب السختياني  ، كما ذكر ذلك يعقوب بن شيبة  ، وقد تكلم العلماء بإستفاضة في مسألة الترجيح بينه وبين حماد بن سلمة  :

فقد رجحه يزيد بن زريع ووكيع وأحمد بن حنبل وأبوزرعة ويعقوب بن شيبة على حماد بن سلمة  ، ولعل مما يؤيد هذا ، إتفاق أصحاب الكتب الستة على تخريج حديث حماد بن زيد  ، بينما احتج به مسلم في حديث ثابت البناني  فقط ، لأنه أثبت الناس فيه ، ولم يحتج به البخاري  ، وإنما روى له في التعاليق ، كما ذكر الحافظ  في التهذيب .

 

بينما رجح عبد الله بن معاوية الجمحي حماد بن سلمة وقال مقولته الشهيرة : حدثنا حماد بن سلمة بن دينار وحماد بن زيد بن درهم وفضل ابن سلمة على ابن زيد كفضل الدينار على الدرهم ، وقد رد ابن حبان  في الثقات بقوله : وقد وهم من زعم أن بينهما كما بين الدينار والدرهم إلا أن يكون القائل أراد فضل ما بينهما في الفضل والدين لأن حماد بن سلمة كان أفضل وادين وأورع من حماد بن زيد . (بتصرف) .

وقد قال ابن سعد  : كان عثمانيا وكان ثقة ثبتا حجة كثير الحديث ، ولعل في هذا إشعارا بإنحراف حماد  عن التشيع ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله إلى أن حماد حافظ ، ولكنه ليس بناقد للأخبار .

 

زائدة بن قدامة  :

وقد انفرد البخاري عن أصحاب الكتب الستة بتخريج حديثه ، ووثقه أبو حاتم والنسائي و ابن سعد والعجلي والدارقطني والذهلي ، وقال أبو زرعة صدوق من أهل العلم ، وقال ابن حبان في الثقات كان من الحفاظ المتقنين لا يعد سماع حتى يسمعه ثلاث مرات ، وتكلم أبو داود الطيالسي في حديثه عن أبي إسحاق  فقال : لم يكن زائدة بالأستاذ في حديث أبي إسحاق .

 

الليث بن سعد  :

خرج له أصحاب الكتب الستة ، وقد وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن سعد والعجلي وأبوزرعة  ، وقال الشافعي  : الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به ، وقدمه أحمد  في حديث المقبري  ، ونقل ابنه عبد الله أنه كان يفصل ما روى المقبري  عن أبي هريرة وما روى عن أبيه عن أبي هريرة ، وحديثه عن أبي الزبير المكي  عن جابر رضي الله عنه ، هو أصح حديث أبي الزبير  عن جابر رضي الله عنه ، لأنه أخذ كتابه عن جابر رضي الله عنه ، وطلب منه أن يعلم له على الأحاديث التي سمعها من جابر رضي الله عنه ، فأمنا عنعنته عن جابر رضي الله عنه ، وتكلم فيه أحمد وابن معين والأزدي من جهة السهولة في أخذه ، فقال ابن معين  : كان يساهل في السماع والشيوخ .

 

الطبقة 12 :

يزيد بن هارون  :

خرج له أصحاب الكتب الستة ، وقد وثقه أحمد ، ورجحه على حجاج بن أرطاة ، ووثقه ابن المديني وابن معين والعجلي وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وابن قانع   ،  وذكره ابن حبان في الثقات ، وقد تكلم في يزيد  من جهة

التدليس : فقال عن نفسه : ما دلست قط إلا حديثا واحدا عن عون فما بورك لي فيه  وقال ابن معين  : يزيد يدلس من أصحاب الحديث لأنه لا يميز ولا يبالي عمن روى .

وتكلم عليه أبو خيثمة زهير بن حرب ، فقال : كان يعاب على يزيد حين ذهب بصره ربما إذا سئل عن حديث لا يعرفه فيأمر جاريته فتحفظه من كتابه (ولست أفهم هذا المعنى) .

 

عبد الله بن وهب  :

وقد خرج له الجماعة ، وقد وثقه أحمد وابن معين وأبوزرعة والعجلي والساجي والخليلي  ، وقال أحمد  صحيح الحديث يفصل السماع من العرض ، حتى قيل بأنه أول من فرق بين (حدثنا ، للسماع) و (أخبرنا ، للقراءة على الشيخ) ، وقال أبو حاتم : صالح الحديث صدوق أحب إلي من الوليد بن مسلم وأصح حديثا منه بكثير ، وقال ابن عدي  : وابن وهب من أجلة الناس وثقاتهم وحديث الحجاز ومصر يدور على رواية ابن وهب وجمعه لهم مسندهم ومقطوعهم وقد تفرد غير الشيخ بالرواية من الثقات والضعفاء (ويبدو لي أن في السياق خللا ما ، فربما أخطأت في النقل) ، ولا أعلم له حديثا منكرا إذا حدث عنه ثقة من الثقات ، (وهي شهادة مهمة من إمام عرف بالتتبع والإستقراء) . 

وتكلم أحمد  في حديثه عن ابن جريج  فقال : في حديث ابن وهب عن ابن جريج شيء ، وقال أبو عوانة صدق لأنه يأتي عنه بأشياء لا يأتي بها غيره .

وتكلم الساجي  ، في سماعه ، فقال : كان يتساهل في السماع لأن مذهب أهل بلده أن الإجازة عندهم جائزة ويقول فيها حدثني فلان ، وأشار الخليلي  إلى أن روايته لموطأ مالك  ، تزيد عن أي رواية أخرى .

 

الطبقة 13 :

أبو خيثمة زهير بن حرب  :

وقد خرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، وقد روى عنه مسلم ألف حديث ومائتي حديث وإحدى وثمانين حديثا ، وقد وثقه ابن معين والنسائي وابن قانع وأبو حاتم وابن وضاح  ، وقال ابن حبان  في الثقات : كان متقنا ضابطا من أقران أحمد ويحيى بن معين .

 

وأبو بكر بن أبي شيبة :

وقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، وقد وثقه أبوحاتم والعجلي وابن خراش وابن قانع  ، وقدمه أحمد  على أخيه عثمان ، بينما قدم يحيى بن معين عثمان ، وذكره ابن حبان  في الثقات ، وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثين حديثا ومسلم ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا ، فمسلم  من المكثرين عن أبي بكر ، وقد روى لأخيه عثمان أيضا ، ولكنه لم يكثر عنه كما أكثر عن أبي بكر .

 

محمد بن عبد الله بن نمير :

وقد خرج له الجماعة ، ووثقه أحمد وأبو حاتم والنسائي وابن وضاح وابن قانع وابن شاهين وأحمد بن صالح  ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقدم أحمد وابن معين  كلام ابن نمير في شيوخ الكوفيين على كلام من سواه ، وقال الآجري عن أبي داود  :  ابن نمير أثبت من أبيه  ، وفي الزهرة روى عنه البخاري 22 حديثا ومسلم 573 حديثا .

 

أحمد بن صالح المصري :

وقد خرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل ، وسمع منه النسائي ولم يحدث عنه ، لما حدث بينهما من خلاف شهير ، فصل فيه ابن عدي  القول ، فقال : كان النسائي سيء الرأي فيه وينكر عليه أحاديث منها : عن ابن وهب عن مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه رفعه : الدين النصيحة ، وأحمد بن صالح من حفاظ الحديث ومن المشهورين بمعرفته وحدث عنه البخاري والذهلي واعتمادهما عليه في كثير من حديث الحجاز ، وأما سوء ثناء النسائي عليه ، فسمعت محمد بن هارون بن حسان البرقي يقول هذا الخراساني يتكلم في أحمد بن صالح وحضرت مجلس أحمد فطرده من مجلسه فحمله ذلك على أن يتكلم فيه ، قال : وهذا أحمد بن حنبل قد أثنى عليه وحديث الدين النصيحة قد رواه عن ابن وهب يونس بن عبد الأعلى وحدث به عن مالك محمد بن خالد بن عثمة ، ولذا فإن العلماء لم يلتفتوا لكلام النسائي  فيه ، قال العراقي في ألفيته :

وربما رد الكلام الجارح    كالنسئي في أحمد بن صالح

 وقد وثقه البخاري والعجلي وأبو حاتم ، وذكره ابن حبان  في الثقات ، وقد تكلم فيه من جهة :

 

الكبر : كما قال أبو سعيد  : ولم يكن عندنا بحمد الله كما قال النسائي ، (يشير إلى عدم الإعتداد بكلام النسائي  في أحمد بن صالح ) ، ولم يكن له آفة غير الكبر ، وذكر ذلك ابن حبان  في الثقات .

الإشكال الذي حدث نتيجة إتفاق اسمه مع اسم أحمد بن صالح الشمومي ، نزيل مكة ، الذي اتهم بوضع الحديث ، وعلى هذا يحمل قول ابن معين  ، لما سئل عن أحمد بن صالح ، فقال : كذاب ، فهو لم يرد أحمد بن صالح المصري  ، وإنما أراد أحمد بن صالح الشمومي ، والذي يؤيد هذا أن ابن معين  وثق أحمد بن صالح المصري ، كما نقل ذلك البخاري  .

 

الطبقة 14 :

عباس الدوري  :

وهو من تلاميذ ابن معين  ، وله كتاب في التاريخ .

محمد بن مسلم بن وارة :

وقد تفرد النسائي ، من بين أصحاب الكتب الستة ،  بالتخريج له ، ووثقه ، وكذا وثقه ابن أبي حاتم وابن عقدة ، وذكره بن حبان في الثقات ، ولكنه أخذ عليه بعض الصلف .

الترمذي  :

وهو أجل من أن يترجم له ، ومن أهم مصنفاته الجامع والعلل والتاريخ والشمائل المحمدية والزهد ، والشيخ السعد حفظه الله ، يقول بأن الترمذي  معتدل في الجرح والتعديل ، ويزكي تصحيح الترمذي  ، رغم ما ذكر من تساهل الترمذي  ، ويقول حفظه الله بأن الترمذي يقصد بالحسن ، الحديث الضعيف أو الذي به علة ، وهذا مما ينفي تهمة التساهل عنه .

عبد الله بن أحمد بن حنبل  :

وقد تفرد النسائي  ، من بين أصحاب الكتب الستة ، بالتخريج له ، ووثقه ، وكذا وثقه الدارقطني والخطيب  ، ورواية عبد الله عن أبيه مميزة لأنه كان ملازما له ، حتى قال : كل شيء أقول قال أبي فقد سمعته مرتين أو ثلاثة ، بالإضافة إلى أن أحمد  لما منع من الرواية ، انقطع في بيته ، ولم يقرأ عليه إلا أولاده ، وأشار ابن عدي  إلى أن عبد الله  لم يكتب إلا عن من أمره أبوه أن يكتب عنه ، وهذا بلا شك توثيق من أحمد  لهذا الراوي ، وكان عبد الله  شديد الأمانة في النقل عن أبيه ، حتى أنه كان يشير إلى مواضع وجاداته عن أبيه في المسند ، ولا يستجيز أن يرويها عن أبيه إلا بهذا القيد ، رغم أنه أعلم الناس بمرويات أبيه وخطه .

أحمد بن أبي خيثمة  :

وهو ابن أبي خيثمة ، زهير بن حرب  .

 

الطبقة 15 :

ابن صاعد  :

وقد قدمه أبو علي النيسابوري  على ابن أبي داود  في الفهم والحفظ ، وقال الذهبي  : لابن صاعد كلام متين في الرجال، والعلل يدل على تبحره ، وقد وثقه الدارقطني  ، وقدمه إبراهيم الحربي  على بني صاعد ، ومن أبرز مصنفاته ، السنن ، والمسند ، والقراءات ، والأربعين في أمور الدين .

 

ابن زياد النيسابوري  :

وهو أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري  ، وقد عرف  بإعتنائه بالزيادات .

 

ابن الأخرم  :

وهو محمد بن يعقوب بن الأخرم النيسابوري ، من شيوخ أبي عبد الله الحاكم  .

الطبقة 16 :

أبو بكر الإسماعيلي  :

قال الذهبي: الإمام، الحافظ، الثبت، شيخ الإسلام ، ونبه الشيخ السعد حفظه الله إلى مستخرجه على صحيح البخاري  ، وقد ناقش البخاري في تراجمه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك منازعته للبخاري في ترجمة "باب كراهية الصلاة في المقابر" ، ولم يسلم له الشيخ الألباني وناقشه في "أحكام الجنائز" ، ص271 ، طبعة مكتبة المعارف الرياض ، وممن أشار إلى ذلك ، الحافظ ابن كثير  ، حيث قال في البداية والنهاية : صنف (أي الإسماعيلي ) كتابًا على صحيح البخاري ، فيه فوائد كثيرة، وعلوم غزيرة .

 

ابن عدي  :

وهو صاحب الكامل في الضعفاء ، حيث ذكر فيه الرواة المتكلم فيهم ، حيث يبدأ بذكر الراوي المتكلم فيه ، ثم يذكر ما استنكر عليه من روايات ، وهو يتميز بإستقصائه لمرويات كل راو ، وتتميز أقواله في الرجال بالإعتدال ، وهو  من المجتهدين في الحكم على الرجال ، ويحسن بنا أن نقدم نبذة مختصرة عن منهج ابن عدي  في الكامل :

ذكر ابن عدي  في مقدمة كتابه ، أسماء أئمة الجرح والتعديل الذين يقبل قولهم في رواة الأخبار لمعرفتهم بهم .

رتب الرواة المترجم لهم على حروف الهجاء مراعيا الحرف الأول .

أعرض عن ذكر الرواة الذين هم في مرتبة الثقة ، أو الصدوق ، وهذا واضح لأن كتابه هذا في الضعفاء خاصة .

ساق أقوال الأئمة في التعديل والتجريح بالسند .

ذكر كل من ذكر بضرب من الضعف .

وذكر من اختلف فيهم ، مع الترجيح بين هذه الأقوال ، فهو  ، كما سبق ، من المجتهدين في الحكم على الرجال .

ذكر لكل راو مما رواه ما يضعف من أجله من غرائبه ومناكيره ، وهذا من أبرز معالم منهج ابن عدي  ، فهو شديد الإستقصاء لمرويات من يذكره في كتابه .

وممن أثنى على هذا الكتاب ، الكتاني  ، حيث قال : وهو أكمل كتب الجرح ، وعليه الإعتماد ، وإلى ما يقول رجع المتقدمون والمتأخرون ، وقال شيخ الإسلام  : ولم يصنف في فنه مثله .

 

أبو أحمد الحاكم  :

وهو صاحب الأسماء والكنى ، وقد أشار تلميذه أبو عبد الله الحاكم  ، إلى تغير حفظه في آخر حياته ، ونفى أن يكون هذا التغير اختلاطا ، وهو مقلد في أقواله في الرجال ، خلاف ابن عدي  ، حيث يجمع آراء من سبقوه ، ويلخصها ، كما أشار إلى ذلك الشيخ السعد حفظه الله .

الطبقة 17 :

ابن مندة  :

ومن أبرز من أثنى عليه من العلماء ، أبو نعيم  ، حيث قال : كان جبلا من الجبال ، ويعلق الذهبي  على هذا الثناء بقوله : فهذا يقوله أبو نعيم مع الوحشة الشديدة التي بينه وبينه ، ويقول الشيخ السعد حفظه الله بأنه أول من ألف في شروط الأئمة ، ويظهر ذلك جليا من أحكامه على الأحاديث ، فيقول مثلا : هذا على رسم النسائي ، …

 

الطبقة 18:

البرقاني  :

وهو من تلاميذ الدارقطني  ، وكان يسئل الدارقطني  عن علل الأحاديث ، لجلالة شأن الدارقطني في العلل .

 

الطبقة 19 :

أبوبكر البيهقي  :

صاحب السنن الكبرى ، الذي أثنى عليها العلماء ثناءا كبيرا ، وهو من أبرز فقهاء الشافعية ، وممن أكد على ذلك ، إمام الحرمين أبي المعالي الجويني  حيث قال : ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة ، إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصره مذهبه . ويعلق الذهبي على قول أبي المعالي  بقوله : أصاب أبو المعالي، هكذا هو، ولو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك ، لسعة علومه ومعرفته بالإختلاف ، ولهذا تراه يلوح بنصر مسائل مما صح فيها الحديث .

الطبقة 20 :

الحميدي  :

ينبه الشيخ السعد ، أن الحميدي المقصود هنا هو محمد الحميدي الأندلسي ، وهو من تلاميذ ابن حزم والخطيب ، وليس أبابكر الحميدي شيخ البخاري  .

 

الطبقة 21 :

وقد مثل لها الذهبي  بالحافظ السلفي  ، وهو من المكثرين من الرواية .

 

الطبقة 22:

وقد مثل لها الذهبي  بالحازمي  ، وهو أبوبكر محمد بن موسى الحازمي  ، صاحب الإعتبار في الناسخ والمنسوخ ، وهو ممن ألف في شروط الأئمة الستة .

 

الطبقة 23 :

الضياء المقدسي  :

وهو محمد بن عبد الواحد المقدسي  ، صاحب المختارة ، التي ساق فيها الأحاديث بإسناده ، وقد اشترط فيها الصحة ، وقد قدمها شيخ الإسلام على مستدرك الحاكم  ، وذكر الزركشي  في تخريج الرافعي ، أن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح الترمذي وابن حبان  ، ويقول الشيخ الألباني  بأن الضياء معروف بالتساهل وإن كان خيرا من الحاكم  .

ابن سيد الناس  :

وقد ذكر الشيخ السعد حفظه الله ، دفاع ابن سيد الناس عن ابن إسحاق والواقدي ، وله كلام نفيس على علل أحاديث الترمذي  .

 

ثم بدأ الحافظ الذهبي  في ذكر بعض ألفاظ التعديل ، وأعلاها ما دل على المبالغة في التوثيق ، أو كان على وزن أفعل ، كأن يقال : فلان أوثق الناس ، وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى الفرق بين لفظي ثقة حافظ ، وثقة متقن ، حيث أن :

ثقة حافظ : تدل على سعة الرواية مع ضبطها .

ثقة متقن : فالإتقان أقل مرتبة من الحفظ ، فربما كان مقلا من رواية الحديث ، ولكنه متقن لما يرويه ، وإن كان قليلا ، وأحيانا يطلق على الحافظ أنه متقن ، ولا عكس ، فلا يطلق على المتقن بأنه حافظ إلا إذا توسع في الرواية .

 

 

حافظ صدوق : وهو المتوسع في الرواية ، وقد لايكون متقنا للرواية إتقانا كاملا .

ثقة عارف : وهو المتقن ، ولكن لا يلزم أن يكون متوسعا في الرواية .

الثقة : وهو غالبا غير المتوسع في الرواية ، لأن المتوسع الحافظ هو الثقة الحافظ .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى مذاهب أهل العلم في التفرد ، وهي ثلاثة مذاهب :

عدم قبول التفرد مطلقا ، وخاصة في الطبقات المتأخرة ، التي يندر أن يتفرد فيها راو بحديث لا يتابع عليه ، ومن أبرز من تبنى هذا المذهب :

يحيى بن سعيد القطان  ، حيث أنكر حديثا لعبيد الله بن عمر  عن نافع  عن ابن عمر رضي الله عنهما ، لأن عبيد الله ، رغم أنه ثقة ، لم يتابع عليه ، ولكنه عاد وقبل هذا الحديث ، لما تابعه عليه عبد الله بن عمر  ، رغم أنه متكلم في حفظه .

أحمد بن حنبل  ، حيث توقف في قبول زيادة مالك  : (من المسلمين) ، في حديث زكاة الفطر ، وكاد أن يحكم عليها بالشذوذ ، لأنها لم تذكر في رواية أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر  عن نافع  ، ولكنه عاد وقبلها ، لما تابع الضحاك بن عثمان وعمر بن نافع  مالكا عليها ، وإن كانا لم يصلا إلى درجة حفظ وإتقان مالك  .

البرديجي  ، حيث قال  : إذا روى الشيوخ مثل همام والأوزاعي حديثا ، ولم نجد من تابعهم بإسناد آخر ، ولم نجد لحديثهم شاهدا ، فالحديث منكر .

وقد نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى عدة أمثلة على هذا التفرد المردود ، ومن أبرزها :

انفراد أبو سلمة التبوذكي وعثمان بن أبي شيبة  .  

ما جاء من طريق قتيبة بن سعيد  عن الليث بن سعد  عن يزيد بن أبي حبيب  عن أبي الطفيل مرفوعا : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل وقت الصلاة الأولى جمع إليها الأخيرة ثم ارتحل وإذا دخل وقت الصلاة وهو مرتحل أخر الصلاة (أي جمع جمع التأخير) ، قال الحاكم  : هذا حديث موضوع ، وأنكره البخاري والنسائي  ، مع أن رجال إسناده كلهم ثقات ، لأن يزيد بن أبي حبيب  غير معروف بالرواية عن أبي الطفيل  ، وهذا التفرد لا يمكن أن يتصور في هذه الطبقة . 

الحديث المنكر الذي رواه أحمد  عن أبي داود  ، وهو حديث حماد بن سلمة  عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه : (أما تكون الذكاة إلا في اللبة ؟ …) الحديث ، فقد رواه أحمد  ، لأنه لم يكن عنده من طريق الشيخ الذي روى عنه أبوداود  هذا الحديث ، وإنما كان عنده من طريق آخر . 

ويلاحظ أن الذهبي  لم ينقل تصحيح الحديث الذي تفرد به واحد من طبقة مالك  (طبقة أتباع التابعين) ، ووصف هذا الحديث بأنه (غريب فرد) ، لأنه يندر أن يتفرد يحيى بن سعيد القطان أو عبد الرحمن بن مهدي  أو من في طبقتهما بحديث لا يتابعوا عليه ، وقد نبه إلى ذلك أبوداود  حيث قال  : لو كان الحديث غريبا لم يروه إلا مالك ويحيى بن سعيد القطان فهو مردود ، ولذا فإن أبا داود  لما أراد أن يبين مزايا سننه ، أشار إلى شهرة أحاديثها ، وهو لايقصد بهذه الشهرة ، الشهرة الإصطلاحية المعروفة في كتب المصطلح .

 

 

قبول تفرد الثقة : وهو مذهب ابن المديني والبخاري والترمذي والدارقطني  ، وفي هذا رد على من قال بأن البخاري  ، اشترط في صحيحه أن يأتي الحديث من طريقين ، وأبلغ رد على هذا الرأي هو أول حديث في كتاب البخاري  ، وهو حديث : (إنما الأعمال بالنيات …) الحديث ، حيث تفرد بروايته في 4 طبقات ، راو واحد .

 

القبول مطلقا : وهو مذهب المتأخرين سواءا كان المتفرد ثقة أو صدوقا .

وأما تفرد الصدوق ،  فمن أهل العلم من لا يقبله ، مثل أبي حاتم  ، أما ابن الصلاح  وكثير من أهل العلم فيعتبرون الصدوق إذا انفرد حسن الحديث .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى درجات الثقة ، وهي كالتالي :

من وصف بأنه عدل في نفسه ، صادق في ذاته ، متقن لحديثه ، ويطلق عليه العلماء عدة ألفاظ ، من أبرزها :

أحفظ الناس : وفيه إشعار بإتقان الراوي ،وكمال عدالته وضبطه .

ثقة حافظ : وقد سبق أن هذا اللفظ يدل على التوسع في الرواية ، مع إتقانها .

ثقة متقن : ولا يشترط أن يكون متوسعا في الرواية ، فربما كان مقلا ، ولكنه متقن لما يرويه ، كما سبق ذكر ذلك ، وينبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى العلماء ، قد يطلقون على الثقة الحافظ : متقن ، ولا عكس ، لأن المتقن لا يكون حافظا إلا إذا توسع في الرواية .

الضابط لحديثه ، الصادق في نفسه ، المجروح في عدالته ، فحديثه يقبل لأنه صادق ، رغم تلبسه بما يقدح في دينه ، على تفصيل في ذلك .

الرواة الذين لم يتكلم فيهم أحد ، بتوثيق أو تجريح ، وحديثهم في نفس الوقت مستقيم ، فهؤلاء يطلق عليهم لفظ : ثقة ، وهم في واقع الأمر  ليسوا على درجة واحدة من التوثيق ، وإنما يختلف حالهم ، تبعا لمن خرج لهم الأئمة :

فمن خرج له في الصحيحين ، من هؤلاء ، لا شك أنه في درجة أعلى ممن صحح له الترمذي وابن خزيمة والنسائي  ، ولم يتعقبهم أحد في ذلك .

ويقول الشيخ السعد حفظه الله ، بأن حديث هؤلاء مقبول بشرط :

استقامة المتن ، واستقامة الإسناد .

وينبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن هذا الراوي ، الذي وصف بكونه ثقة ، إن كان من طبقة التابعين ، فإن اسم الستر والعدالة فيه أولى ، وكذا بالنسبة للمبهم إن كان من هذه الطبقة ، لأن الكذب لم يكن مشتهرا في هذه الطبقة ، وإنما كان غالب القدح في رواة هذه الطبقة ، من جهة الضبط ، ولكن يشترط لقبول روايته (أي من وصف بكونه ثقة ، مع عدم الجرح أو التعديل) ، ألا يروي حديثا طويلا ، لأنه يشترط فيمن يروي حديثا طويلا ، أن يكون ثقة ضابطا ، وهذا الراوي ، رغم وصفه بأنه ثقة ، إلا أننا لم نعرف درجة ضبطه وإتقانه ، وإنما تبين لنا فقط ، إستقامة حديثه .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى تصحيح بعض العلماء ، حيث قال :

بأن تصحيح الترمذي  أعلى من تصحيح الحاكم والدارقطني وابن حبان وابن خزيمة  ، وإن كان الترمذي  يصحح أحيانا لأناس فيهم ضعف ، كقابوس بن أبي ظبيان وعاصم بن عبيد الله  .

وقال حفظه الله ، بأن تصحيح الدارقطني  مقدم على ابن خزيمة  ، وابن خزيمة  مقدم على أبي عبد الله الحاكم  .

وأما بالنسبة لإبن خزيمة وتلميذه ابن حبان  ، فإن ابن خزيمة  أعلى تصحيحا من ابن حبان  ، وابن حبان  أعلى من حيث الصناعة الحديثية .

وابن خزيمة  ، قد يتساهل أحيانا في ايراد أحاديث الفضائل ، كما تقدم ذكر ذلك ، عند الحديث على صحيح ابن خزيمة  ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك : حديث فضائل رمضان ، وفيه : ( أوله رحمة وأوسطه مغفرة …) الحديث ، حيث أخرجه من طريق ابن جدعان  عن سعيد  عن سلمان رضي الله عنه ، وابن جدعان  ، متكلم فيه ، وهو إلى الضعف أقرب ، ولكن يمكن الرد على هذا ، بأن ابن خزيمة  ، قد خرج من عهدة هذا الخبر ، بقوله عقب تخريجه : إن صح ففي النفس منه شيء ، وقد اشتبه اللفظ على المنذري  في الترغيب والترهيب ، فقال  : صح الخبر .

 

ثم تكلم الشيخ حفظه الله ، على تصحيح الدارقطني والحاكم  ، فقال بأن الأصل في تصحيح الدارقطني  ، أنه على بابه ، ولكن لا يشترط أن يكون الحديث في أعلى درجات الصحة ، فقد تتوفر فيه ، أدنى شروط الصحة ، فيكون صحيحا عند المتقدمين ، حسنا عند المتأخرين . وقد وقع  في بعض التساهل ، وممن نبه على ذلك السخاوي  حيث ألحق  الدارقطني والبزار  بابن خزيمة وابن حبان  لأنهما يوثقان الرجل إذا روى عنه اثنان ، وقد نبه الحافظ  لهذا ، فجعل هذا الراوي في مرتبة المقبول الذي يصلح في الشواهد والمتابعات ، وقد وافق الشيخ مقبل رحمه الله على هذا الرأي بالنسبة للبزار  وتوقف في الدارقطني  وقال بأنه يحتاج إلى دراسة . 

وأما الحاكم  ، فالصحيح عنده ، ما توفرت فيه شروط القبول ، وإن كانت في أدنى درجاتها ، فالحسن عنده قسم من الصحيح ، وليس قسيما له ، وأحيانا يقول  : هذا حديث إسناده صحيح ، وفيه فلان لا أعرفه ، ومن الأمثلة على ذلك : حديث أبي هريرة: ((من لا يدعو الله يغضب عليه)) ، وقد خرجه في المستدرك ، ثم قال عقبه : هذا حديث صحيح الإسناد ، فإنّ أبا صالح الخوزي ، وأبا المليح الفارسي ، لم يذكرا بالجرح ، إنما هما في عداد المجهولين .

 

 

ونبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن هناك أحاديث عند البخاري  ، ليست على الدرجة العليا من الصحة التي اشترطها البخاري  ، ولا يعني ذلك أنها غير صحيحة ، كما نبه إلى ذلك الشيخ أحمد شاكر  في الباعث الحثيث ، وإنما يعني أن هذه الأحاديث لم يتحقق فيها شرط البخاري ، وهذه الأحاديث قد تكون في مرتبة الحسن عند المتأخرين ، وهذا وإن كان ينزل عن مرتبة الصحة العليا ، إلا أنه لا يخرج عن حيز القبول ، فقد توفر فيها الحد الأدنى من شروط القبول ، وعند مسلم  عدد أكثر من هذا النوع .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى أقسام الحديث عند الحاكم  ، وقد سبق الإشارة إليها ، ولكن الشيخ حفظه الله ، قسمها تقسيما مشابها لما سبق ، مع اختلاف يسير ، فقال بأن أحاديث الحاكم  تنقسم إلى 6 أقسام :

ما كان على شرط الشيخين .

ما كان على شرط البخاري  .

ما كان على شرط مسلم  .

ما كان صحيحا عند الحاكم  ، ولم يكن على شرط الشيخين ، أو أي منهما ، قد سبق أن الحاكم  ، يشير إلى هذا النوع بقوله : صحيح الإسناد .

ما كان من قبيل الشواهد والمتابعات .

ما تساهل الحاكم  في تصحيحه ، وخاصة في أحاديث الفضائل .

 

ويشير الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أن تصحيح الحاكم  ، لا يحتج به في الغالب .

 

مسألة : ما حكم حديث الراوي إن لم يشتهر ، ولكن أحاديثه مستقيمة ، وإن كان مقلا من الرواية ، وهو ماسبق ذكره على أنه الثقة المتقن ، الذي لم يصل لمرتبة الحافظ ؟

 

في هذه المسألة 3 آراء :

قبول حديث هذا الصنف من الرواة ، والحكم بصحة الحديث أو حسنه ، وهذا مذهب ابن معين وأبي زرعة والترمذي والنسائي  ، والناظر في الصحيحين ، يظهر له أن في صحيح البخاري  عدد قليل من هذا الصنف من الرواة ، بينما يزداد العدد عند مسلم  ، حتى يصل إلى 50 راويا تقريبا ، وعند ابن خزيمة  جمع من هذا الصنف ، وهذا مذهب الجمهور ، وقد نقله النووي والذهبي  عن جماهير أهل العلم .

رد حديثهم ، وهذا مذهب بعض المتأخرين ، كابن القطان الفاسي  (ت 628 هـ) ، فهو  يصحح الحديث على ظاهر الإسناد دون النظر في علله ، على تشدد ملحوظ منه في حديث بعض الثقات ، كهشام بن عروة  .

 

الأصل أن من لم يجرح أو يوثق ، فهو ثقة ، دون التأكد من إستقامة متن الحديث الذي رواه ، أو إسناده ، وهذا مذهب ابن حبان  ، الذي أفصح عن منهجه في التوثيق في كتابه الثقات ، حيث اشترط في الثقة :

أن يكون شيخه ثقة .

أن يكون تلميذه ثقة .

أن لا ينفرد برواية يخالف فيها غيره .

أن لا يكون مدلسا .

أن لا يكون مرسلا .

 

ثم تطرق الشيخ السعد حفظه الله إلى مسألة ارتفاع الجهالة ، فقال :

بأن ارتفاع جهالة العين برواية راويين عن الشيخ ، هو مذهب محمد بن يحيى الذهلي والبزار وابن خزيمة  ، وأما من عداهم من كبار الحفاظ كابن المديني وأحمد  ، فلا يذهبون هذا المذهب ، فقد يروي عن الشيخ أكثر من راويين ، ومع ذلك لا ترتفع جهالة عينه عندهم ، ولذا فإن مصطلحات (المستور ومجهول العين ومجهول الحال) لم تكن معروفة عند المتقدمين ، فالأمر عندهم يتوقف على القرائن والمرجحات ، فرواية راو مشهور ، يتحرى في روايته ، فلا يروي إلا عن ثقة ، كشعبة  ، قد تكون أفضل من رواية أكثر من راو عن الشيخ ، كما أشار إلى ذلك الشيخ الحميد حفظه الله ، وإن كنا نسلم بأن رواية الراوي عن جماعة ، ورواية جماعة عنه ، لهما تأثير في اشتهاره من عدمه ، فكلما كثر شيوخ الراوي ، كلما زادت شهرته ، لأن هذا يدل على سعة طلبه للعلم .

ثم تكلم الشيخ حفظه الله ، عن مراتب الشيوخ ، من حيث الرواة عنهم ، ومدى تأثير ذلك في توثيقهم من عدمه ، فقسمهم حفظه الله إلى 4 مراتب :

إذا روى عنه بعض الصحابة ، كمروان بن الحكم  ، حيث روى عنه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى : (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر …) الآية .

إذا روى عنه الأئمة الذين اشتهر عنهم أنهم لا يروون إلا عن الثقات ، كالزهري  ، فروايتهم عن شيخ من الشيوخ ، لا شك أن فيها نوع تزكية له ، وعلى هذا احتج العلماء برواية الزهري عن ابن أكيمة  في توثيقه .

إذا روى عنه من يروي عن الثقات والضعفاء ، فإن كان الراوي عنه إماما ، فإن هذا يرفع من شأنه ، وإن كان هذا غير كاف لتوثيقه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، قول ابن خزيمة : كنت متوقفا في فلان (وسمى راويا) ، حتى روى عنه سفيان وشعبة ، ومعلوم أن شعبة  لا يروي إلا عن ثقة ، بينما يروي سفيان  عن الثقات وعن غيرهم .

إذا روى عنه أناس ليسوا بالمشهورين ، ويدخل معهم في نفس المرتبة ، من أكثر الرواية عن الضعفاء مثل بقية بن الوليد ومروان بن معاوية الفزاري ، فهؤلاء روايتهم لا تقدم ولا تؤخر .

 

ثم تطرق الشيخ حفظه الله مرة أخرى إلى تفسير بعض ألفاظ الجرح والتعديل ، ومن أبرزها :

محله الصدق : والأصل فيها أنها أرفع من شيخ ومستور ، (حيث أن شيخ ومستور مترادفان) .

الثقة : وفي هذا الموضع ، يوضح الشيخ حفظه الله ، أن للثقة مدلولان بحسب زمان إطلاقها :

ففي قرون الرواية ، يقصد بالثقة ، الثقة بمعناها الإصطلاحي المعروف عند علماء الجرح والتعديل .

وأما فيما تلاها من القرون ، بعد أن دونت كتب السنة ، ولم يبق إلا رواية الكتب لتتصل الأسانيد ، فإن لفظ الثقة يطلق على من ثبت سماعه للكتاب أو الجزء الذي يرويه ، ولم يجرح بجرح بين .

شيخ : وهي إما أن تطلق مقيدة أو مطلقة :

فإن قيدت ، فهي بحسب ما قيدت به ، فقد يقال : شيخ ثقة ، وقد يقال : شيخ ضعيف .

وإن أطلقت ، فهي عدة معان من أبرزها :

أن تطلق في مقابلة من هو أحفظ وأمكن ، فعلى سبيل المثال الأوزاعي وهمام وأبان  ، وصفوا بأنهم ثقات ، ولكنهم إذا ما قورنوا بسعيد بن ابي عروبة وهشام الدستوائي وشعبة  ، في حديث قتادة ، فإنهم يوصفون بأنهم شيوخ ، لأن روايتهم عن قتادة  أدنى من رواية أولئك .

المجهول ، وينبه الشيخ حفظه الله إلى أن لفظ مجهول ، لا يلزم منه جهالة العين .

من كان له بعض الرواية ، ولكنه غير متوسع فيها كالحافظ ، وقد يطلق عليه : (صدوق) ، أو (لا بأس به) ، عند غير ابن معين  ، لأنه يطلق (لا بأس به) على الثقة ، كما نص هو على ذلك .

ويعلق الشيخ السعد حفظه الله على مقولة الذهبي  : ويَنْبُوعُ معرفةِ (الثقات) : تاريخ البخاريِّ ، وابنِ أبي حاتم ، وابنِ حِبَّان

وكتابُ (( تهذيب الكمال )) ، بأن هذه الكتب هي أصول علم الجرح والتعديل ، فإذا لم يوجد الراوي في هذه الكتب ، فقلما يوجد في غيرها من الكتب ، وينبه الشيخ حفظه الله ، أن المقصود في هذا الموضع ، هم الرواة في قرون الرواية .

ثم تطرق الشيخ حفظه الله إلى مسألة رجال البخاري ومسلم  ، وقسمهم إلى :

من خرج لهم الشيخان  ، في الأصول : فتخريجهما لهم في الأصول ، هو احتجاج بهم ، وهذا توثيق لهم ، وممن أكد على ذلك ، الذهبي  بقوله : كلُّ من خُرِّجَ له في ((الصحيحين )) ، فقد قَفَزَ القَنْطَرة ، فلا مَعْدِلَ عنه إلا ببرهانٍ بَيِّن ، وتعرف أصولهما ، إما بالإستقراء ، وإما بنص الأئمة ذوي الشأن على ذلك ، ويعترض الشيخ السعد حفظه الله ، على الرأي القائل بأن الشيخين  ، يبدءان بالأصول ثم يتبعانها بالشواهد ، ويصفه بأنه غير صحيح ، وإن كان البخاري  يفعل ذلك أحيانا ، ولكنه لا يلتزمه ، وأما مسلم  ، فلا يلتزم ذلك أبدا ، فأحيانا يسوق إسنادا ثم يسوق إسنادا ثانيا ، أصح من الأول ، وأحيانا العكس ، ورواة الأصول عند الشيخين على ثلاثة أقسام :

من اتفق الأئمة على توثيقه ، ولم يتكلم فيه أحد ، وهو الغالب في رواة الأصول عندهما .

من تكلم في حفظهم ، ولكن الجمهور على توثيقهم ، ويمكن أن يطلق عليهم وصف راوي الحسن : (صدوق) ، ففي هذا إشعار بخفة ضبط الراوي ، وهو سبب الكلام فيهم ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار  .

من ضعفه الجمهور ، ولكن الشيخين ، لم يخرجا إلا صحيح حديثه ، فقد انتقيا الصحيح من حديثه ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تخريج مسلم  لسويد بن سعيد وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري .

والذهبي  يقول : فما في (( الكتابين )) بحمد الله رجلٌ احتَجَّ به البخاريُّ أو مسلمٌ  في الأصولِ ، ورواياتُه ضعيفة ، بل حَسَنةٌ أو صحيحة ، وهذا هو الغالب الأعم ، وإن كان مسلم  ، كما سبق ذكره ، قد خرج لأناس تكلم فيهم ، ولكنه انتقى صحيح حديثهم ، فزال الإشكال ، وينبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أن مسلم  قد يحتج أحيانا في بعض الزيادات ، بمن فيهم بعض الضعف ، كعمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر  .

من خرج لهما الشيخان في المتابعات والشواهد : وينبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن الشواهد عند البخاري  تنقسم إلى قسمين :

إما أن يذكر إسنادا آخر كمتابعة للأول ، فيسوق إسنادا متصلا كمتابعة للأول .

وإما ألا يذكر إسناد المتابعة كاملا ، وإنما يعلقها على راو ، فيقول : تابعه فلان ، ولا يصل الإسناد إليه ، وهذا أقل قوة من القسم الأول ، والبخاري  ، قد يعلق لمن اشتهر بأنه ثقة ، كما علق  لحماد بن سلمة .

وقد نبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن الشيخين  ، قد يخرجان لبعض الضعفاء متابعة أو يكون تخريجهما لهم مقرونا ، ، كسيد الجمال فهو متروك ، ومع ذلك روى له البخاري  في موضع واحد مقرونا ، وقد انتقى البخاري هذا الحديث من صحيح حديث سيد .

ثم تطرق الشيخ السعد حفظه الله ، إلى كلام الذهبي  عن كتابيه في الضعفاء ، المغني وميزان الإعتدال ، ويحسن بنا في هذا المقام أن نذكر نبذة مختصرة عن منهج الذهبي  في هذين الكتابين :

أولا : المغني ، ومن ابرز معالمه :

أنه كتاب صغير الحجم ، ولكنه مع ذلك كبير القدر ، كثير النفع .

اعتمد الذهبي  في كتابه هذا على الضعفاء لإبن معين ، والبخاري ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والنسائي ، وابن خزيمة ، والعقيلي ، وابن عدي ، وابن حبان ، والدارقطني  .

احتوى كتابه هذا على ذكر :

الكذابين ، والوضاعين ، والمتروكين ، والهالكين .

ثم على الثقات الذين فيهم شيء من اللين ، أو تعنت بذكر بعضهم أحد من الحفاظ الذين اشتهروا بالتشدد في الجرح ، كأبي حاتم والعقيلي وابن حبان  .

ثم على خلق كثير من المجهولين ، وذكر من نص على جهالته أبو حاتم  وقال : هذا مجهول .

ولم يذكر الذهبي  من قيل فيه : محله الصدق ، ولا من قيل فيه (يكتب حديثه) ، ولا من (لا بأس به) ، ولا من قيل فيه : (هو شيخ) أو صالح الحديث ، لأن هذا من باب التعديل ، وإن لم يبلغ الدرجة العليا ، وكتابه هذا في الضعفاء خاصة .

رمز الذهبي  ، للرواة الذين ذكرهم ، ممن لهم رواية في الكتب الستة كالتالي :

البخاري : خ ، مسلم : م ، أبوداود : د ، الترمذي : ت ، النسائي : س ، ابن ماجة : ق ، الجماعة كلهم : ع ، السنن الأربعة : عه .

هذب الذهبي  كتابه هذا ، وقربه ، وبالغ في اختصاره تيسيرا على طلبة العلم .

ثانيا : ميزان الإعتدال :

وهو كتاب جليل ، مبسوط في إيضاح نقلة العلم النبوي ، وحملة الآثار ، وقد صنفه الذهبي  ، بعد تصنيفه للمغني ، وطول فيه العبارة ، وزاد فيه عددا من الرواة لم يذكرهم في المغني ، ومعظم التراجم الزائدة ، هي من كتاب : الحافل في تكملة الكامل ، لأبي العباس أحمد بن محمد الأشبيلي  المعروف بابن الرومية ، والكامل لابن عدي  .

ومن أبرز معالم منهج الذهبي  في الميزان :

أنه رتب الرواة على حروف المعجم ، وكذا في الآباء ليقرب تناوله .

أنه رمز على اسم الرجل برمز من أخرج له في كتابه من الأئمة الستة .

أنه رمز بـ (صح) أول اسم الراوي إشارة إلى أن العمل على توثيقه .

أن كل من يقول فيه (مجهول) ، ولا يسنده إلى قائل ، فهو قول أبي حاتم  ، (وهذا يظهر بجلاء اعتماد الذهبي  على أبي حاتم  في معرفة المجاهيل ، لأنه اعتمد عليه في المغني ، وكذا في الميزان) ، وإن قال : فيه جهالة ، أو نكرة ، أو يجهل ، أو لا يعرف ، وأمثال ذلك ، ولم يعزه إلى قائل ، فهو من قول الذهبي نفسه ، وكذا إن قال ثقة ، وصدوق ، وصالح ، ولين ، ونحو ذلك ، ولم يضفه إلى أحد .

وقد احتوى هذا الكتاب على :

الكذابين ، والوضاعين المتعمدين ، والكذابين في ادعئهم سماع ما لم يسمعوا .

المتهمين بالوضع ، أو بالتزوير .

ثم على الكذابين في لهجتهم لا في الحديث النبوي .

ثم على المتروكين الهلكى الذين كثر خطؤهم ، وترك حديثهم ، ولم يعتمد على روايتهم .

ثم على الحفاظ الذين في دينهم رقة ، وفي عدالتهم وهن .

ثم على المحدثين الضعفاء من قبل حفظهم ، فلهم غلط وأوهام ، ولم يترك حديثهم ، بل يقبل ما رووه في الشواهد ، والمتابعات ، لا في الأصول ، والحلال والحرام .

ثم على المحدثين الصادقين ، أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ، ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين .

ثم على خلق كثير من المجهولين ، اعتمادا على أبي حاتم  ، كما سبق ذكره ، وكذا من قال غير أبي حاتم  فيه : لا يعرف ، أو فيه جهالة ، أو يجهل ، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على عدم شهرة الشيخ بالصدق ، إذ المجهول غير محتج به .

ثم على الثقات الأثبات الذين فيهم بدعة ، أو الثقات الذين تكلم فيهم من لا يلتفت إلى كلامه في ذلك الثقة ، لكونه تعنت فيه ، وخالف الجمهور من أولي النقد والتحرير ، بتصرف من تحفة المستفيد في الجرح والتعديل ودراسة الأسانيد .

 

ثم عاد الشيخ السعد حفظه الله للكلام مرة أخرى على ألفاظ الجرح والتعديل التي تتطلب مزيد إيضاح ، فتكلم على :

صدوق : وأعلى درجاته ، من جزم له بهذا ، وخرج له الشيخين  ، وصحح له من تقدم الأئمة المعتبرين .

لا بأس به : وهو أدنى من الصدوق ، وقد يكون مثله ، وقد يكون أعلى منه ، تبعا لإصطلاح الإمام الذي أطلقه ، فابن معين ودحيم وابن عدي ، على سبيل المثال ، يستخدمون لفظ (لا بأس به) ، في التوثيق ، بل إن ابن عدي  يطلق لفظ (أرجو أن لا بأس به) على الثقة والصدوق والضعيف في نفس الوقت ، وعليه فلا بد من معرفة مقصود الأئمة من اطلاقاتهم ، كما سبق ذكر ذلك ، وهذا من أهم قواعد الجرح والتعديل ، و كذا يجب النظر في حال الراوي الذي أطلق عليه هذا اللفظ ، ومعرفة أقوال أهل العلم فيه ، قبل الحكم له بتوثيق أو تضعيف .

وينبغي التنبيه على الفرق بين (لا بأس به) ، و (ليس به بأس) ، لأن لا النافية أعرق في النفي من ليس ، وعليه فالأول أقوى من الثاني ، كما أشار إلى ذلك الصنعاني  .

صالح : وهو أدنى ممن قيل فيه (لا بأس به) .

مستور : وهو أدنى من الصالح ، ومساو لمن قيل فيه (شيخ) .

حسن الحديث : تطلق على الصدوق ومن دونه بقليل .

ليس بشيء : وهو من اصطلاحات ابن معين  الشهيرة ، والأصل فيه أنه متروك ، كما قال في رشدين ، و هلال أبو ظلال القسملي ، و عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي الزهري ، ولكنه قد يطلق هذا اللفظ على المقل من الرواية ، وإن كان ثقة ضابطا لأحاديثه ، (وقد يطلق الأئمة النقاد هذه العبارة على الحديث الصحيح الخالي من العلل ، في مقابل قولهم على الحديث المعلول : فائدة).

ليس بالقوي : وهي على بابها عند البخاري  وغيره ، فهي تعني الضعيف ، أما عند أبي حاتم  ، فمناها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت ، فهو ليس ضعيفا ، وإن لم يصل لأعلى درجات التوثيق .

ونورد هنا ، مزيدا من الأمثلة على ألفاظ الجرح والتعديل الموهمة ، نقلا عن تحفة المستفيد :

مجهول ، عند أبي حاتم  :

فهو يخالف الجمهور في هذا اللفظ ، لأنه يعني به جهالة الوصف ، بينما يعني به الجمهور جهالة العين ، بأن لا يروي عنه إلا واحد كما قرر ذلك محمد بن يحيى الذهلي  .

يكتب حديثه عند يحيى بن معين  :

فقول ابن معين  في الراوي (يكتب حديثه) ، معناه أنه من جملة الضعفاء  ، ومن الأمثلة على ذلك إبراهيم بن هارون الصنعاني ، ومن أبرز من أكد على هذا الرأي ابن عدي  في الكامل ، حيث قال : معنى قول ابن معين  : يكتب حديثه أنه في جملة الضعفاء .

هو كذا وكذا ، عند أحمد  :

فهذه العبارة ينقلها عبد الله بن أحمد  كثيرا عن أبيه ، وهي بالإستقراء ، كناية عمن فيه لين ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، ما ذكره الذهبي  في ترجمة (يونس بن أبي إسحاق السبيعي ) ، حيث نقل قول عبد الله بن أحمد  : سألت أبي عن يونس بن أبي إسحاق ، فقال : كذا وكذا .

 

لين ، عند الدارقطني  :

قال حمزة السهمي : قلت للدارقطني : إذا قلت : فلان (لين) أيش تريد به ؟ فقال الدارقطني : لا يكون ساقطا متروك الحديث ، ولكن مجروحا بشيء لا يسقطه عن العدالة .

 

هو على يدي عدل ، عند أبي حاتم  :

حيث ذكر الحافظ السخاوي  نقلا عن الحافظ ابن حجر أن شيخه الحافظ العراقي  ، كان يقول في قول أبي حاتم  : (هو على يدي عدل) ، بكسر الدال الأولى بحيث تكون اللفظة للواحد ، وبرفع اللام وتنوينها .

قال الحافظ ابن حجر  : وكنت أظن أن ذلك كذلك إلى أن ظهر لي أنها عند أبي حاتم  من ألفاظ التجريح . وذلك أن ابنه قال في ترجمة (جبارة بن مغلس) ، (شيخ ابن ماجة  الذي روى عنه ثلاثياته الضعيفة) ، سمعت أبي يقول : هو ضعيف الحديث ، ثم قال : سألت أبي عنه فقال : هو على يدي عدل ، ثم حكى ابن أبي حاتم  أقوال الحفاظ فيه بالتضعيف ، ولم ينقل عن أحد فيه توثيقا ، ومع ذلك فما فهمت معناها ، ولا اتجه لي ضبطها ، ثم بان لي أنها كناية عن الهالك ، وهو تضعيف شديد وهذا القول مثل للعرب ، وبيان مورده : أنه كان لتبع على شرطته رجل يقال له عدل بن سعد العشيرة ، فإذا أراد تبع قتل رجل دفعه إليه ليقتله ، فضرب المثل لمن ييأس منه الناس ، وقرب من الهلاك ، كما ذكر ذلك ابن قتيبة والثعالبي  ، وقد أخطأ من ظن أن هذا اللفظ من ألفاظ التوثيق .

 

مقارب الحديث :

قول الأئمة (مقارب الحديث) هو من : القرب ضد البعد ، وهو بكسر الراء ، ومعناه : أن حديثه مقارب لحديث غيره من الثقات ، وبفتح الراء أيضا ، أي حديثه يقاربه حديث غيره ، فهو بالكسر ، والفتح ، ومعناه واحد وهو : أن حديثه وسط لا ينتهي إلى درجة السقوط ، ولا الجلالة ، وهو نوع مدح .

 

حديثه ليس بشيء ، عند الإمام الشافعي  :

حيث روي عن المزني  أنه قال : سمعني الشافعي يوما وأنا أقول : فلان كذاب ، فقال لي : يا أبا إبراهيم : أكس ألفاظك أحسنها لا تقل : فلان كذاب ، ولكن قل : حديثه ليس بشيء .

 

فلان نزكوه :

فقولهم فلان نزكوه ، أي طعنوا فيه ، والنزك : هو الطعن ، وفي الحديث أن عيسى صلى الله عليه وسلم يقتل الدجال بالنيزك ، وهو الرمح القصير ، والجمع : نيازك ، ونزكه : أي طعنه بالنيزك ، وكذا إذا نزكه وطعن فيه بالقول أيضا ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، قول ابن عون  : إن شهرا ، (أي شهر بن حوشب ) ، نزكوه ، وقد تصحف اللفظ على البعض ، فقالوا : (تركوه) ، وقد رد النووي  في شرحه لصحيح مسلم  ، هذا التصحيف ، واستدل بأن الأئمة لم يجمعوا على ترك حديث شهر  ، بل إن كبار الأئمة كابن معين وأحمد ويعقوب بن شيبة والعجلي  ، وثقوه ، ونقل الترمذي  عن شيخه البخاري  قوله : شهر حسن الحديث ، وقوى أمره .

 

روى مناكير :

قولهم (روى مناكير) لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته ، وينتهي إلى أن يقال فيه (منكر الحديث) ، لأن (منكر الحديث) وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه ، وأما العبارة الأخرى (روى مناكير) ، لا تقتضي الديمومة ، كيف وقد قال أحمد  في (محمد بن إبراهيم التيمي ) : يروي أحاديث منكرة ، (وهذا من الأمثلة التي استدل بها الشيخ السعد حفظه الله على شدة أحمد  في نقد الرجال) ، وهو ممن اتفق عليه الشيخان وإليه المرجع في حديث (الأعمال بالنيات) ، وقد علق الحافظ الذهبي  على قول أحمد  في محمد بن إبراهيم  بقوله ، وثقه الناس واحتج به الشيخان وقفز القنطرة .

 

ويعلق الشيخ السعد حفظه الله على قول الذهبي  : ومن ثَمَّ قيل : تجبُ حكايةُ الجرح والتعديل ، بقوله : إن هذا راجع لإختلاف الأئمة في إطلاقاتهم ، فلكل إمام إطلاقات خاصة به ، كما سبق ذكر أمثلة على ذلك ، فإذا حكينا عباراتهم بألفاظهم ، دون أن نلم بمقصودهم منها ، قد يحدث الخلط لإتحادها ، وإختلاف مقصودهم ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، (ليس به بأس) ، عند ابن معين  ، فقد سبق أنه يعني بها الثقة ، بينما هذه العبارة على إطلاقها عند الجمهور  ، فهي تعني عندهم من يصل حديثه لأدنى درجات القبول ، وكما سبق من الفرق بين إطلاق أبي حاتم  على الراوي : (ليس بالقوي) ، وإطلاق البخاري  لنفس العبارة على الراوي ، وكما يطلق ابن خراش لفظ الصدوق ، ويعني به الثقة ، خلاف الجمهور الذي يطلق الصدوق ، على من خف ضبطه ، مع تمام عدالته ، فحاله لا يحتمل تصحيح حديثه كالثقة ، وإن كان حديثه لا يخرج عن دائرة القبول ، فهو حسن يحتج به .  

ولمزيد من الفائدة ، نذكر بعض الأمثلة المفيدة في هذه المسألة من إجابات الشيخ مقبل  لأبي الحسن في المقترح :

 

وصف الرجل بأنه (عابد) :

 يستشهد به، ولا يحتج به، لأن العبادة تحتاج إلى حفظ، فما أكثر المحدثين العابدين الذين ضعّفوا مثل: أبان بن أبي عياش ، وعبد الله بن عمر العمري ، وجمع كثير من العباد الذين ضعّفوا ، حتى قال يحيى بن سعيد : لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. أو بهذا المعنى ، يقول مسلم: بمعنى أن الكذب يجري على ألسنتهم ولا يتعمدونه. فهذه العبارة لفظة (عابد) أو ما يجري مجراها لا تدل على أنه يقبل الحديث ، لأنه يشترط في الحديث أمر آخر وهو: الضبط. والله المستعان.

 

إذا قالوا في الرجل: (يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم) :

ينبغي أن ينظر في قائل هذه الكلمة ، فإن مثل هذه الكلمة يقولها ابن حبان  في بعض الحفاظ الكبار ، من رجال البخاري ومسلم ، فإذا قالها الإمام أحمد ، أو يحيى بن معين، أو من جرى مجراهما، فمثل هؤلاء ينظر فيما قاله غير القائل ، ينظر أوثّقه غير القائل؟ أو قال : إنه صدوق غير القائل . أما إذا لم ترد إلا هذه العبارة فهي تعتبر جرحًا، وهي محتملة أنه يكذب ، وأنه يهم . محتملة لهذا وهذا ، فنحن نتوقف في أمره ، لا نحكم عليه بأنه كذاب ، ولا نحكم عليه بأنه صالح للشواهد والمتابعات ، ولكن إن وردت عبارات أخرى لبعض أهل العلم يحمل عليها هذا القول ، بمعنى أنه يهم ، وينظر أذلك الحديث من أوهامه ، أم ليس من أوهامه ؟ فإذا لم ترد إلا هذه العبارة توقفنا في أمره ولا نحتج به ، لكن ربما يصلح للشواهد والمتابعات ، وينظر فيمن روى عنه أهم من الثقات الأثبات أم ماذا ؟ .

 

قولهم في الرجل: (يروي المعضلات) هل المقصود بذلك العجائب والمشكلات، أو الأوابد -كما يقولون- ، أم المعضلات بالمعنى الاصطلاحي؟ :

ذلك بمعنى الأوابد ، وبمعنى الأمور التي لم تثبت عنهم ، لكن هذه العبارة -كما تقدم- ينبغي أن ينظر في قائلها ، فيخشى أن تكون من ابن حبان  تعالى، فكثيرًا ما يقول: يروي المعضلات عن الأثبات فاستحق الترك . فابن حبان شديد التجريح، كما أنه متساهل في توثيق المجهولين، فهو يطلق هذه العبارة على بعض رجال الشيخين ، فيتوقف في كلامه ، وربما اعترض عليه الحافظ الذهبي وقال: إنه لا يدري ما يخرج من رأسه ، بتصرف يسير .

 

قولهم (يروي المرسلات والمنقطعات والمقطوعات) :

الظاهر أنّهم يعنون بهذا أنه يصل المرسلات ، لعلهم يعنون هذا ، يصل المرسل ويرفع الموقوف... الخ ، هذا بمعنى أنه يخالف الناس في هذا، فإذا كان ثقةً أو قيل فيه: صدوق ، بقي علينا أن ننظر في كتاب "ميزان الاعتدال" وفي كتاب "الكامل" لابن عدي  ، وفي غير هذين الكتابين ، أهذا الحديث مما تفرد هو برفعه والناس يروونه موقوفًا، أو تفرد بوصله والناس يروونه مرسلاً؟ فينبغي أن تراجع ترجمته ، وإذا وثقه العلماء الأثبات -وبعضهم قال هذا-، بقي علينا أن ننظر في ترجمته ، أهذا الحديث مما أخطأ فيه ؟ فيترك خطؤه ، وهكذا إذا قالوا : صدوق يهم ، صدوق يخطيء ، فالشيخ مقبل  ينبه في هذا الموضع على أهمية جمع طرق الحديث ، وعدم الحكم مباشرة على الحديث من خلال النظر في ظاهر سنده ، فربما تبين بعد جمع طرقه أنه معلول ، وجدير بالذكر أن الشيخ الألباني  يقول بأن الأصل في حديث من قيل فيه (صدوق يخطيء) أنه حسن يحتج به إلا إذا قيل "يخطئ كثيرا" ومع ذلك قد تنزل رتبة حديثه من مرتبة الاحتجاج إلى مرتبة الاستشهاد تبعا للقرائن .

 

قولهم في الرجل: (مجروح) :

نتوقف في أمره ، أقل حاله أن يكون ضعيفًا ، وهذا الضعف متفاوت ، كما هو معلوم ، وعلى هذا فقول الدارقطني  : تجنب تدليس ابن جريج ، فإنه لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح معناه : أن ابن جريج  إذا عنعن توقفت فيه ، ولفظة (مجروح) متفاوتة ، فهى محتملة لأن يكون ضعيفًا ، أو شيخًا أو يكون أكذب الناس ، كل هؤلاء مجروحون ، فهي عبارة محتملة ، نتوقف فيما عنعن فيه ابن جريج ، وإن لم يذكر أحد من الأئمة سبب جرحه فالظاهر أنه يستشهد به ، لأنه لو كان مجروحا بسبب الكذب الذي يقتضي ترك حديثه ولو على سبيل الإستشهاد  لقالوا: إنه كذاب .

 

قولهم في الرجل : صالح لا بأس به :

من قيل فيه (لابأس به) فقط ، فحديثه حسن ، ومن قيل فيه (صالح الحديث) فقط ، فحديثه يصلح في المتابعات والشواهد ، أما من اجتمع فيه الوصفان فقيل فيه : (صالح لا بأس به) فالظاهر أن حديثه حسن ، كمن قيل فيه (لا بأس به) ، والله أعلم .

 

قولهم في الرجل : مظلم الأمر :

تقال غالبا في المجهول ، وقد جاء عند ابن عدي  في ترجمة سعيد بن ميسرة البصري أبي عمران ، قال: هو منكر ، وعنده مناكير ، وساق له أحاديث ، ثم حكم عليه بقوله : هو مظلم الأمر ، فالظاهر أنه بمعنى النكارة ، ويحتمل أن المراد أن حال أبي عمران لم يتضح له .

 

قول الذهبي  في الرجل : (لا يعرف) :

إن وثقه إمام متقدم معتبر في هذا الشأن فقوله مقدم على قول الذهبي  ومن أبرز الأمثلة على ذلك قول الذهبي  في شبيب بن عبدالملك التميمي : لا يعرف ، وقال أبوزرعة  : صدوق ، وقال أبوحاتم : شيخ بصري ليس به بأس لا أعلم أحدًا حدث عنه غير معتمر بن سليمان -وهو أكبر منه ، وكثيرًا ما يتعقبه الحافظ ابن حجر ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قول الحافظ ابن حجر   في "تهذيب التهذيب" : عجبًا ، إنه لعجب ، قد عرفه يحيى بن معين فكيف يقال فيه : (لا يعرف) ، بتصرف يسير .

 

قولهم في الرجل : واه :

من قيل فيه: (واه) لا يصلح حتى في الشواهد والمتابعات .

 

قول ابن حبان  في الثقات : روى عنه فلان وفلان وفلان وهو مستقيم الحديث ، وقوله : هو في حفظه كالأثبات أو يتقن حديثه :

اختيار ابن حجر والمعلمي  ، توثيق هذا الراوي ، وإن لم يوثقه إلا ابن حبان  ، لأن مقالته تشعر بأنه سبر أحاديث ذلك الراوي ، وتيقن من حفظه ، ولم يوثقه لمجرد أن الأصل في الرواة العدالة ، كما عرف عنه  في كثير ممن وثقهم من المجاهيل .

 

قول ابن المبارك  : هو يقول (لا إله إلا الله) ، لما سئل عن نوح بن أبي مريم وقول ابن معين  : (هو مسلم) لما سئل عن رجل :

هذا من باب الهروب من الإجابة، وأمْر نوح بن أبي مريم معروف أنه كذاب وكذا قول ابن معين  ، فالذي يظهر أن الرجل مجروح شديد الجرح ، و في بعض الأوقات يقتضى المقام أن لا يصرح الجارح لأمر ما ، إما لأنه يخاف على نفسه ، وإما لأن للمضعف عليه نعمة أو غير ذلك.

 

قول أبي حاتم  في ترجمة يحيى بن نصر بن حاجب القرشي : يلينه عندي قدم رجاله :

هو يعني أنه يحدث عن أناس لم يلقهم .

 

قولهم في الرجل: (وثّقوه) :

هو دون من قيل فيه : (ثقة) .

 

 

قول الحافظ في ترجمة: أحمد بن بكّار أبي ميمونة قال :  (صدوق كان له حفظ) :

هو حسن الحديث ، ولا يرتفع إلى درجة الثقة ، لأن الصدوق له حفظ وإن كان أدنى من الثقة ، ولو لم يكن له حفظ لكان من الضعفاء .

 

قول البخاري  في الرجل: (حديثه ليس بالمعروف) :

الذي يظهر أنه ليس كقوله: (منكر الحديث) ، و(المعروف) عندهم يقابل (المنكر) ، كما أن (المحفوظ) يقابل (الشاذ) ، لكن هذه العبارة لا يظهر منها أنّها مثل: (منكر الحديث) ، وإلا فما يمنع البخاري  تعالى من قول: (منكر الحديث) ، وما أكثر ما يقول هذا ، فالذي يظهر أنّها أحسن حالا ً، والله أعلم .

 

قول الحافظ في جهضم بن عبدالله بن أبي الطفيل: (صدوق يكثر عن المجاهيل) :

ينبغي أن ينظر في شيخه ، فإن كان مجهولاً دخلت علينا الريبة من هذا ، وإن لم يكن شيخه مجهولا وكان الراوي ممن يقبل حديثه ويحسن قبل ، وقد نبه الشيخ مقبل  إلى أن كتاب الحافظ (تقريب التهذيب) : هو تقريب كاسمه ، لأن أحكامه مختصرة ، فينبغي أن يرجع إلى "تهذيب التهذيب" و"ميزان الإعتدال" وغيرهما من الكتب التي تتكلم وتبسط الكلام على الراوي ، والله أعلم .

 

قول أحمد في ترجمة حجاج بن أرطأة : (كان من الحفاظ) ، قيل: فلم ؟ أليس هو عند الناس بذاك ؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس ، لا يكاد له حديث إلا فيه زيادة :

معنى هذا أنه ضابط ويأتي بزيادات لا يعتمد عليها ، ثم إن حجاج بن أرطأة أيضًا به جرح آخر وهو: ما ذكره الحافظ في ترجمته من أن فيه تيهًا ، وذكر عنه أنه قال: إنّها لا تكمل مروءة الشخص حتى يترك الصلاة مع الجماعة . يقصد أنه بمخالطته للناس لا يهابونه ، وهو أيضًا مدلس ، فلا يمنع أن يكون حافظًا ، وأن يكون مدلسًا ، وأن تكون لديه زيادات ، فالزيادات التي يزيدها على غيره ، ينبغي أن تجتنب حتى ولو زادها على من يماثله ، نستفيد هذا من التعبير الذي قاله الإمام أحمد .

 

قول الأوزاعي  : حسان ، ما كنا نقول عمن ، لما سأله خالد بن نزار  : حسان بن عطية عمن ؟

حسان بن عطية  شامي والأوزاعي  شامي ، والأوزاعي يعتبر من أعرف الناس بالشاميين (فقوله مقدم في بلديه ، كما هو معلوم) ، فمعناه أنه واثق برواية حسان بن عطية، ومعناه أيضًا أن حسان بن عطية مهاب ، إذا حدثهم لا يستطيعون أن يستفسروا منه ، لكن ينبغي أن يستفسر وينبغي أن يعرف مشايخه كغيره من العلماء ، فقول الأوزاعي  يفيد أحد أمرين أو الأمرين معًا : وثوقهم برواية حسان أو مهابتهم له ، فإن بعض الرواة يكون مهابًا في نفوس الناس ، وجدير بالذكر أن الشيخ أحمد شاكر  ذكر طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة مطلقا ، كواحد من أصح الأسانيد .

 

قول الحافظ  تعالى في بعض التراجم في "التقريب" : وثقة فلان ، وثقه النسائي ، وثقه الدارقطني ، وثقه العجلي ،  أو ضعفه فلان ، فهو يعزو الأمر إلى غيره :

الحافظ يريد بهذا أن يخرج من عهدة توثيق أو تضعيف هذا الراوي ، فيحكي أقوال أهل العلم فيه .

 

قولهم في الرجل: (ثقة له أوهام) ، أو  (ثقة يخطئ) ، أو (له مناكير) ، إذا لم يتضح لي أي شيوخه يهم فيه أو أي أحاديثه وهم فيها :

ذكر ابن حبان في ترجمة أبي بكر بن عياش في كتابه "الثقات" قال : كان أبوبكر من الحفاظ المتقنين وكان يحيى القطان وابن المديني يسيئان الرأي فيه ، وذلك أنه لما كبر سنه ساء حفظه ، فكان يهم إذا روى ، والخطأ والوهم شيئان لا يخلو منهما البشر ، فلو كثر الخطأ حتى صار غالبًا على صوابه لاستحق مجانبة روايته ، فأما هذا فلا يستحق ترك حديثه بعد تقدم عدالته وصحة سماعه ، والصواب في أمره ، مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه والإحتجاج بما يروي سواءً وافق الثقات أم لا ، لأنه دخل في جملة أهل العدالة ومن صحت عدالته لم يستحق الترك ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح ، وهذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته وتيقن خطؤه ، وذكر مثل هذا في ترجمة حماد بن سلمة  : ومن الذي لايغلط ومن الذي لا يهم ؟ ولو رددنا هذا الضرب لرددنا أحاديث صحابة ، حتى ذكر أبا بكر وعمر ، ومثل هذا قاله أيضًا الحافظ الذهبي قال: إذا خالفه غيره فيكون أقوى منه ، أما أنه يحتاج إلى متابع فلا .

 

قولهم في الرجل: (ثقة إن شاء الله) :

لاينْزله هذا عن مرتبة الثقة ، لكن هذا ليس كإطلاق لفظ (ثقة) ، وجدير بالذكر أن ابن سعد  يكثر من استخدام هذا اللفظ .

 

قولهم في الرجل: فلان (قاصّ) أو  (صاحب سمر) :

فيها شيء من عدم التثبت ، لأن الغالب على القصّاصين أنّهم لا يتثبتون ، وإن كان عطاء بن يسار قد لقّب بأنه قاص ّ، رغم أنه من أثبت الناس ، والغالب على القصاصين أنّهم غير متقنين ، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل : ما أحوج الناس إلى قصّاص صدوق ، فإذا أطلقوا هذه العبارة وحدها ، ولم يزيدوا عليها شيئًا ، فهذه توقع الريبة في القلب ولا يعتمد على هذا الراوي ، لأن الأصل في القصاصين عدم التثبت.

 

قول الحافظ  : (مقبول) فيمن ذكره ابن حبان  في الثقات ، ولم يرو عنه إلا راو واحد :

(مقبول) عند الحافظ  ، يعني بها أنه يحتاج إلى متابع .

 

قولهم في الرجل : (صدوق تغير بآخرة) :

الذي يظهر أنه يحتج به ما لم يخالف ، وهو قول الألباني  في "السلسلة الصحيحة" ، لأن التغيّر ليس بمنْزلة الإختلاط ، ومن أبرز ما يؤكد ذلك ماذكره الحافظ الذهبي في ترجمة هشام بن عروة  في تعليقه على كلام ابن القطّان  الذي قال بأن هشام  تغير أو اختلط بعدما نزل إلى العراق ، فأنكر عليه ، حيث قال: إنه ضعف حفظه -أي هشام- ولم يبلغ إلى حد الاختلاط ، ثم قال: وهشام شيخ الإسلام ، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطّان ، ويؤكد الشيخ مقبل  على أنه : لا ينبغي أن ننسى أن أهل العلم قد نخلوا السنة نخلاً ، وخصوصًا أحاديث الأحكام ، فينبغي أن يرجع إلى شروح الحديث ، وإلى كتب التخاريج مثل "التلخيص الحبير" وغيره ، فربما ذكروا أن هذا الحديث مما حدث به بعد تغيره ، وجدير بالذكر أن الألباني رحمه الله يرى عدم التفريق بين التغير والإختلاط ، فقال رحمه الله في السلسلة الصحيحة : وهل هناك فرق بين قولهم : تغير، وبين قولهم: اختلط؟

 

 

قولهم في الراوي : إذا كان فوقه ثقة ، ودونه ثقة ، فهو مستقيم :

الإشكال في هذا ، أن هذا شرط في صحة أي سند ، فما وجه التخصيص في هذه الحالة ، فالذي يظهر  أن هذا الراوي غير متحر  في روايته ، فربما ينفق عليه ما ليس بثابت إذا كان شيخه ضعيفًا أو كذابًا أو مجهولا ، وهكذا إذا روى فمن الممكن أن تكون أصوله صحيحة ، لكن المحدث إذا حدث عنه وليس أهلا للرواية -أي الراوي عنه- فربما يحصل تخليط من عدم تحريه هو نفسه ، في الأخذ والتحديث .

 

قول البعض في راو : مجهول ، والبعض الآخر : ضعيف ، أيهما يقدم ؟

يقدم قول من قال : ضعيف ، لأن معه زيادة علم ، خلاف من قال : مجهول ، فقد أخبر بما علمه .

 

قولهم في الرجل : (صدوق صحيح الكتاب) ، ولم يعلم أحدث من كتابه أم من حفظه ؟ :

يحكم على الحديث بأنه حسن في الحالتين ، ولا يرتفع إلى مرتبة الثقة إن حدث من كتابه ، وقد ينزل حديثه عن مرتبة الحسن إن حدث من حفظه ، وهذا يحتاج إلى تنصيص بأنه حدث هذا الحديث من غير كتابه ، ومثل هذا ينبغي الرجوع فيه إلى كتب العلل وشروح الحديث.

 

قول ابن عدي  ، في ترجمة سلم بن زرير : أحاديثه قليلة ، وليس في مقدارها أن يعتبر ضعفها :

الذي يظهر  أن أمره ملتبس على الحافظ ابن عدي  ، لأنه ما استطاع أن يحكم عليه بسبب قلة أحاديثه ، فيتوقف في حديثه ، والله أعلم .

 

قولهم في الرجل: (صدوق وسط) :

هو من مراتب الحسن ، و(صدوق) هو وسط بين الثقات والضعفاء ، فكلمة (وسط) إن شاء الله من باب التأكيد .

 

قول ابن المديني   في كثير من الرواة في تراجم "التهذيب" : إنه من الطبقة الثانية ، أو الثالثة ، من أصحاب نافع :

أصحاب نافع ، وأصحاب الزهري ، وأصحاب قتادة ، وأصحاب الحفاظ المشاهير ، كلهم طبقات ، الطبقة الأولى هى أرفع طبقة ، والطبقة الثانية ، إلى الطبقة الخامسة والسادسة والسابعة ، هكذا أصحاب الزهري ، ومن أحسن المراجع في هذه المسألة "شرح علل الترمذي" لابن رجب  ، المجلد الثاني ، فقد ذكر ابن رجب أصحاب نافع وطبقاتهم ، وأصحاب الزهري وطبقاتهم ، وأصحاب علقمة وطبقاتهم ، حتى طبقات ابن مسعود ، وقد نبه الشيخ مقبل  إلى أن مسألة الطبقات ليس متفقًا عليها ، حتى في الصحابة رضي الله عنهم ، فمنهم ، من يجعل البدريين طبقة ، والسابقين طبقة ، وأهل بيعة الرضوان طبقة ، وهكذا ، لكن المؤلف يعرف اصطلاحه من مقدمة كتابه ، وأما بالنسبة لطبقات أصحاب الزهري فعلى حسب التوثيق ، وكذلك أصحاب نافع وأصحاب قتادة  جميعا .

 

قول أبي داود  في ترجمة شعيب بن أيوب بن زريق : (إني لأخاف الله في الرواية عن شعيب) :

هذه العبارة بمفردها ، تفيد تضعيف أبي داود  لشعيب .

 

قول أبي حاتم في بعض الرواة: من (عتّق الشيعة) :

يعني أبو حاتم  بهذه العبارة أنه من غلاة الشيعة ، كما يقال : (فلان شيعي جلد) .

 

قول ابن المديني في طلحة بن أبي سعيد الاسكندراني: (معروف) :

في هذا القول : معنى رفع الجهالة ، ويحتمل أن يكون معروفًا ثقة ، أو مخلطًا أو معروفًا كذابًا ، فالعبارة فيها رفع الجهالة ، ولا يرتفع إلى مرتبة الاحتجاج ، ويعتبر به.

 

قول ابن عيينة  في في ترجمة عبدالله بن داود بن عامر الهمداني : (ذاك أحد الأحدين) :

الظاهر أنّها توثيق ، لكن رتبتها الله أعلم .

 

قولهم في الرجل: (ليس بثقة في حديثه) :

الذي يظهر أن: (ليس بثقة في حديثه) أنه يدخل عليه الخطأ ، وهو لا يدري ، وهو يشبه قول يحيى بن سعيد القطان  : ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث .

 

قولهم في الرجل: (حسن الحديث) ، و (صالح) :

الذي يظهر أن من قيل فيه: (حسن الحديث) يحسّن حديثه ، وأما من قيل فيه (صالح) ، فيصلح في الشواهد والمتابعات ، كما في "تدريب الراوي" ، وأبوحاتم  كان كثيرا ما يسئل عن راو من الرواة ، فيجيب بقوله : فلان (صالح) ، قيل: يحتج به ؟ قال: لا ، يكتب عنه ولا يحتج به ، وأبو حاتم  لا يرى الحسن حجة ، ولكن يرد على ذلك سؤال ابن أبي حاتم  لأبيه : حديث كذا محفوظ ؟  فقال أبو حاتم  : قلت لك حسن ، فعبارة أبي حاتم  وردت في سياق التأكيد على حفظ هذا الحديث ، وهذا يؤيد أنه يرى الإحتجاج بالحسن .

 

قول ابن حبان  في الثقات ، في ترجمة : عبدالله بن عثمان بن أبي مسلم الخراساني : (يعتبر حديثه إذا روى عن غير الضعفاء) :

معناه : أنه لا يتحرى في الأخذ .

 

قولهم في الرجل: (يستضعف) :

الذي يظهر أنه في مرتبة (لين الحديث) ، وكلمة: (يستضعف) ، أحسن حالاً من كلمة: (ضعيف) ، والله أعلم .

 

الفرق بين : (حدثني الثقة) ، و (أنا أشترط أن أروي عن ثقة) :

الحافظ العراقي ، رجح الصيغة الثانية ، لأن فيها اشتراطا ، والإشتراط أقوى ، وأما السخاوي  فرجح الصيغة الأولى ، لإحتمال أن يكون الراوي قد اشترط هذا الشرط مؤخرا ، وأما الحافظ  ، فقال بأن هذا هو (المقبول) الذي يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات ، وهذا ما رجحه الشيخ مقبل  .

 

قولهم في الراوي: (ثقة صحيح الكتاب إلا أن في حفظه لينًا) :

نتوقف إذا كنا لاندري أحدث به من حفظه ، أم حدث به من كتابه ، لكن إذا حدث وصححه غيره من المعتبرين ولم ينتقد فهذ يدل على أنه حدث بهذا الحديث من كتابه ، والله أعلم .

 

قول أبي حاتم  في الراوي : إذا روى عنه فلان وفلان وفلان فأحاديثه مستقيمة ، كما في ترجمة عبدالله بن يزيد المخزومي المقرئ ، حيث قال عنه بأنه حجة إذا روى عنه مالك، ويحيى بن أبي كثير، وأسامة :

معنى ذلك أن هؤلاء الرواة ينتقون من أحاديثه ما يظهر لهم ثبوته ، والله أعلم .

 

قولهم في الرجل: (ثقة)، وقولهم في الرجل: (يحتج به) :

عبارات النقاد  تختلف ، وقد سئل عبدالرحمن بن مهدي عن أبي خلدة وقد حدث عنه ، فقيل له: أكان ثقةً ؟ فقال: كان صدوقاً وكان مأمونًا ، الثقة شعبة وسفيان . كما في مقدمة "الجرح والتعديل". والذي يظهر أن الحجة أرفع من ثقة ، وأما (يحتج به) فالظاهر أن (الثقة) أرفع من قولهم: يحتج به ، لأنه قد يحتج بالثقة وقد يحتج بالصدوق ، فالأول راوي الصحيح والثاني راوي الحسن ، وكلاهما يحتج به .

 

قول الجريري  في عبدالله بن واقد أبي قتادة الحراني : (غيره أوثق منه) :

قال الحافظ  : هذه العبارة يقولها الجريري  في الذي يكون شديد الضعف وأحيانًا يقولها غير الجريري  ، كما قالها الحربي   في عبدالرحمن بن زياد بن أنعم  والذي يظهر أنه اصطلاح خاص بالجريري .

 

قولهم: فلان (يعتبر حديثه) ، وفلان (يعتبر بحديثه) :

فلان (يعتبر حديثه) أي : ينظر فيه ، وفلان (يعتبر بحديثه) أي: يصلح في الشواهد والمتابعات.

 

قول الحافظ  : مقبول ، فيمن يوثقه ابن شاهين وابن خلفون  : 

يقول الشيخ مقبل  : ابن شاهين  من المعروفين بالتساهل ، وأما ابن خلفون  فلا أذكر شيئا ، ولكن صنيع الحافظ الذى ذكرته دليل على أنه من المتساهلين .

 

قولهم في الرجل : (كان طلابة) ، كما قال عيسى بن يونس في عبدالرحمن بن مغرا :

الذى يظهر أنّها أرفع من قولهم : (شيخ) ، ومعناها أنه كثير الطلب ، ونرجع إلى ما تقدم قبل ، من أنه إذا اشتهر بالطلب وما جرحه أحد فإن حديثه يقبل .

 

قول يعقوب بن شيبة في عبدالعزيز بن رفيْع : (يقوم حديثه مقام الحجة) :

الذي يظهر أن هذه العبارة تدل على أن المترجم له ثقة ، أو أرفع ، وعبدالعزيز بن رفيع  هو ثقة أو أرفع من ثقة .

 

قول ابن معين  في حديث عبدالمتعال بن طالب الأنصاري عن ابن وهب  : ليس هذا بشيء ، مع سبق توثيقه له ، ، وجْه سؤالي (الكلام لأبي الحسن) : ألا يوجب تضعيفه في هذا الحديث قول ابن معين : ليس بشيء؟ :

 

أجاب الحافظ  في "التهذيب" بقوله : وهذا أمر محتمل لا يوجب تضعيف الرجل ، وربما كان الحافظ  ، يشير إلى أن ابن معين  ، يقول في الراوي أحيانا : ليس بشيء ، وهو يقصد قلة أحاديثه ، لا ضعفه ، والذي يظهر أنه يؤخذ قوله كما هو ، إذا روى عن ابن وهب ضعّف ، وإذا روى عن غيره قبل ، (لأنه الأصل في لفظه هذا التضعيف) ، والله أعلم .

 

قولهم: فلان (رحّال) ، أو (جوّال) :

(رحّال) أشهر من (معروف) ، وكذلك (جوال) ، وهو يحتاج إلى معرفة العدالة والضبط ، و(معروف)، تقدم أنه يصلح في الشواهد والمتابعات إذا لم يوثق . والله أعلم.

 

قولهم: فلان (غمزوه) ، أو: فلان (مغموز) :

الذي يظهر أنه سقط حديثه عن الحجيّة ، ولكن يستشهد به ، مثل قول ابن عون  : إن شهرًا نزكوه ، إن شهرًا نزكوه ، إن شهرًا نزكوه ، أي: تكلموا فيه .

 

قولهم في الرجل: فلان (محله محل الأعراب) :

معناه أنه ليس من أهل الحديث ، ويرد على هذا قولهم في ترجمة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : (إسناد أعرابي) ، رغم أن بعض أهل العلم يحسنون أحاديث هذه السلسلة ، ويعلق الشيخ مقبل  على هذا بقوله بأنهم يعنون أن حديث هذه السلسلة ليس بالعمدة ، على أنه قد اختلف في هذه السلسلة ، فمنهم من يحسّنها ، ومنهم من يراها أنزل من الحسن ، على أن بهزًا قد توبع على أكثر أحاديثه كما في "المسند" .  

 

قول يحيى بن سعيد في الحسن بن صالح بن صالح ابن حي الفقيه : (لم يكن بالسّكة)، كان يخرج على الولاة ، وقوله أيضًا: (لم يكن بالسّكة مثله) :

السّكة كلمة تطلق على الطريق وتطلق على العملة ، فالظاهر أنه ما كان خالصًا ، لأن به شيئًا من البدعة وهى: الخروج على الأمراء ، وأيضًا ترك الجمعة ، فمن وثّقه فلصدق لسانه ، ومن جرحه فلبدعته ، وقوله : (ليس في السكة مثله) أي: ليس يعتمد عليه ، والصحيح أنه صدوق اللسان ، صاحب بدعة فتقبل روايته التي لم تكن موافقةً لبدعته ، وتجتنب بدعته وهو من رجال مسلم .

 

قولهم في الرجل: فلان (ليس بمحمود) :

الذي يظهر من هذه العبارة أنه يصلح في الشواهد والمتابعات ، على أنه قول مبهم ، فيحتمل أنه مبتدع ويحتمل أنه سيء الحفظ ، والله أعلم .

 

قول أبي داود في حماد بن يحيى الأبحّ : (يخطئ كما يخطئ الناس) :

الذي يظهر أن حديثه ما ينْزل عن الحسن ، إلا أن يكون الحديث من أخطائه مثل حديث: ((مثل أمّتى كمثل المطر لا يدرى أوّلها خير أم آخرها)) ، فهذا الحديث جاء من حديثه وهو من جملة أوهامه ، لكن الحديث له طرق أخرى يرتقى بها إلى الحجية .

 

قول الحاكم وابن أبي زرعة في خلف بن محمد الخيام قالا : (كتبْنا عنه ونبرأ من عهدته ، وإنما كتبنا عنه للإعتبار) :

الذي يظهر أنّهما كتبا عنه وليسا متأكدين من ثقته أو جرحه ، ولم يعتمدا عليه ، وقد أطلق مثل هذه العبارة ابن خزيمة في عبّاد بن يعقوب الرواجني : حدثني عبّاد بن يعقوب الصدوق في روايته ، المتهم في دينه ، ثم ترك الرواية عنه ، وكذا القاسم السيّاري كان يروي عن محمد بن موسى بن حاتم القاشاني ويقول: (أنا أبرأ إلى الله من عهدته)، فالذي يظهر أن معنى كلامهم : نحن لا نعتمد عليه وكتبنا عنه للنظر في حديثه .

 

قال الدارقطني : (لا يترك) ، في ترجمة الربيع بن حبيب المصرى ، وقد وثقه أحمد وابن معين وابن المديني :

علق الذهبي  على قول الدارقطني  بقوله : فقول الدارقطني ليس بتجريح له ، ويقول الشيخ مقبل  : فيها شيء من التجريح وليس تجريحًا مطلقًا .

 

قولهم في الرجل: (ذهب حديثه) :

الأصل فيها ، أنه ترك حديثه ، لأنه متروك أو متهم ، إلا أن يفسر بأنه ضاع ، كما في قول ابن المديني في روح بن أسلم الباهلي : (ذهب حديثه) ، فقد فسره محمد بن عثمان بن أبي شيبة بأنه ضاع .

 

قولهم في الرجل: (جائز الحديث) :

الظاهر أنه يصلح في الشواهد والمتابعات .

 

قولهم : (فلان يستدل به) :

معناها عند غير أحمد : أنه يصلح للاستدلال بحديثه ، وأما عند أحمد  ، فالظاهر من قوله في صالح بن أبي الأخضر: (يستدل به ، يعتبر به) ، أن حديثه لايصلح إلا للإعتبار .

 

قول أبي عروبة في ترجمة العباس بن الحسن الخضرمي : (كان في رجله خيط) :

يقول الشيخ مقبل  : بعض العبارات لا تعد جرحًا ، وهذه العبارة لا أعلم معناها ، فقد يكون المجيب متشددًا مثل شعبة عندما سئل عن شخص فقال: رأيته يركض على برذون ، ومثل حماد بن سلمة لما ذكر عنده راو (وهو صالح المري ) ، فامتخط فعدّه من رأوه جرحا ، ويجوز أنّ حمادًا امتخط لأن به مخاطًا ، ويجوز أن يكون قول أبي عروبة هروبًا من الجواب .

 

قولهم: (فلان لا يحتج به) ، وقولهم : (فلان لا يجوز الاحتجاج به) :

الظاهر من قولهم: لا يجوز الاحتجاج به أنه أبلغ في تضعيفه ، وأن قائلها متثبت ، أكثر من قولهم: (لا يحتج به) ، لأن الحافظ الذهبي قال في ترجمة علي بن محمد بن عيسى الخياط : واتّهمه ابن يونس فقال: لا يجوز الاحتجاج به ، ولكننا لا نستطيع أن نحكم على هذه اللفظة بأنّها تؤدي إلى معنى (متهم) لأننا لم نطلع على كلام ابن يونس وهو في "تاريخ مصر"، والله أعلم .

 

قولهم: (فلان آية من الآيات) أو (فلان آية) :

 هي دالة على تثبته وعلى منْزلتة الرفيعة.

 

قولهم في ترجمة القاسم بن داود البغدادي : (طير غريب)  أو (لا وجود له) ، انفرد عنه أبوبكر النقاش ذاك التالف ، كما قال صاحب الميزان :

معناه أنه ليس بمعروف ، ثم بعد ذلك إما أن يكون ليس بمعروف ، أو أنه لا وجود له لأن أبا بكر النقاش متكلّم فيه واسمه محمد بن الحسن ، وله تفسير اسمه "شفاء الصدور" يقول اللالكائي: ينبغي أن يسمى (شقاء الصدور) بالقاف بدلاً من الفاء -وليس "شفاء الصدور" .

 

قول أبي داود  في ترجمة ابن عائذ الدمشقي : (هو كما شاء الله) :

هذا تليين فيه، ولكن الله أعلم في أي المراتب .

 

قولهم في الرجل: (فلان لا يتعمّد الكذب) ، وقولهم: (فلان أظرف من أن يكذب) :

 (لا يتعمّد الكذب) معناه أن الكذب يجري على لسانه من غير تعمّد ، وبسبب ضعفه في الحديث ، وعدم إتقانه لعلم الحديث يجري على لسانه الكذب ، أما ذلك الآخر الذي هو: (أظرف من أن يكذب) فليس فيه إثبات الكذب عليه ، وعلى هذا يكون الثاني أحسن حالا من الأول .

 

قولهم: (حدّثونا عنه ) :

يستفاد تضعيفه من العبارات الأخرى المقيدة لها والتي تدل على أنه متروك أو متهم ، وأما قولهم : (حدثونا عنه) مطلقة ، دون استقراء فهي لا تفيد تضعيفه ، ولا توثيقه ، بل هي إلى تليين أمره أقرب ، والله أعلم .

 

قولهم في الرجل: فلان (كان من الناس) :

الظاهر أن هذه من تلك العبارات التي يحيد بها المسئول عن الجواب مثل ، (رأيت برجله خيطًا) و(هو مسلم) و(هو ممن يقول: لا إله إلا الله) ، وكعبارة الحافظ ابن حجر في أبي حنيفة : (فقيه مشهور) ، وهذه عبارة ذكرها الحافظ ابن حجر في مقدمة "تقريبه" ، فما هي إلا من باب الحيدة ، لأن الحنفية كان أمرهم قويًّا ، فلم يستطع الحافظ أن يتكلم بما يرى أنه الحق ّ .

 

قولهم: (فلان كان من العوام) أو (فلان من العوام) :

قولهم: (من العوام) ، يدل على أنه ليس من أهل العلم ، ولا من أهل الضبط .

 

قولهم: (فلان يأخذ من كل أحد) ، وأيضًا: (فلان حاطب ليل) وقول مطين في محمد بن أبي شيبة : (عصا موسى تلقف ما يأفكون) :

الظاهر أنّها بمعنى واحد ، وقول مطين في محمد تحمل على الجرح لأنه يتكلم في محمد بن أبي شيبة ، ومحمد يتكلم في مطين ، ولا يقبل كلامهما في بعضهما لأنه من كلام الأقران .

 

فائدة حول رواية الأقران :

جرح الأقران أثبت من غيرهم ، لأنّهم أعرف بقرنائهم، فهي مقبولة إلا إذا علم أن بينهما تنافسًا وعداوةً سواء لأجل دنيا ، أو مناصب ، أو خطأ في فهم ، ويريد أن يلزم الآخر بخطأ فهمه .

 

قولهم في الرجل : (فلان صدوق ضعيف الحفظ) :

يكون في منْزلة وسطى بين (الصدوق) وبين (الضعيف) ، ويصلح في الشواهد والمتابعات.

 

قولهم في الرجل : (ضعيف) :

يعني هذا أنه ضعيف الحفظ ، أما دينه فهو صدوق فيه .

 

قولهم في الرجل ضابط أو حافظ ، دون التعرض للعدالة :

ذكر السخاوي أن ذلك ليس فيه تعرّض للعدالة، وأننا نحتاح إلى بيان العدالة  ، وقد وجد حفاظ وهم متهمون مثل محمد بن حميد الرازي فهو حافظ وقد كذّب ، وسليمان بن داود الشاذكوني حافظ وقد كذّب ، وأبوالفتح الأزدي محمد بن الحسين حافظ كبير وقد اتّهم-وهو صاحب الكلام في الجرح والتعديل- فلفظة : حافظ لا تؤدي بأنه عدل ، وهو الصحيح ، فيحتاج في من قيل فيه: حافظ إلى إثبات عدالته ، العدالة لا تكفي كما تقدم ، والحفظ وحده لا يكفي .

 

 

قولهم في الرجل: (فلان ليس كأقوى ما يكون) :

الظاهر أنه يكون بمنْزلة (ثقة) أو (صدوق) المهم أنه يقبل حديثه .

 

قولهم في الرجل: فلان (ليس بثقة) ، وفلان (ليس بالثقة) ، وفلان (ليس بقويّ) ، وفلان (ليس بالقوى) :

هناك فرق بين هذه العبارات ، فهي تتفاوت، كما نبه إلى ذلك الشيخ الألباني  ، وأكد على ذلك الشيخ مقبل  ، حيث قال : (ليس بالثقة) أي: الثقة العالي الرفيع ، و(ليس بالقوي) كذلك ، و(ليس بالثقة) و(ليس بالقوي) أعلى و(ليس بثقة) و(ليس بقويّ) أدنى ، والذي يظهر من قولهم: (ليس بالثقة) أنه يكون مردودًا ، لكن ليس بمنْزلة (ليس بثقة) ، و(ليس بالقوي) و(ليس بقويّ) الظاهر أن كليهما يصلح في الشواهد والمتابعات، لكن (ليس بالقوي) أرفع ، فالضعف يتفاوت كما أن التعديل يتفاوت.

 

 

قول البخاري : (حديثه ليس بالمعروف) ، وقوله في ترجمة أيوب بن واقد الكوفي : (حديثه ليس بالمعروف ، منكر الحديث) :

هذا مفسّر له ، وإلا فالذي يظهر أن: (ليس بالمعروف) أرفع قليلاً من منكر . والله أعلم .

 

قولهم: فلان (على شرط الصحيح) :

الظاهر أنّهم يعنون: أنه ثقة يصح حديثه ، والله أعلم.

 

قولهم في الرجل : فلان (ثقة وليس من الأثبات) :

التوثيق نفسه يتفاوت ، فالذي يظهر أنه يصح حديثه لأنه ممكن أن يقال فيه : ثقة ثبت ، أو ثقة حافظ ، أو أوثق الناس ، فيكون هذا (أي ذلك اللفظ) : في رتبة ثقة ، وإن لم يكن في أرفع درجاتها ، وأرفع من صدوق .

 

قولهم في الرجل: (أحاديثه مستقيمة) أو (مستوية) ، وقولهم : فلان (حديثه متماسك) ، وفلان (حديثه قائم) :

الذي يظهر أنها مستقيمة تقبل وكذلك مستوية ، أما متماسك فهو إلى الضعف أقرب ، وكذلك قائم ، والله أعلم.

 

إذا ذكروا إسنادًا وقالوا : وسوّاه فلان :

يقولون : وسوّاه فلان ، وجوّده فلان ، بمعنى: أن ظاهره قبل أن يرويه به علة ، إما من أجل الانقطاع، أو غيره ، ثم إنه أزال تلك العلة وهو أيضًا يحتاج إلى نظر ، فإذا قالوا: سوّاه فلان وجوّده فلان فهو إلى الريبة أقرب ، فينبغي أن تنظر فيه .

 

 

قول يحيى بن سعيد القطان: كان ثور إذا حدثني عن رجل قلت له: أنت أكبر أم هو ؟ فإذا قال: هو أكبر كتبت عنه ، وإذا قال: أنا أكبر لم أكتب عنه :

معناه: أنه إذا روى عن أصغر منه كأنه يستنكف أن يروي عن أصغر منه ، فربما يكون بينه وبينه واسطة ، فحذف الواسطة ، لكن إذا روى عن أكبر منه فهو لا يروي عن أكبر منه إلا إذا سمع منه ، وهناك إحتمال آخر بالنسبة للأصغر إضافة إلى إحتمال أن يكون بينهما واسطة وهو : أنه ما أتقن حديثه ، وجدير بالذكر أن الحفاظ  ، وثقوا ثور بن يزيد ، وأشاروا إلى اتهامه ببدعة القدر ، فقالوا : (ثقة، ثبت ، رمي بالقدر)  

 

قولهم في الرجل : فلان (لو لم يحدث لكان خيرًا له) :

هي مثل قول بعضهم في أسد بن موسى ، لو لم يؤلف لكان خيرًا له ، وكذا قولهم : لو لم يحدث لكان خيرًا له ، فهذا يدل على أنه حصل منه تخليط .

 

قول ابن المديني في خليفة بن خياط الملقب بشباب : (في دار شباب ابن خياط شجر يحمل الحديث) :

توقف الشيخ مقبل  في هذا اللفظ .

 

 

قول البخاري في درست بن زياد العنبري : (حديثه ليس بالقديم) ، وقولهم : (حديثه ليس بالقائم) :

يحتمل أحد أمرين : إما أن يكون معناه : ليس بالقديم ، أي: أنه حدث بما لم يسمع ، أو أنه يروي عمن هو أنزل منه ، أو أن يلحق في كتبه ما لم يسمع . (ولا أدري هل يعني هذا أن القائل يستبعد رواية هذا الراوي لروايات عالية الإسناد ، عن رجال متقدمين ، لم يدركهم ، فيبدو حديثه قديما ، وهو بخلاف ذلك ، أم أن لهذا القول معنى آخر) ،وقولهم: فلان (حديثه ليس بالقائم) الظاهر ، أنّها مثل قولهم: فلان حديثه غير متماسك ، والله أعلم .

 

قول غير الحافظ ابن حجر مثل الطحاوي والبيهقي في بعض الرواة : فلان (مقبول) :

الظاهر أن معناه أنه يحتج به ، وهو أعم من الثقة والصدوق .

 

قولهم في الرجل: (كأن أحاديثه فوائد) :

الظاهر أنه لجودتها وقوتها، والله أعلم .

 

قولهم : (ليس بقويّ) و (لا يحتج به) ، و (صدوق يهم) ، و (منكر الحديث) ، و (مضطرب) :

(صدوق يهم) جرح مفسر ، ولا يشترط لكونه مفسرا أن يقال : وهم في حديث فلان أو في شيخ فلان ، واختلف على فلان واختلف عليه فلان ، وما إلى ذلك ، و(ليس بالقوي) جرح غير مفسر ، و(ضعيف) جرح ليس مفسرًا ، و(سيء الحفظ) جرح مفسر ، و(منكر الحديث) جرح مفسر ، و(مضطرب الحديث) كذلك جرح مفسر ، (ومعلوم أن الجرح المفسر مقدم على التعديل المبهم ، لأن مع الجارح زيادة علم ، إلا إن جاء المعدل ببينة تنفي جرح الجارح ، أو تبين أن المجروح قد تاب مما جرح به ، وأما الجرح المبهم ، فقد قال الحافظ رحمه الله أنه معتبر إن صدر من إمام ثقة ، وخلا المجروح عن التعديل) .

 

وقد تكلم الشيخ السعد ، حفظه الله في موضع آخر ، (في شرحه للإلزامات والتتبع) عن مسألة التعارض بين الجرح والتعديل بكلام نفيس ، يحسن بنا أن نورده في هذا الموضع لنفاسته فقال حفظه الله في :

اختلاف المعدلين والمجرحين :

هناك عدة قواعد لابد من اعتبارها ، عند اختلاف عبارات أئمة الجرح والتعديل ، عند تعارض الأقوال في راو ما ، ومن أبرزها :

أولا : اختلاف مراتب علماء الجرح والتعديل ، من حيث تمكنهم من معرفة أحوال الرجال :

فعلى سبيل المثال ، يقدم يحيى بن معين على أبي عبد الله الحاكم ، صاحب المستدرك ، لأن الأول أمكن في هذا الشأن من الثاني ، أضف إلى ذلك أن الأول معروف بتشدده وتحريه ، خلاف الثاني المعروف بتساهله ، والإحتياط يقتضي إعمال قول ابن معين عند التعارض ، مالم تظهر قرينة أخرى تؤيد قول الحاكم ، كموافقة إمام معتدل ، من مرتبة ابن معين (العلمية) كأحمد بن حنبل له (أي للحاكم) .

ويقدم يعقوب بن شيبة على ابن شاهين ، وهكذا تبعا للمرتبة العلمية لكلا الإمامين المختلفين .

وطبقات أئمة الجرح والتعديل العلمية يمكن تقسيمها كالتالي :

الطبقة الأولى : وهي طبقة الأئمة الفحول في هذا الفن ، ومن أبرزهم ، يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي وعلي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين .

الطبقة الثانية : كالترمذي والعقيلي ، والأول متساهل نسبيا ، والآخر ، متشدد في جرحه ، ويظهر هذا جليا في كتابه (الضعفاء) .

الطبقة الثالثة : كأبي حفص بن شاهين والحاكم .

ثانيا : يقدم الجرح المفسر على التعديل المجمل :

وهذه القاعدة مقيدة بالقاعدة الأولى ، فلا يقال على سبيل المثال : إذا اختلف ابن معين والحاكم في راو ما ، فضعفه ابن معين تضعيفا مطلقا ، دون تفسير ، ووثقه الحاكم ، فإن توثيق الحاكم يقدم لأن جرح ابن معين غير مفسر ، لأن هذا لا يصح إلا في حالة تساوي الإمامين في المرتبة ، وهذا غير حاصل هنا ، لأن مرتبة ابن معين أعلى من مرتبة الحاكم ، كما تقدم ، وعليه يقدم جرح ابن معين ، وإن كان مجملا ، وأما إن تساوى الإمامان في المرتبة ، فإن المعتدل مقدم على المتشدد عند التعارض ، فعلى سبيل المثال : كان ابن معين (وهو متشدد) لا يحدث عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وشريك بن عبد الله النخعي ، بينما كان عبد الرحمن بن مهدي (وهو معتدل) ، يحدث عنهما ، فكلامه هو المقدم في هذا الموطن ، والله أعلم .

ثالثا : معرفة عبارات الأئمة :

فعلى سبيل المثال :

عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ، قلما يستعمل لفظ ثقة عند توثيق راو ما ، لأنه متعنت ، حتى قال عن الليث بن سعد ، وهو من هو في الحفظ والإمامة : صدوق ، ويشابهه إلى حد كبير أبو حاتم ، فغالب ثوثيقاته للرواة ، تكون بلفظ : صدوق .

ابن عدي ، في كتابه (الكامل) ، يقول عن الراوي أحيانا : (أرجو ألا بأس به) ، فقد يفسر ذلك بأن حديثه وسط ، ولكن المتتبع لعبارة ابن عدي يجده يقصد بهذا القول أن الراوي ليس بمتروك ولا شديد الضعف ، ولا يعني هذا أنه ليس ضعيفا مطلقا ، فقد يكون ضعيفا ، ولكن ضعفه ليس شديدا ، كما نص على ذلك المعلمي ، وقد أطلق ابن عدي هذه العبارة على الحكم بن عتيبة ، وهو ثقة ثبت ، وأطلقها على آخرين متوسطين وضعفاء .

لابأس به ، عند ابن معين والنسائي ، يعنيان بها الثقة .

 

تقييم لبعض أئمة هذا الفن :

الأزدي : متشدد جدا ، فلا يعتبر بكلامه في كثير من الأحيان .

أحمد بن صالح المصري : متساهل ، ومن أمثلة تساهله قوله في يزيد بن أبي زياد : ثقة ، ولا يعجبني من تكلم فيه ، رغم أنه لا يحتج به ، وقد اختلط ، وكذا وثق عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم رغم ضعفه .

ابن شاهين : وهو في كتابه (الثقات) ، يذكر الراوي لمجرد سرد أقوال من وثقوه ، فهو مجرد ناقل لا حاكم في كتابه هذا ، وكذا في كتابه (الضعفاء) ينقل أقوال المضعفين ، وأحيانا يذكر الراوي في الثقات ، وفي الضعفاء ، كما فعل مع عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ، حيث ذكره في الثقات لتوثيق أحمد بن صالح المصري له ، وذكره في الضعفاء لتضعيف ابن معين له ، والمعول عليه في معرفة أحكام ابن شاهين هو كتابه في المختلف فيهم ، حيث يرجح بين الأقوال المتعارضة ، وهذا الكتاب موجود بعضه ، وله مختصر .

 

قولهم : فلان (عالي الإسناد) :

الذي يظهر أنّها بمعنى : أنه عمّر ، وأنه أدرك من المتقدمين ما لم يدركه غيره ، وبمعنى أنه بكر بالطلب وسمع من مشايخ لم يسمع منهم غيره من معاصريه ، ومن أمثلة ذلك الدارمي وهو: عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد وهو معاصر للبخاري ، وقد سمع من يزيد بن هارون ، يقول الحافظ : ولو بكّر البخاري في الطلب لسمع من يزيد بن هارون ، وبعض معاصري البخاري من مشايخه كالإمام أحمد سمع من عبدالرزاق ، يقول الحافظ ابن حجر : ولو بكر الإمام البخاري في الرحلة لسمع من عبدالرزاق ، بل يذكر الخطيب البغدادي أن محدثًا سمع منه البخاري عن عبدالرزاق ، فأراد البخاري أن يرحل إلى عبدالرزاق فتحايل ذلكم الرجل على البخاري وقال: إن عبدالرزاق قد مات ولم يمت عبدالرزاق ، من أجل أن يسمع البخاري منه فإنه يعدّ شرفًا له إذا سمع منه البخاري عن عبدالرزاق وهو أيضًا (أي ذلك الراوي) يعدّ كذّابًا ، فمن بكر في الطلب سمع من شيوخ لم يسمع منهم بعض معاصريه. فالذي يظهر أنّهم يتنافسون في العلو ويجعلونه منقبة ، بل إن أحمد يقول: طلب العلو سنة ، (ويقول أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي رحمه الله ت507 : أجمع أهل النقل على طلبهم العلو ومدحه ، إذ لو اقتصروا على سماعه بنزول لم يرحل أحد منهم) .

 

 

قول ابن معين-رحمه الله تعالى-في سهيل بن عبدالعزيز قال : (لا يجوز في الضحايا) :

يحمل (ليس بشيء) على (ضعيف) ، وهذا هو الأصل عند ابن معين رحمه الله في قوله : (ليس بشيء) ، وقد يطلقها على المقل من الحديث ، وإن كان ثقة ، و (ضعيف) عند ابن معين معناه : ليس بثقة ، وقوله : (لا يجوز في الضحايا) تحمل على أنه ليس بثقة .

 

قول أبي داود في خالد بن عبدالله بن حسين: (كان أعقل أهل زمانه) :

هذه اللفظة بمفردها لا تدل على أنه ثقة ، ويستأنس بحديثه ، فيحيى بن أكثم ، (التميمي وزير المأمون) ، كان من أعقل أهل زمانه ، وكان داهيةً ومع هذا فهو متكلم فيه (لأنه كان من المتكلمين ، ولا أدل على ذلك من أن المأمون استوزره بناءا على نصيحة ثمامة بن أشرس ، كما ذكر ذلك الشيخ محمد الخضري رحمه الله في تاريخ الدولة العباسية ص163 ، طبعة دار المعرفة ، وهو (أي ثمامة) القائل : ثلاثة من الأنبياء مشبهة ، موسى حيث قال : (إن هي إلا فتنتك) ، وعيسى حيث قال : (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : (ينزل ربنا) ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في الحموية ص87 طبعة دار الآثار) ، فهي نفسها لا تدل على أنه ثقة.

 

قولهم في الرجل : (مختلف فيه) :

قول المحدث: (مختلف فيه) يعني أن منهم من يوثّقه ، ومنهم من يضعّفه ، ويحتاج إلى نظر في كلام من وثقه أهو أرجح ، أم من ضعّفه أرجح ، فليس فيه إشعار بأنه حسن أو أنزل من الحسن ، لأن للعلماء اصطلاحات معروفة في راوي الحسن كـ : (صدوق أو لا بأس به) ، ولفظ : (مختلف فيه) و (متكلم فيه) يحتاج إلى أن يقف الشخص على كلام الأئمة الذين اختلفوا في حاله ، فينظر هل الراجح قبوله أم ضعفه ؟ فلا بد من الوقوف على عباراتهم فإن لم يتيسر الوقوف على عباراتهم توقف ، بينما مال الألباني رحمه الله ، إلى أن هذا القول إشعار من قائله بحسن الحديث ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

الحديث رقم (468) في "السلسلة الصحيحة": ((أكثروا من شهادة أن لا إله إلاّ الله)) ، حيث قال الشيخ الألباني : رمز المناوي رحمه الله تعالى لضعفه ، وتقدمه العراقي مبيّنًا لعلته ، قال: فيه موسى بن وردان مختلف فيه ، قال الشيخ الألباني: وفي هذا الكلام نظر من وجوه :

أولاً: أن العراقي قال في ابن وردان: مختلف فيه ، وهذا ليس نصًا في تضعيفه ، بل هو إلى تقويته أقرب منه إلى تضعيفه ، لأن المعهود في استعمالهم لهذه العبارة ، (أي مختلف فيه) أنّهم لا يريدون بها التضعيف ، بل يشيرون بذلك إلى أن حديثه حسن ، أو على الأقل قريب من الحسن ، ولا يريدون تضعيفه مطلقًا ، لأن من طبيعة الحديث الحسن أن يكون في راويه اختلاف وإلا كان صحيحًا .

 

قولهم في الرجل : فلان (على شرط الستة) :

إذا كان من المتأخرين فيظهر أنه يعني أصحاب الأمهات الست ، وإن كان من المتقدمين فلا أعرف ، وشرط أصحاب الأمهات الست مختلف.

 

 

قولهم في الرجل: (عالي الإسناد) :

الأقرب والمتبادر إلى الذهن أنه بكر في الطلب فأدرك شيوخًا لم يدركهم غيره ، وربما كان المقصود أنه يحدث عن أناس لم يدركهم ، فيكون محتملاً لهذا ، ومحتملاً لهذا . والله أعلم .

 

قولهم في كثير من الرجال: (فلان طويل اللحية) :

يقول الشيخ مقبل رحمه الله : عند بعض الأدباء الذين لا خير فيهم أن طول اللحية دليل على خفة العقل ، ونحن إن شاء الله ما نحمل كلام المحدثين على هذا النحو السخيف ، فالله أعلم بمرادهم ، ولعله أيضًا من باب الحيدة عن الجواب الصحيح ، بينما رجح الألباني رحمه الله ، أن فيها غمزا خفيفا ، ومعلوم أن الشيخ الألباني رحمه الله ، كان يرى جواز الأخذ من اللحية مطلقا ، والله أعلم .

 

قول الخطيب رحمه الله ، في ترجمة يحيى بن العريان الهروي : كان محدثا :

 الشيخ الألباني حفظه الله تعالى (والكلام لأبي الحسن ، حفظه الله ، لأن الشيخ رحمه الله كان وقتها على قيد الحياة) ، في حديث: "الأذنان من الرّأس" ساق إسنادًا من "الفوائد المنتقاه" ثم قال: وهذا سند حسن عندي ، فإن رجاله كلهم ثقات معروفون غير ، (وذكر راويا) وقد ترجمه الخطيب ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا ً، غير أنه وصفه بأنه كان محدثًا، فهل هذا يحسن حديثه لذاته؟

 

لا يحسن حديثه لذاته بناءا على هذا القول ، ولكن يستأنس به ، فوصف الراوي بأنه محدث لا يدل على أن حديثه مقبول ، فيجوز أنه محدث وهو ضعيف ، محدث وهو كذاب ، محدث وهو ثقة ، والله أعلم ، فهذا الوصف يشبه إلى حد كبير قولهم في الرجل : حافظ ، فقد يكون حافظا ضعيفا ، وقد يكون حافظا كذابا ، وقد يكون حافظا ثقة .

 

قولهم في الرجل : فلان من المحدثين ، وفلان من الشيوخ :

يعني أنه من الشيوخ الذين ليسوا بأثبات . والله أعلم.

 

قول ابن حبان رحمه الله في راو من الرواة في "الثقات" : ثقة :

يقول الشيخ مقبل رحمه الله بأنه يجب أن ينظر هل وثّقه غيره ممن يعتد به -غير العجلي فإنه متساهل كابن حبان ، فإذا وثقه غير ابن حبان مثل: ابن أبي حاتم، أو البخاري، أو يحيى بن معين، أو يعقوب بن سفيان ، أو ويعقوب بن شيبة أو غيرهم من الأئمة الذين ألّفوا في الرجال فيقبل ، وأما إذا تفرد هو بالتوثيق فقوله : (ثقة) أرفع من مجرد ذكره في "الثقات" ، لأنه قد ذكر في "الثقات" بعض الناس وقيل له من هو ؟ فقال: لا أدري من هو ولا ابن من هو !! ولكن أيحتج به إذا قال: (ثقة) أم نتوقف فيه ؟ وإن كان المعلمي له تقسيم في "التنكيل" فقد قسم من وثقه ابن حبان إلى خمسة أقسام ، إذا لم يوافقه أحد ، أما نحن فنتوقف فيه لما علم من تساهل ابن حبان -رحمه الله- في توثيق المجهولين .

 

قول ابن معين رحمه الله : ثقة :

الأصل في (الثقة) أنّها توضع لمن اجتمع فيه الحفظ والعدالة ، وحديثه ينبغي أن يصحح ، ولكن الشيخ عمرو بن عبدالمنعم حفظه الله ذكر في كتابه: "لا دفاعًا عن الألباني فحسب بل دفاعًا عن السلفية": أن ابن معين قد يطلق لفظة: (ثقة) ، ولا يريد بها إلا إثبات صفة الصدق والعدالة للراوي ، بغض النظر عن الحفظ .

 

قول يحيى بن سعيد القطان : كل من هو عاصم فهو ضعيف :

يرد على ذلك عاصم بن بهدلة ، وعاصم بن سليمان الأحول ، وهو أقوى من ابن بهدلة ، فلا تسلّم له هذه القاعدة.

 

قول ابن معين -رحمه الله- في الرجل: ثقة ، وفي نفس الوقت يقول عنه في موضع آخر : صدوق :

إن علم المتقدم من المتأخر من كلام يحيى بن معين يؤخذ بالمتأخر ، وإن لم يعلم فينظر إلى أسباب كلامه ، فربما قال: ثقة ، وقد قورن بضعيف ، فهو ثقة بالنسبة إلى هذا الضعيف ، وربما قال: صدوق وقد قورن بثقة أرفع منه فقال: صدوق ، فتكون الإجابة كما ذكر صاحب "فتح المغيث" بحسب من قورن به ، بحيث لو سئل يحيى بن معين عن الرجل بمفرده استقر رأيه على أنه صدوق أو أنه ثقة ، فإذا لم يظهر لا هذا ولا ذاك ، أخذ رتبة وسطى وهي: جيد ، ويقال في حديثه : جيد ، أو فلان جيد ، فهي رتبة بين الحسن والصحة .

 

قول الإمام أحمد : (منكر) في الحديث أو في الرجل :

إذا قال في الحديث: (منكر) فهو محمول على النكارة وعلى التفرد ، فقد يتفرد راو من بين سائر الرواة ، وربما أطلق الإمام أحمد النكارة بمعنى التفرد ، حتى ولو تفرد به راو ثقة وهو محتج به مثل قوله في محمد بن إبراهيم التيمي: روى مناكير ، (وهذا ما اعتبره بعض العلماء تشددا من أحمد رحمه الله) ، ومحمد بن إبراهيم التيمي هو حامل لواء حديث ((إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ أمرئ ما نوى)) فهو يرويه عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب ،

فربما يطلقها على الثقة وهو يعني أنه يتفرد بأحاديث ، ولا يعني أنّها ترد ، وهكذا الإمام النسائي -رحمه الله- وربما يطلقها على النكارة التي هي ضد المعروف ، فإذا لم يظهر لا هذا ولا ذاك من تصرفه ، حملت على النكارة التي هي ضد المعروف وتوقّف فيه ، لكن مثل قوله في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي المناكير ، ومن كان على شاكلة محمد بن إبراهيم التيمي فهو يعني أنه يتفرد ببعض الأحاديث ، والتفرد لا شيء فيه إذا لم يخالف من هو أرجح منه ، (وهذا اعتذار جيد عن أحمد رحمه الله) .

 

قولهم في الرجل: متروك :

الصحيح أنه جرح مفسر ، لأنّهم يعنون بأنه متّهم بالكذب أو أوهامه أكثر من صوابه ، وقد توسع بعضهم في غير المفسر فجعل منه كذابًا وقال: إنه جرح غير مفسر ، (ولا أفهم معنى هذه العبارة) ، كما قاله حسين السياغي ، وكما نقله عن محمد بن إبراهيم الوزير من "تنقيح الأنظار" ، وكما في "تدريب الراوي" (ج1 ص306) نقلاً عن الصيرفي.

 

قول الذهبي رحمه الله ، في بعض المتروكين ، وأما هذا الراوي فسمن الحديث فأفسده :

يشير الذهبي رحمه الله بذلك ، إلى تصرف هذا الراوي في متن الحديث ، حيث أضاف إليه ماليس منه ، مع أن أصل الحديث صحيح .

 

وهذه فائدة استفدتها من مشاركة للأخ عبد الرحمن الشامي حفظه الله ، (أحد أعضاء ملتقى أهل الحديث) ، في مشاركة للأخ عصام البشير حفظه الله ، بعنوان : الفوائد المنتقاة من لسان الميزان :

قول أحمد رحمه الله في كوثر بن حكيم (ليس هو من عيالنا) :
"
قال أبو طالب : سألت أحمد عنه فقال : ليس هو من عيالنا ، قال: وكان أحمد إذا لم يرو عن رجل قال: ليس هو من عيالنا متروك الحديث  ".

 

وفائدة أخرى من نفس الفوائد المنتقاة :

قول الكتاني في ترجمة ترجمة إبراهيم بن عمر القصار (ذيل الميزان للعراقي(1/327) ): لم يكن الحديث من صنعته ... اهـ
قال الحافظ: والقدح بهذا إنما يجيء على مذهب أهل التشديد ممن يشترط فيمن يُقبل حديثه أن يكون من أهل الفن ، وقد جاء ذلك عن الإمام مالك ، وعددٍ قليل، ولم يشترط ذلك الجمهورُ ، فإذا كان الراوي ضابطا لما سمعه ، ولا سيما إن كان قديما ، لم يقدح ذلك في مرويه ، ثم إن تعاطى ما لا يعرفه في الكلام على الحديث لم يقبل منه ، وبالله التوفيق.

 

 

وينبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أنه فيما يتعلق بأئمة الجرح والتعديل ، يجب مراعاة الآتي :

المكانة العلمية للقائل ، فالمجتهد في أحكامه على الرجال كابن عدي مقدم على المقلد كأبي أحمد الحاكم  ، الذي ينقل أقوال المتقدمين ، دون اجتهاد منه .

 

تقديم المعتدل على المتشدد ، إذا اختلفا ، فعلى سبيل المثال : علي بن المديني والبخاري والترمذي  ، معتدلون ، بينما أحمد وأبوحاتم وأبوزرعة  ، متشددون ، فيقدم قول الفريق الأول عند الإختلاف (بشرط التساوي في المرتبة العلمية كما سبق) .

 

ثم نبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى أن الدارقطني ، مع إمامته في هذا الشأن ، يحدث له أحيانا نوع من التساهل ، وأما الحاكم  ، فمعتدل في غير المستدرك ، إن لم يتشدد أحيانا ، بينما خف شرطه في رجال المستدرك ، حتى وصف بالتساهل الشديد .

 

ونبه حفظه الله ، إلى أن ما دعا الذهبي  إلى القول بتساهل الترمذي ، هو عدم تحريره لمعنى الحسن عند الترمذي  ، ولذا نص في الميزان على أن غالب تحسينات الترمذي مردودة ، بينما يزول الإشكال إذا ما عرفنا أن الترمذي ، يطلق الحسن ، ويعني به الضعيف ، كما سبق بيان ذلك ، وممن وصف بالتساهل أيضا العجلي ، فقد عرف بالإستقراء ، من تفرده -مع ابن حبان – بتوثيق بعض الرواة الذين لم يوثقهم غيرهما ، أنهما متساهلان ، فهذا عرف بالإستقراء وإلا فلا يعلم أحد من الحفاظ نص على هذا ، كما ذكر ذلك الشيخ مقبل ، والذى لا يوثقه إلا العجلي ، والذي يوثقه أحدهما أو كلاهما قد لا يكون بمنْزلة الصدوق ، و لكن يصلح في الشواهد والمتابعات ، وإن كان العجلي  يعتبر أرفع في هذا الشأن .

 

ونبه حفظه الله ، إلى أن أبا حاتم  أكثر تشددا من ابن معين ، وإن كانت عباراته ألطف ، من عبارات ابن معين  ، التي تميزت بالشدة .

 

ثم تكلم الشيخ السعد حفظه الله ، على مسألة المذهب ، وأثرها في قبول قول الجارح ، وممن نبه إلى ذلك أيضا الشيخ ماهر منصور حفظه الله ، في تحفة المستفيد ، حيث فصل القول في هذه المسألة ، فقال : بأنه يتوقف في قبول جرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الإختلاف في الإعتقاد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

 

ثلب أبي إسحاق الجوزجاني  لأهل الكوفة وذلك لشدة انحرافه في النصب ، (وإن كان الشيخ السعد حفظه الله لم يخرج الجوزجاني  من دائرة علماء أهل السنة ، رغم اتهامه بالنصب) ، وشهرة أهلها بالتشيع ، فنراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة ، وعبارة طلقة ، حتى تكلم في الأعمش ، وأبي نعيم ، وعبيد الله بن موسى وأبي إسحاق السبيعي  ، ولكنه مع ذلك وثقهم ، وقبل روايتهم ، لتمام ضبطهم ، وعلى هذا فجرح الجوزجاني  ، إن عارضه مثله ، أو أكبر منه فوثق رجلا ضعفه قبل التوثيق .

 

عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ ، فإنه من غلاة الشيعة ، بل إنه نسب إلى الرفض (وذكر الشيخ السعد حفظه الله ابن عقدة ، كمثال لهذا الصنف من الأئمة الذين تكلم فيهم لإتهامهم بالرفض) ، فجرح أهل الشام للعداوة البينة في الإعتقاد .

 

وتطرق الشيخ ماهر حفظه الله في تحفة المستفيد ، إلى أنه يتوقف في الجرح الذي يكون سببه المنافسة في المراتب ، فكثيرا ما يقع بين العصريين (أي الأقران) الإختلاف والتباين ، ولذا لم يقبل العلماء كلام مالك في ابن إسحاق  ، وكلام ابن إسحاق في مالك  ، وكلام النسائي  في أحمد بن صالح المصري  ، لما منعه من حضور مجلسه .

 

ونبه الشيخ السعد حفظه الله ، إلى مسألة اختلاف المذاهب العلمية بين أهل السنة والجماعة وأثرها في قبول الجرح أو رده ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تكلم أهل الرأي في أهل الحديث ، والعكس ، فقد تكلم أهل الحديث ، في أهل الرأي لأنهم اشتغلوا بالرأي وعارضوا به السنة ، وينبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن التدقيق مطلوب في كلام أهل الرأي في أهل الحديث قبل قبوله ، لما حدث لهم من تعصب لمذهبهم ، وإنحراف عن أهل الحديث .

 

وقد يتكلم أهل الحديث فيمن وصف بإشتغاله بالرأي ، للتنفير من حاله ، لا ردا لحديثه ، وقد سبق بيان مذهب أحمد  في امتناعه عن الرواية عمن أجاب في فتنة خلق القرآن ، وذلك تعزيرا لهم ، لا ردا لحديثهم .

 

ثم تطرق الشيخ إلى الكلام على  جرح عدالة الرواة الدينية ، فقسم أصحاب البدعة إلى :

أصحاب البدع الغليظة كالجهمية وغلاة الشيعة .

من بدعتهم أخف من الصنف الأول ، وذلك كمرجئة الفقهاء كحماد بن أبي سليمان

 

ثم نبه الشيخ حفظه الله ، إلى أن الداعي إلى البدعة أشد حالا من منتحلها ، وقد فرق بينهما أحمد وجمهور السلف .

ثم رجح أن صاحب البدعة الغليظة الداعي لها تقبل روايته ، وإن روى ما يروج لبدعته ، إذا كان صدوقا في نفسه ، مع التنفير من حاله ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك :

 

تخريج البخاري  لعمران بن حطان الخارجي ، مادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه ، وهذا من أكبر الدعاة إلى البدعة ، وهو القائل في مدح ابن ملجم :

ياضربة من تقي ما أراد بها     إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنى لأذكره يوما فأحسبه       أوفى البرية عند الله ميزانا

 

قول الذهبي  في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي : شيعي جلد ، لكنه صدوق فلنا صدقه ، وعليه بدعته .           

 

توثيق ابن معين  لعباد بن يعقوب الرواجني ، رغم غلظ بدعته .

 

والشيخ السعد حفظه الله ، في هذا الموضع يميل لرأي الحافظين الذهبي وابن حجر في هذه المسألة ، حيث أفصح الذهبي  عن رأيه في قبول رواية الغالي في بدعته ، في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي ، وأما ابن حجر ، فقد نقل عنه السيوطي  في التدريب ، قوله : التحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته ، لأن كل طائفة تدعي أن مخالفتها مبتدعة ، وقد تبالغ فتكفر ، فلو أخذ ذلك على الإطلاق استلزم تكفير جميع الطوائف ، والمعتمد : أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة ، أو اعتقد عكسه ، وأما من لم يكن كذلك ، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه ، مع ورعه وتقواه ، فلا مانع من قبوله ، ويعلق الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحثيث على هذا الرأي بقوله : وهذا الذي قاله الحافظ  هو الحق الجدير بالإعتبار ، ويؤيده النظر الصحيح .

وممن توسع في قبول رواية أصحاب البدع ، بضابط الصدق وعدم استحلال الكذب لنصرة المذهب ، الشافعي رحمه الله ، حيث قال : أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم ، وقال أيضا : ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة ، فمناط رد روايتهم عنده كذبهم ، لا بدعتهم . 



1 – 6/2076 .

==============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الشهادة في أحكام الطلاق

  الشهادة في أحكام الطلاق متي شُرِّعت وما هي قيمتها وكيف تكون؟   الشهادة في أحكام الطلاق متي شُرِّعت وما هي قيمتها وكيف تكون؟  الشهادة...